بقلم الأستاذ
الدكتور عيسى عبده
“آدم سميث” علم في تاريخ الاقتصاد. ولعل هذا ” العلم ” بفتح العين واللام .. قد شغل الدارسين للمادة الاقتصادية أكثر مما ينبغي .. ولكنه مع ذلك يحتل مركز الصدارة بين الأعلام كلها .. ولا ينازعه إلا القليل .. من أمثال “كارل ماركس” وكل راغب في الدخول إلى دراسة الاقتصاد الإسلامي يحتاج في المراحل التمهيدية من دراسته إلى شيء من الإحاطة بالعلامات الكبرى على طريق هذه الدراسات .. سواء كانت هذه العلامات تحدد مراحل التقدم أم كانت دليلاً على العثرات ..
وكذلك يحتاج الدارس الجاد إلى العلم بشيء من الوقائع التي أحاطت بظهور “زيد” و”عمرو” من الأعلام .. وما كان لهذا وذلك من أثر في القدر المختزن من المعرفة بشئون الاقتصاد .. ونحن وإن كنا نرى أن هذا المختزن يضم الكثير من القول المعاد والجدل السقيم .. إلا أن إطراحه جملة لا يصح وبقي على الكاتب أن يأخذ من زحام الفكر الاقتصادي وأحداثه وأعلامه .. بعض النماذج .. وسيرى القارئ أن مادة هذه الحلقة لا تخلو من فائدة لكل مهتم بدراسة الاقتصاد ..
آدم سميث
يقول المحدثون من علماء الاقتصاد في المعسكر الغربي بأن المحاولة الأولى لإرساء الاقتصاد على أسس منهجية صحيحة رتيبة، قد كانت لمدرسة الطبيعيين ثم جاءت خطوة كبيرة في أعقاب هذه المدرسة، وكانت لعلم فرد لا لمدرسة تتالف من العديد من العلماء والكثير المتكامل من الثقافات أما هذا العلم الفرد في قولهم فهو آدم سميث.
يقول ألفريد مارشال بأن آدم سميث لم يكن الاقتصادي الوحيد في العصر الذي عاش فيه وإنما كان يفوق من سبقه ومن عاصره بقدرات طبيعية صقلتها التجارب المكتسبة بالإطلاع وبكثرة الأسفار.
وقبل إن نتابع الكلام عن هذا العلم في تاريخ الدراسات الاقتصادية نشير إلى عبارة أخرى حرص “مراشال” على إبرازها بحكم الأمانة العلمية.
قال “مارشال” بأنه يسلم بأن هذا الاقتصادي البريطاني العظيم قد افترض أو استعار الكثير من أعمال غيره من مواطنيه ومن الفرنسيين، ثم سلم “مارشال” أيضًا بأن الفكر البريطاني والفرنسي قد تأثرا أو أفادا من دراسات قام بها علماء من هولند بدورها.
ونحن “في بحثنا هذا” نتابع عرض الخطوط الرئيسية لهذه الدراسات كما هي مذاعة ومشهورة ولذلك لا نقف طويلاً عند بعض الأمور التي تدعوا إلى مراجعة هذا المذاع، بل نكتفي بالإشارة إلى حرص كتاب الاقتصاد على تقصي المصادر التي عنها أخذ الكاتب أو استعار سواء أكان فعله هذا معلنًا بقلمه أم مكان الأخرى. وفاضت المراجع بالعديد من الأسئلة وإلى هنا لا وجه للمساءلة ولا للاعتراض ولكن طائفة من الحقائق لا يذاع بل يقابل بالسكوت ومن ذلك مثلاً أن آدم سميث معروف بعدد من الإضافات التي جاء بها في دراساته للثروة والدخل وجملة المادة الاقتصادية ومن أشهر ما عرف به تلك القواعد التي أرست التقنين الضريبي على أسس من العدالة تتفق مع الحقيقة الاقتصادية أو تقترب منها. وتعرف هذه القواعد بأنها “قوانين آدم سميت للضرائب” وهي ركن من أركان المالية العامة (فيما بعد) أو اقتصاديات الحكومة قبل فصل المالية عن الاقتصاد كما كانت الحال لعهد آدم سميث وإلى أوائل القرن التاسع عشر.
وأنه ليطيب للباحث العربي ما يطيب لغيره، من الإشادة بفضل الرواد في كل فرع من فروع المعرفة ولكنه من الإنصاف أن نقول .. ومن الأمانة العلمية التي يزعمون .. أن نقرر: بأن هذه القوانين الأربعة التي تنسب إلى يومنا هذا لآدم سميث هي في الحقيقة للقاضي “أبو يوسف” في كتابه المعروف ” الخراج ” وقد عاش الفقيه العربي قبل الكاتب البريطاني بتسعمائة عام .. وما هذا الذي نعترض به سياق الكلام إلا مجرد تنبيه إلى الرجوع إلى تاريخ العلم الإنساني – بوجه خاص – بمزيد من التحقيق والتصحيح!!
وبعد، فالمشهور أن آدم سميث عند الغربيين هو المؤسس الأول للاقتصاد السياسي بعد أن أرضى الطبيعيون قواعده الأولى وارتفعوا بالهدف منه والتزموا في دراستهم بمنهج علمي مقبول .. وقليل من علماء الغرب من يجادل في إسناد هذا المركز المميز إلى آدم سميث .. ومنه هؤلاء “جيفونز” الذي يرى أن الفرنسي “كانتيون” هو الأحق فالصدارة .. بفضل سبقه إلى إصدار مؤلفه القيم عن التجارة 1755 (أي قبل أن يصدر آدم سميث كتابه عن ثروة الأمم بنحو عشرين عامًا).
وعلى الرغم من هذه المحاورات العلمية المستندة إلى حقائق ثابتة .. بقي المذاع المشهور الذي قدمناه عن صدارة لآدم سميث .. ولهذه الصدارة ظروف تاريخية ومقومات علمية نشير إلى كل منهما بإيجاز .. وذلك فيما يلي:
أقام آدم سميث طويلاً بفرنسا .. واتصل بمدرسة الطبيعيين ودخل مع رجالها في مناظرات واطلع على الفلسفة في عصره .. ما كان منها لفرنسيين وما كان منها للإنجليز .. وأحاط بما ظهر في حياته من إضافات قيمة للدراسات الاقتصادية التي أسسها كل من “هيوم” و”ستيوارات” كما أفاد كثيرًا بما نشره “أندرسون” و”يونج” من دراسات علمية لبعض الحقائق الاقتصادية وأضاف إلى هذا الإطلاع نشاطًا في الترحال الكثير مع توثيق الروابط برجال الأعمال الاسكونلانديين.
ثم أن الطبيعة حبته بقدرات غير عادية على الملاحظة والحكم الصحيح على الظاهرات ويرى المؤرخون لأعلام الاقتصاد السياسي أنه أحاط بكثير مما عرفه معاصروه وإنما كان أقدر منهم على عرض مادته حتى وصل في أواخر أيامه إلى جمع أطراف المادة الاقتصادية. ثم إنه كتب أول دراسة شاملة لثروة الأمم بتكوينها المادي وبما يتصل بها من اعتبارات اجتماعية.