الحمد لله واهب النعم، عظيم المنن، مقدر الأعمار، مكور الليل على النهار، خلق كل شيء فقدره تقديرًا، جعل الدنيا دار اختبار لا دار قرار، وجعل القرار في الآخرة جزاءً وفاقًا وعدلاً ورحمة، فإما جنة برحمته لأهل طاعته، وإما نار بعدله لأهل معصيته ومخالفته، وجعل في الدنيا نعمًا يختبر بها العباد ويبتليهم قلة أو كثرة، فكانت سمة غالب المؤمنين التقلل من الدنيا، وسمة الكثير من الكافرين البسطة فيها، ولو شاء لجعل الأمر على غير ذلك وهو سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم في سورة الزخرف: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ(33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ(34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ(35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [ الزخرف: 33 – 36].
والكثير من الناس – إلا من رحم ربي – يفتن بتفاوت حظوظ الدنيا في المال والمتاع والعرض الفاني، فترى الرجل يعبر بلسانه عن أن الله يحبه ويرضى عنه مستدلاً على ذلك ببسطة الرزق، وسعة العيش، وكثرة المتاع أو قوة البدن، وكثرة الأهل والعشيرة والأشياع والأتباع، يظنون أن أكثرهم حظًا في الدنيا هم أقربهم من الله منزلة وأرفعهم درجة، كأنهم يظنون رضوان الله في عطاء الدنيا، وذلك الفهم وحي هوى، ووسوسة شيطان.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة). [ متفق عليه عن أبي هريرة ].
وفي حديث أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجد محبوسون..).
ومعنى الجد: (الحظ والغنى)، ومحبوسون: أي لم يؤذن لهم بعد بالجنة ليدخلوها.
وهذا صاحب سورة الكهف يقول لصاحبه: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا(34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا(35)وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) [ الكهف: 34 – 36].
وهكذا كانت مقاييس الناس في الجاهلية: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ، ويقول سبحانه: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا(90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ) – إلى قوله تعالى -: ( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) [ الإسراء: 90 – 93].
وكذلك كان شأن فرعون، فيقول عن موسى عليه السلام (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ(51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ(52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) [ الزخرف: 51 – 53].
وكذلك قال الكافرون عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7)أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) [ الفرقان: 7، 8 ].
وهذا من عمل الشيطان، فإنه لما عصى ربه طرده ولعنه، فسأل ربه العمر الطويل، فقال: ( رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [ ص: 79]، وقال وهو يوسوس لآدم: ( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) [ الأعراف: 20]، وقال: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) [ طه: 120].
فهذه الحظوظ الدنيوية التي يتنافس الناس فيها والشيطان يزاحمهم فيها: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا).
وإن أهل المعاصي وإن نالوا لذة عيش في الدنيا أو أدركوا أمنية منها فليست عليهم نعمة، بل قد تكون استدارجًا، ففي الحديث: (إذا رأيت الله تعالى يعطي العباد ما يشاءون على معاصيهم إياه فإنما ذلك استدارج منه لهم)، ثم تلا: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [ الأنعام: 44].
وقال قتادة: (ما أخذ الله قومًا إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون)، وفي حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إذا أراد الله بقوم بقاءً أو نماءً رزقهم القصد والعفاف، وإذا أراد الله بقوم اقتطاعًا فتح لهم باب خيانة: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [ الأنعام: 44].
أما أهل الإيمان فإن سعيهم وفرحهم وتنافسهم إنما هو في تحصيل خيرات الآخرة، فيقول سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ(57)قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [ يونس: 57، 58].
ويقول سبحانه: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
فأهل الإيمان يعلمون أن الطاعة سبب نعيم الدنيا، وأن المعصية سبب الضنك فيها إيمانًا منهم بقول الله سبحانه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11)وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [ نوح: 10 – 12].
ويقول سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ(97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ(98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [ الأعراف: 96 – 99].
وإن من جميل البيان لهذه البركات والباعث على الطمأنينة بذلك ما جاء في (سنن أبي داود من كتاب الزكاة باب صدقة الزرع قال أبو داود: (شبرت قثاءة بمصر ثلاثة عشر شبرًا ورأيت أترجة على بعير بقطعتين قطعت وصيرت على مثل عدلين).
فانظر كيف أن أبا داود – رحمه الله – أراد أن يشير أن إخراج الزكاة سبب الزيادة والنماء والخير، فكانت القثاءة ثلاثة عشر شبرًا والأترجة يحملها البعير على جانبيه.
لذا فإن المؤمن هو الذي ينظر للآخرة ويتخذ الدنيا لها مزرعة، أما الكافر يطلب الدنيا وليس له في الآخرة من مطمع ولا نصيب.
فاللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وارزقنا القناعة والغنى والعفاف.
والله من وراء القصد.