بقلم الأستاذ: مصطفى برهام
سكرتير فرع أنصار السنة المحمدية بالمحلة الكبرى
ومن مظاهر فسادهم أيضًا أنهم وراء إشعال الفتنة والحرب في كل مكان تثور فيه فتنة أو ينشب فيه قتال – لأنهم المستفيدون من وراء إشعال نار الحروب ماليًا واقتصاديًا – وقد ربحوا من الحرب العظمى الأولى (وعد بلفور) وربحوا من الحرب الثانية تحقيق ذلك الوعد .. وهكذا .. فهم الموقدون لكل حرب، المسعرون لكل فتنة.
يقول اللَّه تعالى عنهم: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} الآية [المائدة: 64].
ثم ننتقل إلى تمردهم وعتوهم وكفرهم وأظهر ما يمثله ذلك ما فعلوه مع نبيهم موسى عليه السلام بعد أن قادهم في عزة وقوة ليخرجهم من ذلتهم واستعباهم، وعبر بهم البحر بعد أن فرقه الله له، وشق له فيه طريقًا يبسًا، وشاهدوا تلك المعجزة الفريدة بأعينهم، ولكنهم صنعوا معه ما يصنعه عدو، فبعد نجاتهم وغرق فرعون وجنوده ومياه البحر لا تزال تبلل أقدامهم من أثر تلك المعجزة الخارقة، إذا بهم يجدون قومًا في الجانب الذي خلصوا إليه عاكفين على أصنام لهم، قالوا: يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون. ثم يتجمعون بعد أن يتوبوا من ذلك الكفر ويذهب موسى لميقات ربه ليتلقى شريعة التوراة، حتى يتميز الشعب اليهودي ويصبح شعبًا له قوانينه ونظمه ليتخلص من التقاليد والانحراف، والأوضاع التي كانت سائدة فيه، ولا يكاد موسى يوليهم ظهره حتى يتخذوا العجل من بعده إلهًا من دون اللَّه {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ}.
وتنتهي هذه المحنة لنأتي محنة أخرى هي عدم التزامهم بأوامر التوراة، حيث قالوا سمعنا وعصينا، ويرفع الله الجبل فوق رءوسهم كأنه سيقع عليهم تخويفًا وتهديدًا لهم كي يأخذوا بشرع الله بما ينبيغ له من احترام وقوة حتى إذا ما أعاد الله الجبل مكانه عادوا إلى تمردهم وعصيانهم: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْخُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 148].
ثم إذا بهم يتمردون على رزق الله الذي رزقهم المن والسلوى طعامًا لهم، ويطلبون من موسى أنواعًا رديئة من الطعام ويتمثل ذلك في قول الله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ. وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [الأعراف].
ونطوي هذه الصفحات المخزية من حياتهم في عهد موسى عليه السلام الذي كانت آخر كلماته قبل أن يموت متبرئًا إلى ربه شاكيًا إليه صنيعهم {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} [البقرة: 60، 61]، وفرق الله بينه وبينهم واختاره إلى جواره بعد أن صنعوا معه من المخازي والمآسي ما يهبط بهم من قمة الإنسانية إلى الدار الأسفل من الحيوانية.
في عهد عيسى عليه السلام:
وتمضي بنا السنون لنصل إلى آخر نبي من أنبيائهم وهو عيسى عليه السلام الذي جعله الله آية في خلقه وآية في حياته وآية في نهايته: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} [المؤمنون: 5]، وذلك لكي يعتبروا، ويتركوا عنادهم وعتوهم ولجاجهم، أمام تلك المعجزة الكبرى معجزة ميلاد المسيح التي تلين أمامها أقسى القلوب، ولكنهم كفروا به، ورموا أمه العذراء البتول الطاهرة بكل نقيصه، وبرأها الله من كل تهمهم، وأثبت طهارتها وبراءتها، واتهموه بأنه ابن غير شرعي وأنه ساحر – وكانوا قد وصلوا في هذه الفترة إلى مستوى هابط من الأخلاق، فالمادية كانت قد استولت على نفوسهم وقلوبهم، وأصبح الإيمان بالله مجرد مظهر، ولم يعودوا يتمسكون بالتوراة، بل زيفوها وحرفوها حسب أهوائهم وشهواتهم، وأراد عيسى أن ينقذهم من ضلالهم فدعاهم إلى التمسك بشريعة الله وبالمحبة والرحمة، ولما لجوا في قسوتهم أراد أن يسمو بهم وكانت تعاليمه: ((من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر .. ومن نازعك رداءك فأعطه ثوبك .. ومن سيرك ميلاً فسر معه ميلين)). ورغم كل ذلك لم يؤمن به إلا اثنا عشر رجلاً هم الحواريون {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52].
بل إن هؤلاء الحواريين أنفسهم تتملكهم روح اللجاج في فترة، فيسألون عيسى u على طريقة اليهود {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ. قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءتَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 112 – 114].
ويحتدم غضب اليهود على عيسى فيرفعون أمره للحاكم الروماني بقصد التخلص منه بتهمة أنه يحاول إفساد الأمة وأنه يحرض على منع إعطاء الجزية للحاكم الروماني بحجة أنه وثني وأنه يدعي أنه ملك بني إسرائيل جاء ليمسح الأرض كلها بالبركة ويخلصهم من ظلم الرومان .. وتنعقد المحكمة الرومانية ويشهدها اليهود، ولا تستطيع المحكمة إدانته، ويقف الحاكم الروماني معلنًا وهو يغسل يديه بالماء. (أنا بريء من دم هذا الطاهر البريء فهو نظيف مثل نظافة يدي هاتين)، ولكن الشعب اليهودي يصيح (اقتلوا الكذاب .. اقتلوا الدجال. دمه على رءوسنا)، ويستمر صياحهم ماعدا الحواريين .. ويضطر عيسى عليه السلام إلى الاختفاء في مكان لا يعرفه غير الحواريين، ويخونه يهوذ أحد الحواريين، ويدل اليهود على مكانه، مقابل خمس دراهم، وينجيه الله من شرهم، ويلقي شبهه على الخائن فيقتل مكانه: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم}.
في عهد خاتم الأنبياء والمرسلين:
ونطوي مأساة هذا الشعب مع عيسى عليه السلام كما انطوت مأساتهم من قبل مع موسى عليه السلام، لنصل إلى عصر خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، المأساة هي المأساة، والمعركة هي المعركة، واليهود هم اليهود، أحقادهم كأحقاد أسلافهم، وأخلاقهم كأخلاقهم، كيد وغدر، وكفر وخيانة. كل ذلك مع النبي الذي أحسن إليهم، وأكرم جوارهم، ووفي بعهده لهم، وذكرهم بأحسن الذكر وهو يتلو عليهم كتاب الله المنزل عليه من السماء: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا. وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا. وَوَهَبْنَا لَهُ مِنرَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 51 – 53]، ويذكر توراتهم بأحسن الذكر فيقول: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} [المائدة: 44].
كما يذكر الأطهار من قوم موسى بخير: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}، وفي آيات آخرى: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}، وكذلك {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
أي تمجيد بعد هذا التمجيد، وأي ذكر أحسن من هذا الذكر، ثم يعقد النبي معهم معاهدة حسن جوار يمكن أن تكون دستورًا للأمم جميعًا، وقمة العلاقات الإنسانية في روعتها وعظمتها، فقد تمنهم على عقائدهم ومواريثهم وتقاليدهم وحرياتهم وأموالهم وحقوقهم، وتعبر هذه المعاهدة في عرف المنصفين من رجال التاريخ آية من آيات السياسة والعلم والأدب، ورغم كل أولئك فما كاد الإسلام تعلو كلمته، ويظهر سلطانه حتى بدت البغضاء من أفواهم وما تخفي صدورهم أكبر، وتحولت علاقتهم بالمسلمين إلى صراع، أعلنوا من خلاله الحرب الاقتصادية على الرسول وأتباعه من المؤمنين، وكانت محنة خطيرة، قاسى منها الرسول والذين هاجروا معه وتركوا أموالهم وديارهم ومتاعهم قاصدين المدينة، وهم خلو من كل شيء إلا الإيمان والتقوى، وكان اليهود خلال تلك الفترة هم ملوك الاقتصاد في المدينة، في يدهم الثروة، وفي يدهم الزراعة، وفي يدهم التجارة، وصمد الرسول وصحبه لتلك الحرب الاقتصادية الضروس .. وأمكنه أن يفتح أسواقًا جديدة، حطمت الحصار الاقتصادي اليهود الرهيب.
صورة أخرى من صور جرأتهم على الله وكفرهم به يوم فرضت الزكاة .. وخرجوا بمعادلة مؤداها أن الله فقير وهم أغنياء، ويتوعدهم الله بقوله: {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءسَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}.
وإلى العدد القادم إن شاء اللَّه.