بقلم الأستاذ / أحمد علي درويش
الباحث القانوني ووكيل فرع إمبابة
الإسلام يهيب بمعتنقيه أن يكون ذا ضمير يقظ، تصان به حقوق الله تعالى وحقوق الناس، وتحرس به الأعمال من دواعي التفريط والإهمال، ومن ثم وجب على المسلم أن يكون أمينًا.
والمتتبع لمادة الأمانة يجد أن الفعل أمن – كفهم – فأمن صاحبه وأمنه على ماله بمعنى وثقه، ومصدره الأمانة ضد الخيانة، وكذلك نجدها بمعنى عدم الخوف: أمن أمنًا وأمنه فهو آمن، جعل له الأمن، وآمن يؤمن إيمانًا أذعن وصدق – ومعاني المادة كلها ترجع إلى الوثوق والاطمئنان، والأمين هو الثقة المؤتمن. [معجم ألفاظ القرآن الكريم – إعداد مجمع اللغة العربية ص 55 ج 1].
وليست الأمانة – كما يفهم بعض الناس – هو الوديعة وحدها، وإنما هي صورة عديدة: مادية، وأدبية، ومحسة، ومعنوية.
ولكنها أداء واجب المسئولية التي يحملها المؤمن إزاء نفسه، وإزاء غيره .. مسئولية الوظيفة العامة .. مسئولية الوفاء بالعهد .. مسئولية الإخلاص في المشورة .. مسئولية الأسرة في حفظها ورعايتها – فهي تغطية جميع الالتزامات الناشئة عن قبول، أو التي تترتب على مضمون الإيمان باللَّه. [كتاب توجيه القرآن الكريم في الإيمان للأستاذ الدكتور محمد البهي ص 37 طبعة سنة 1969].
وعلى ذلك فإن الأمانة في نظر الإسلام واسعة الدلالة، وترمز إلى معان شتى مناطها جميعًا شعور المرء بتبعة كل أمر يوكل إليه، وإدراكه اليقيني بأنه مسئول عنه أمام اللَّه سبحانه وتعالى.
فإذا أمر اللَّه تعالى بأداء الأمانة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} النساء: 58. فإن المقصود بذلك صنوف الالتزامات المختلفة التي تسلتزم الأداء، والتي ينشأ عن أدائها تبادل الثقة بين المؤمنين واستقرارها في نفوسهم، وليس النوع المادي وحده الذي قد يعرف باسم الوديعة أيضًا كما وضحنا.
ومدلول الأمانة بهذا الشمول والعموم قد قداء في قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً} الأحزاب: 72.
فإن الأمانة هي التكاليف والحقوق المرعية التي أودعة اللَّه المكلفين وأئتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد وأمرهم بمراعتها وأدائها، والمحافظة عليها من غير إخلال بشيء من حقوقها.
وقد جاء في الحديث الشريف: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله في أهله مسئول عن رعتيه، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته)). رواه البخاري.
ويقول الله تعالى في وصف المؤمنين الذين كتب لهم الفلاح: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} [المؤمنون]، والعهد والوفاء به صورة من صور أداء الأمانة كما أسلفنا. وفي تعبير القرآن هنا وفي سورة النساء عن الأمانات بصيغة الجمع يؤيد أنها صورة عديدة في المسئوليات العامة والخاصة، وأنها التزامات متنوعة يلتزم بها المؤمن طبقًا لإرادته الحرة ولمشيئته الإنسانية التي دخل بها الإيمان وارتبط بنتائج إيمانه في علاقاته العديدة مع غيره.
وبضميمة الآيات السابقة والحديث الشريف نصل إلى المعنى الشامل الواسع للأمانة في الإسلام على ما توضح.
ولما كان الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم – هم النموذج الأعلى للبشرية والقمم العالية التي يتطلع الناس للسير على منهاجهم، فقد فطرهم الله تعالى على خصال تؤهلهم للقيام بأعباء الرسالة والاضطلاع بمهام التبليغ والتوجيه، وهم يختارون من أشرف الناس طباعًا وأزكاهم معادن وأعلاهم صفات. وكان من بين أوصافهم الأمانة لنتأسى بهم ولنطبع نفوسنا على أوصافهم ونوطنها على خصالهم.
والقارئ للقرآن الكريم بقلب واع يجده في ثانيا سوق قصة نبي من الأنبياء مع قومه يصفه بأنه أمين ويبلغ الرسول الرسالة ويخبر الناس بأمانته.
فهذا هود عليه السلام يعلم قومه بأنه رسول رب العالمين ويقول القرآن عنه {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)} [الأعراف: 68]، فهو ينبههم إلى خلوص النية للنصح لهم وأنه ثقة مؤتمن على رسالات الله تعالى حتى يكون ذلك أدعى إلى قبولهم الإيمان.
وها هو موسى عليه السلام قبل الرسالة شوهدت مخايل الأمانة وعلامات القوة عليه حين سقى لابنتي الرجل الصالح، فرفق بهما وكان عفيفًام قدرًا لأنوثتهما مما حمل أحدى ابنتي الرجل الصالح أن تشير على أبيها أن يستأجره لصفاته التي أنستها فيه: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}، فكانته قوته التي زاحم بها الناس وأمانته التي ظهرت فيه بالعفة والاحترام مسوغًا لاستئجاره، فكان ذلك يدل على أنه ثقة مؤتمن على كل ما يوكل إليه ويناط به.
وكذلك أخبر نوح عليه السلام عن نفسه في مقام تبليغ الرسالة بأنه أمين عليها، أمين فيما بينهم، وكانوا قد عرفوا أمانته وصدقه قبل الرسالة فأخبرهم أنه أمين بعد الرسالة فيما يبلغه عن الله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)} [الشعراء: 107].
كما أخبر صالح عليه السلام بأمانته {إني لكم رسول أمين}، كذلك كان لوط وشعيب عليهما السلام وكل المرسلين من لدن رب العالمين وموسى عليه السلام كما وصف بالأمانة قبل السرالة وصف بها بعدها في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان: 16، 17]، كما وصف جبريل عليه السلام بأنه أمين {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} [الشعراء: 193].
وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة يوصف بين قومه بالصادق الأمين.
مما تقدم يتبين أن الأمانة كفاية وأهلية لتولي بأمر من الأمور! ومن مقتضياتها وضع الشخص في المكان الجدير به واللائق له فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيقي به، ولا يملأ وظيفة إلا بالرجل الكفء الذي ترفعه كفايته إليها. [كتاب خلق المسلم للأستاذ محمد الغزالي طبعة سنة 1964].
واعتبار الولايات والأعمال العامة والتكليف بأداء عمل بالمعنى الذي أوضحناه أمانات، أمر يقتضي منا أن تصطفي للأعمال أحسن الناس قيامًا بها، فإن رغبنا عنه إلى غيره لغرض أو قرابة فقد ارتكبنا خيانة عظمى بتحية القادر وتولية العاجز، كذلك الأمر يقتضي على الكفء أن يخبر بمظاهر كفاءته وقدرته حتى لا تصبح المناصب نهبًا لغير أهلها. ألم تر في سياق قصة صليمان عليه السلام مع ملكة سبأ إذ طلب من جنوده أن يؤتى بعرشها قبل أن تأتيه وقومها مسلمين: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلاَ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}، فهذا العفريت من الجن يقدم نفسه للمهمة وبخر عن أهليته لها بأنه قوي على حمل العرش أمين مؤتمن على ما يحتويه.
وفي قصة يوسف عليه السلام بعد أن تبين للعزيز براءته ونزاهته وأمانته نجده يطلبه وزيرًا له يستعين به في تدبير الأمور ويخبره بين الأعمال {إنك اليوم لدينا مكين أمين}، فيوسف صاحب منزلة لديه فهو متمكن نافذ القول لأمانته التي وضحت – فهذا اصطفاء من العزيز ليوسف لعفته ونقاوته – وهنا طلب يوسف عليه السلام لنفسه وظيفة إدارة شئون المال والاقتصاد وسأل ولايتها بالحفظ والعلم {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} ولم يطلبها للنسب أو الحسب، ولم يقل إني حسيب كريم باعتبار أنه ابن نبي، وإنما سألها للحفظ والعلم فهو حفيظ لما ولي عليه يرعاه وهذه أمانته، عليم بوجوه تصريف الأمر المولى عليه خبير بما يصلحه فهو جدير به وهذه كفاية.
ومن هذه الآية نستدل أنه يجوز أن يخطب الإنسان عملاً أهلاً له. [تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ج 9 ص 316 طبعة سنة 1967 دار الكتاب العربي].
وله أن يخبر بصفاته التي يستحق ولاية العمل بها من العلم والكفاية والأمانة، وليس هذا ممنوعًا في الشريعة ولا يصطدم الخطر الوارد في طلب الولاية ولا يكون داخلاً تحت النهي عن تزكية النفس في قوله تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} إذ أن يوسف عليه السلام إنما طلب الولاية لنفسه لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإحسان والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فقد رأى أن ذلك فرض متعين عليه عند عدم وجود من يصلح، وهكذا الحكم اليوم، فلو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه ووجب أن يتولى الأمر ويسأل ذلك ويخبر بصفاته التي يستحق بها الولاية من العلم والكفاية وغير ذلك، كما كان من يوسف عليه السلام، وأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم الإنسان بذلك فالأولى ألا يطلب مادام هو غير كفء.
من كل ما تقدم تبين لنا أن الأمانة كفاية وتأهيل علمي وعملي وهي فريضة يجب على المسلمين أن يتواصوا بحفظها ورعايتها.
إذ الأمانة التي لا أمانة فيها هي الأمة التي تلعب فيها الشفاعات والوساطات والقرابات بالمصالح المقررة وتطيش الأهواء بأقدار الرجال الأكفاء لتهملهم وتبعدهم، وتقدم من دونهم وتدنيهم، وقد أرشدت السنة النبوية الشريفة إلى أن هذا من مظاهر الفساد الذي سوف يقع في آخر الزمان … ((فقد جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: متى تقوم الساعة؟ قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال: فكيف أضاعتها؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)). رواه البخاري.
فماذا يكون سلوكنا بعد أن علمنا أن الأمانة من أوجب الواجبات وأنها من صفات الأنبياء والمرسلين والمؤمنين الصالحين الذين كتب الله لهم الفلاح في الدنيا والآخرة، ماذا علينا إلا أن نولي أمرنا الأمين العليم والحفيظ والقوي والمكين الذي يقدر الأمر قدره حتى تنجو ويتحقق النصر بإذن الله.