أما لهذا اللهو من آخر

بقلم حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ / محمد الغزالي

ما أشأم العصيان وأوخم عقباه! إنه قاتل للأفراد والأمم على سواء.

ولست أعني بالعصيان كبوة الجواد وهو ماض إلى غايته راكضًا لا يكسل، عازمًا لا يهن، مبصرًا لا يعمى، كلا فلكل سائر جاد عثرة أو عثرات لا تضيع مرءوته، ولا تسقط مكانته!!

وإنما أقصد بالعصيان استمراء الانحراف، وإيلاف الشهوات وانفكاك العزيمة، وموت القلب!

هذا اللون من الحياة الظالمة المظلمة هو الذي ينتهي بالحضارات إلى التفسخ وبالأفراد إلى البوار، وبالبلاد وأهليها إلى متالف الغضب الإلهي. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.

وجماهير غفيرة من أهل أوربا وأمريكا يعيشون في سكرة موصولة، وإن كان لا ينتهي لهم كدح، ويفتنون في الملذات، وإن كانوا كذلك يفتنون في الكشوف العلمية والكونية…

وعندما ألمح بشاشة الترف في حياتهم أقول: استغلوا تفوقهم المادي والأدبي واغتصبوا خيرات العالم المختلف! فلما تراكمت النعم من فوقهم ومن تحت أرجلهم عاشوا على ذلك النحو! ما تلبسه المرأة في الصباح غير ما تلبسه في الأصيل، وللسهرة ثوب غير ثوب النهار وغناهم الفاحش من ثروات الضائعين يتيح لهم المزيد مما يشتهون.

لكن عجبي لا ينقضي من الخاصة والدهماء في البلاد المختلفة، ما حرصهم على تقليد أولئك الناس في فنون اللذة التي يخترعونها؟

لماذا تصر النساء على أن تكون ثيابهن في هذا الفصل غيرها في الفصل السابق من العام، مع أنهن يعشن في بلاد فقيرة إلى التقدم، محتاجة إلى ما يعينها على الجد والانطلاق.

إذا كان الاستعمار العالمي قد مكن الأمم الغالبة من التشبع والسرف فما معنى أن تتكالب الأمم المغصوبة المحروبة على استيراد تقاليد الفساد من هنا وهناك؟

إن للمعاصي وجهين دميمين: أحدهما قيمتها عند اللَّه، فإن اللَّه يكره أن يجحد وينسى، وأن يهيم عباده وراء نزواتهم القريبة والبعيدة غير مؤدين له حقًّا ولا موفين له بعهده، إن العقاب الذي ينتظرهم عدل، ويومئذ يسمعون قول الحق: {ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ. ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}.

أما الوجه الآخر فهو أثر هذا التحلل في المجتمعات البشرية، إنه يستتبع كارثة قومية مدمرة، ويكاد – في نظري – يمثل خيانة وطنية للأرض التي نعيش فوقها والجماهير التي تضطرب بينها.

ومنذ أيام قرأت كتابًا عن الجاسوسية ومغامراتها فشعرت بأن افتضاح الأسرار وانكشاف المخبوء إنما يعود إلى ميل بعض الناس إلى معاقرة الخمر ومعاشرة النساء.

إن السكر والزنا ليسا قذارات فردية فقط، بل وسائل طيعة لقتل الأمم، وتسليم مقدراتها لخصومها.

ولو عقلت الأمم العربية كلها لاعتبرت الدعوة إلى اللهو – وأحوالها ما نعلم – جريمة خلقية وسياسية معًا ولاعتبرت توهين الإيمان خيانة لله والناس، وتخريبًا للمستقبل والحاضر جميعًا.

إنه باسم الفن تثور في كياننا براكين مدمرة، ومن عشرات السنين ونحن نرفع عقائرنا بالتحذير دون جدوى.

وقد أثبت هذه الخاطرة لي من ربع قرن في كتابي ((موكب الدعوة)) أعود إلى ذكرها، علم العرب والعجم والإنس والجن أنه كان للمسلمين ملك طويل عريض في ديار الأندلس عمرت به حينًا، ثم حرمت منه وحرم منها، وانطوت بطون التاريخ على ذكرياته الحلوة والمرة! وقد يحدث أن ينبش المسلم الثري عن رفات هذا التاريخ المدفون، فإذا هو يطالع من أبنائه ما يذكر بقول القائل:

أبك مثل النساء ملكًا تولى  لم تحافظ عليه مثل الرجال

ولكن الأستاذ الأديب محمد إسعاف النشاشيبي – جزاه اللَّه – لا يرى بعد أن يطالع التاريخ الأندلسي البكاء مع النساء، بل يرى الرقص مع النساء ويقول: (الرقص شيء حسن لا يجادل في حسناته وفضائله مؤمن)!!

وطبيعي أنه يقصد بالإيمان شيئًا آخر غير الإيمان باللَّه ورسوله، أي غير الإيمان بالإسلام وفضائله وحسناته، فلما أعوذته الشواهد على صدق رأيه ذهب إلى كتاب ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) لينقل لنا صورة من صور الخلاعة والتهتك الذي جنح إليه بعض الأمراء والوزراء الأندلسيين في عصور انحطاطهم وتحللهم الذي لم يزل بهم حتى أحلهم دار الهوان، ذهب الأستاذ الأديب إلى كتاب ((نفح الطيب)) فأخرج منه القصة الآتية:

((كان المنصور بن أبي عامر (سلطان الأندلس) قد عزم في يوم على الانفراد، فأمر بإحضار من جرى رسمه من الأدباء والندماء وأحضر الوزير (أحمد بن شهيد) في محفة لنقرس كان يعتاده وأخذوا في شأنهم.

فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله، وطما الطرب، وسما بهم حتى تهايج القوم ورقصوا وجعلوا يرقصون بالنوبة حتى انتهى الدور إلى ابن شهيد فأقامه الوزير أبو عبد اللَّه بن عباس، فجعل يرقص وهو متوكئ عليه، ويرتجل، ويومئ إلى المنصور وقد غلبه السكر:

هاك شيخًا قاده عذر لكا  قام في رقصته مستهلكا

لم يطق يرقصها مستثبتًا  فانثنى يرقصها مستمسكا

عاقه عن هزها منفردا  نقرس أختي عليه فاتكا

من وزير فيهم رقاصة  قام للسكر يناغي ملكا

أنا لو كنت كما تعرفني  قمت إجلالاً على رأسي لكا

قهقه الأبريق مني ضاحكا  ورأى رعشة رجل فبكى

ونحن نذكر القصة آسفين، ليرى القارئ في ثناياها أطراف مأساة كابية تصرخ بأسرار الانهيار الذي أصاب بناءنا وتفصح عن أسباب الهزيمة التي طوت عن هذه البقاع أعلامنا.

وقد كان المظنون بكل مؤرخ مسلم إذا عرض لهذه المخازي أن يثير بها شتى العبر وأن يجعل من توجيهها دروسًا تنفع الأمة في حاضرها ومستقبلها.

لا أن يذكرها على سبيل الاحتجاج لمحاسن الرقص وفضائله، ثم يدعو الناس إلى الاقتداء الأثيم بملوك ذلك مسلكهم، ووزراء هذا عملهم، يعاقرون الخمر! ويهيجون للرقص، ولا يجوز أن يشيع المسلمون سيرتهم إلا بالأسى واللعن…

ثم هم لم يكونوا – بعد – شيئًا طائلاً في المحافظة على دينهم، أو المحافظة على دنياهم، حتى سئم المتنبي أبهتهم الكاذبة وألقابهم الفارغة، وصد عن الذهاب إليهم قائلاً أبياته المشهورة:

مما يزهدني في أرض أندلس  ألقاب معتصم فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها  كالهر يحكى انتفاخا صولة الأسد

والعجب في أمر كاتب مقال الرقص أن يذهب إلى كتب السيرة ليروي منها كيف أن الأحباش رقصوا في المسجد كأن المساجد صالات تتلوى فيها البطون والظهور، فيسوغ لنا أن نذكر ما حدث فيها بين يدي الرقص الأندلس المخمور!! أو كأن الألفاظ وسيلة للتلبيس على العقول وتضليل الناس. عن الرقص الذي شهده الرسول والذي لم يكن في الحقيقي غير عرض عسكري طريف.

ماذا على الناس لو أراحوا الدين من عنت الأهواء الجامحة؟

فإذا أرادوا العصيان لم يلجئوا إليه بفتوى تشرعه.

ثم لنا أن نتساءل: هل الجو الذي يعيشه المسلمون الآن في غيومه ورجومه يتحمل هذا اللغو من الكلام؟

ألا فليطمئن الكاتب الراقص! فإن المسلمين الآن جميعا يرقصون، ولكن كما يقول القائل:

لا تحسبوا رقصي بينكم فرحًا  فالطير يرقص مذبوحًا من الألم

إننا نكتب هذه السطور وآخر ما قرع آذاننا من فواجع مئات القتلى من المسلمين في جزائر الفلبين، اغتالهم الفتانون من لصوص العقائد فذهبوا إلى اللَّه ضحايا الظلم المنظم، وضحايا ما أصاب المسلمين من خور في القوة وتطلع إلى الشهوة.