العناصر :
- 1- مقدمة.
- 2- طرق استقبال شهر رمضان والاستعداد له.
- 3- حال السلف في استقبالهم لشهر رمضان.
مقدمة: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعد: فنحن مقبلون على شهر ٍ عظيم يتزيّن الكون لاستقباله وتنبض القلوب فرحاً وشوقاً للقائه.. حتى من أولئك المفرطين نرى ذلك الفرح يغمرهم وينطق سروراً على محيّاهم ، شهر هيأ الله الكون كله لاستقباله..فتزيّنت الجنة لأهلها وفتّحت أبوابها شوقاً لهم وفرحاً بأعمالهم.. والنار قد غلّقت أبوابها..والشياطين قد صفّدت لكي تكف ّعن الوسوسة والصد عن سبيل الله.. والقعود لأهل الطاعة في طريقهم ،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ ".([1])
" قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين من أين يشبه هذا الزمان زمان."([2]) وهكذا كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يزف لأصحابه البشرى بقدوم رمضان.. إنه الحبيب الذي طال انتظاره، لقد استبد الشوق بالقلوب، وإن لقدوم الحبيب الغائب لفرحة ما أروعها من فرحة.. إنه الحبيب وقد علمنا بموعد قدومه وأن موكبه في الطريق إلينا. فيا ترى كيف كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستعد لهذا الموكب الكريم؟
● طرق استقبال شهر رمضان والاستعداد له :
بداية من هو شهر رمضان؟
هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] ويكيفه هذا شرفا وفضيلة. فضَّل الله تعالى شهر رمضان على كثير من الشهور و جعله أفضل شهور العام ففرض فيه الصيام و أنزل فيه القرآن و فيه تُغفر الذنوب و يعتِق الله عز و جل من يريد من النار و هو شهر البركة و شهر الأرحام , و فيه ليلة هي خير من ألف شهر كان الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكذا أصحابه يستعدون لاستقبال شهر رمضان فكيف نستعد نحن لهذا الشهر؟
1- الاستعداد بتذكر وتدبر فضائل هذا الشهر : فنقرأ قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183].
" يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرا لهم بالصيام، وهو: الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله -عز وجلَ-، لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة. وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أسوة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك، كما قال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات} [المائدة: 48] ؛ ولهذا قال هاهنا: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان؛ ولهذا ثبت في الصحيحين: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".([3]) ونتدبر قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ربه في الحديث القدسي : " قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ". ونتأمل في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ» ثم قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :" لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ " متفق عليه. ففي هذا الحديث فوائد عديدة فمنها :
"أ - أن الله سبحانه وتعالى جعل الصوم له وعمل ابن آدم الثاني -أي غير الصوم- لابن آدم يقول الله تعالى: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي".والمعنى أن الصيام يختصه الله سبحانه وتعالى من بين سائر الأعمال لأنه -أي الصيام- أعظم العبادات إطلاقا فإنه سر بين الإنسان وربه لأن الإنسان لا يعلم إذا كان صائما أو مفطرا هو مع الناس ولا يُعلم به نيته باطنة، فلذلك كان أعظم إخلاصا فاختصه الله من بين سائر الأعمال قال بعض العلماء: ومعناه إذا كان الله سبحانه وتعالى يوم القيامة وكان على الإنسان مظالم للعباد فإنه يؤخذ للعباد من حسناته إلا الصيام فإنه لا يؤخذ منه شيء لأنه لله -عز وجلَ- وليس للإنسان وهذا معنى جيد، أن الصيام يتوفر أجره لصاحبه ولا يؤخذ منه لمظالم الخلق شيئا.
ب- ومنها أن عمل ابن آدم يزاد من حسنة إلى عشرة أمثالها إلا الصوم فإنه يعطى أجره بغير حساب يعني أنه يضاعف أضعافا كثيرة قال أهل العلم: ولأن الصوم اشتمل على أنواع الصبر الثلاثة ففيه صبر على طاعة الله ،وصبر عن معصية الله وصبر على أقدار الله.
أما الصبر على طاعة الله فلأن الإنسان يحمل نفسه على الصيام مع كراهته له أحيانا يكرهه لمشقته لا لأن الله فرضه لو كره الإنسان الصوم لأن الله فرضه لحبط علمه لكنه كرهه لمشقته ولكنه مع ذلك يحمل نفسه عليه، فيصبر عن الطعام والشراب والنكاح لله -عز وجلَ- ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي النوع". الثاني من أنواع الصبر: الصبر عن معصية الله، وهذا حاصل للصائم فإنه يصبر نفسه عن معصية الله -عز وجلَ- فيتجنب اللغو والرفث والزور وغير ذلك من محارم الله.الثالث: الصبر على أقدار الله وذلك أن الإنسان يصيبه في أيام الصوم (ولاسيما في الأيام الحارة والطويلة) من الكسل والملل والعطش ما يتألم ويتأذى به ولكنه صابر لأن ذلك في مرضاة الله. فلما اشتمل على أنواع الصبر الثلاث كان أجره بغير حساب قال الله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
ج- أن للصائم فرحتين الفرحة الأولى عند فطره إذا أفطر فرح بفطره، فرح بفطره من وجهين : الوجه الأول: أنه أدى فريضة من فرائض الله وأنعم الله بها عليه وكم من إنسان في المقابر يتمنى أن يصوم يوما واحدا فلا يكون له وهذا قد منَّ الله عليه بالصوم فصام فهذه نعمة فكم من إنسان شرع في الصوم ولم يتمه فإذا أفطر فرح لأنه أدى فريضة من فرائض الله ويفرح أيضا فرحا آخر وهو أن الله أحل له ما يوافق طبيعته من المآكل والمشارب والمناكح بعد أن كان ممنوعا منها. فهاتان فرحتان في الفطر الأولى أن الله منَّ عليه بإتمام هذه الفريضة.
الثانية: أن الله منَّ عليه بما أحل له من محبوباته من طعام وشراب ونكاح.
د- الإشارة إلى الحكمة من فرض الصوم حيث قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب يعني: لا يقول قولا يأثم به ولا يصخب فيتكلم بكلام صخب بل يكون وقورا مطمئنا متأنيا فإن سابه أحد أو شاتمه فلا يرفع صوته عليه بل يقول: إني صائم، يقول ذلك لئلا يتعالى عليه الذي سابه كأنه يقول: أنا لست عاجزا عن أن أقابلك بما سببتني ولكني صائم يمنعني صومي من الرد عليك وعلى هذا فيقوله جهرا. كذلك أيضا إذا قال: (إني صائم) يردع نفسه عن مقابلة هذا الذي سابه كأنه يقول لنفسه (إني صائم فلا تردى على هذا الذي سب) وهذا أيضا معنى جليل عظيم ولهذا كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا رأى من الدنيا ما يعجبه وخاف أن تتعلق نفسه بذلك قال: لبيك إن العيش عيش الآخرة فالنفس مجبولة على محبة ما تميل إليه فإذا رأى ما يعجبه من الدنيا فليقل لبيك يعني إجابة لك يا رب. إن العيش عيش الآخرة أما عيش الدنيا فزائل وفان."([4])
2- الاستعداد بالصيام : وبوب معظم أئمة الحديث في كتبهم باب صيام شعبان أو صيام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في شعبان وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- " يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ " متفق عليه.
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُكَ تَصُومُ فِي شَعْبَانَ صَوْمًا لَا تَصُومُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الشُّهُورِ إِلَّا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، قَالَ: «فَذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ شَهْرِ رَجَبٍ وَشَهْرِ رَمَضَانَ، تُرْفَعُ فِيهِ أَعْمَالُ النَّاسِ، فَأُحِبُّ أَنْ لَا يُرْفَعَ عَمَلِي إِلَّا وَأَنَا صَائِمٌ»([5])
ولكن ننبه على مسألة وهي أن الصيام بعد نصف شعبان جائز لمن كانت له عادة بالصيام ، كرجل اعتاد صوم يوم الاثنين والخميس ، أو كان يصوم يوما ويفطر يوما . . ونحو ذلك .أما أن يبتدئ الصيام بعد النصف من شعبان ولم يكن له عادة في الصيام قبل ذلك فهذا منهي عنه. سئل الشيخ ابن باز –رحمه الله- : "لقد قرأت في صحيح الجامع الحديث رقم (397) تحقيق الألباني ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان » . ويوجد حديث آخر خرجه السيوطي برقم (8757) ، صحيح، وحققه الألباني في صحيح الجامع برقم (4638) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كانت أحب الشهور إليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يصومه، شعبان ثم يصله برمضان » فكيف نوفق بين الحديثين؟.
ج: بسم الله والحمد لله، وبعد فقد كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصوم شعبان كله وربما صامه إلا قليلا، كما ثبت ذلك من حديث عائشة وأم سلمة. أما الحديث الذي فيه النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان فهو صحيح، كما قال الأخ العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني، والمراد به النهي عن ابتداء الصوم بعد النصف، أما من صام أكثر الشهر أو الشهر كله فقد أصاب السنة. والله ولي التوفيق."([6])
3- الاستعداد بتلاوة القرآن: بأن يتدرب كل من كان هاجرا للقرآن على ورد يومي ولو يسير حتى يستعد للشهر الكريم بهمة ختم القرآن ولو مرة على الأقل في هذا الشهر المبارك ، لأن ، هذا الشهر هو شهر القران الذي أنزل فيه {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] ، وكان جبريل يعرض القرآن فيه على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ،فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»([7])
4- الاستعداد بالدعاء: بأن ندعو الله أن يبلغنا رمضان ويعيننا على صيامه وقيامه وأن يتقبل منا أعمالنا في هذا الشهر، قال بعضُ السَّلفِ: كانوا يدعُون اللَّهَ ستَّةَ أشهرٍ أن يبلِّغهم شهر رمضانَ. ثم يدعونَ اللَّهَ ستَّةَ أشهرٍ أن يتقبَّلَهُ منهُم.([8])
5- الاستعداد بالتوبة: فإن المولى -عز وجلَ- يقول : {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]" لما أمر تعالى بهذه الأوامر الحسنة، ووصى بالوصايا المستحسنة، وكان لا بد من وقوع تقصير من المؤمن بذلك، أمر الله تعالى بالتوبة، فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} لأن المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ثم علق على ذلك الفلاح، فقال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي الرجوع مما يكرهه الله، ظاهرا وباطنا، إلى: ما يحبه ظاهرا وباطنا، ودل هذا، أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة، لأن الله خاطب المؤمنين جميعا، وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة في قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ} أي: لا لمقصد غير وجهه، من سلامة من آفات الدنيا، أو رياء وسمعة، أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة."([9])
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8]" أي: توبة صادقة جازمة، تمحو ما قبلها من السيئات وتلم شعث التائب وتجمعه، وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات.قال العلماء: التوبة النصوح هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على ألا يفعل في المستقبل. ثم إن كان الحق لآدمي رده إليه بطريقه."([10])
ألا تريد أخي الحبيب أن يحبك الله فهو القائل:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] وهو الغني عن عباده {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ومع هذا كله فإنه جل وعلا يطلب منك الرجوع إليه تعالى , ويفتح لك بابا من أوسع الأبواب لترجع منه , وحتى لا تجد الطريق ضيقا فقد وسع الله فى باب التوبة وجعله مفتوحا على مصرعيه للعبد طيلة حياته ما لم يغرغر , أو تطلع الشمس من مغربها وليس هذا فحسب بل إن الغني عنَّا وعن العالمين سبحانه, من يفتقر له كل من فى السموات والأرض , يفرح بتوبة عبده التائب كما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- " لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الحَرُّ وَالعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ" متفق عليه.وزاد مسلم :"ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ "([11]) وأمرنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالتوبة والاستغفار فقال: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللهِ، وَأَسْتَغْفِرُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ "([12]) ، بل وأقسم على ذلك فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :«وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»([13]) فهذا هو رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، فما بالنا نحن المقصرين ألسنا أحوج إلى التوبة والاستغفار ؟!
6- الاستعداد بالجود : فعن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» متفق عليه.
"والجود هو بذل المحبوب من مال أو عمل والإنسان يجود بماله فيعطي الفقير ويهدي إلى الغني ويواسي المحتاج.... وكان رسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أجود الناس) بماله وبدنه وعلمه ودعوته ونصيحته وكل ما ينفع الخلق وكان أجود ما يكون في رمضان لأن رمضان شهر الجود يجود الله فيه على العباد والعباد الموفقون يجودون على إخوانهم والله تعالى جواد يحب الجود".([14])
قال النووي –رحمه الله – وهو يعدد فوائد الحديث :" ومنها استحباب إكثار الجود في رمضان ومنها زيادة الجود والخير عند ملاقاة الصالحين وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم".([15])
7- الاستعداد لقيام الليل ولو بركعات قليلة : وتبدأ صلاة الليل بعد صلاة العشاء حتى أذان الفجر ،فيستحب أن يدرب المسلم نفسه على صلاة الليل ولا ننسى قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :«مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنَ قَرَأَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ» ([16])
"( من القانتين ) أي: المطيعين، أو الخاشعين، أو المصلين، أو الداعين، أو العابدين، أو القائمين.قوله: " من المقنطرين " بفتح الطاء، أي: من الذين أعطوا قنطارا من الأجر."([17])"أي من المكثرين من الأجر والثواب، مأخوذ من القنطار، وهو المال الكثير."([18])
8- التنافس في كسب الأجر وتحصيل الحسنات: إن التنافس نزعة متأصلة في داخل كل إنسان، وتعني التسابق نحو النفيس من الأمور في نظر المتنافسين. والراغب في جنة الخلد يجب عليه العمل بجد ومثابرة وإخلاص حتى يحظى بالغفران والجائزة ،وقد أمرنا الله بذلك فقال:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]فلنستعد في هذا الشهر بالتنافس في تحصيل الثواب والأجر ولا نتكاسل ونرتمي في أحضان شياطين الأنس والجن ،رُوي عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون فقال: "إن الله -عز وجلَ- جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون فيه لطاعته فسبق قوم ففازوا، وتخلف قوم فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون. أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته"([19]) "أي: كان سرور المقبول يشغله عن اللعب، وحسرة المردود تسدّ عليه باب الضحك."([20])
● حال السلف في استقبال شهر رمضان:
" حالة السلف كما هو مدون في الكتب المروية بأسانيد الثقات عنهم أنهم كانوا يسألون الله -عز وجلَ- أن يبلغهم رمضان قبل أن يدخل يسألون الله أن يبلغهم شهر رمضان لما يعلمون فيه من الخير العظيم والنفع العميم ثم إذا دخل رمضان يسألون الله أن يعينهم على العمل الصالح فيه ثم إذا انتهى رمضان يسألون الله أن يتقبله منهم كما قال الله -عز وجلَ-:"وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ"وكانوا يجتهدون في العمل ثم يصيبهم الهم بعد العمل هل يقبل أو لا يقبل وذلك لعلمهم بعظمة الله -عز وجلَ- و علمهم بأن الله لا يقبل إلا ما كان خالصا لوجهه وصوابا على سنة رسوله من الأعمال فكانوا لا يزكون أنفسهم ويخشون من أن تبطل أعمالهم فهم لها أن تقبل أشد منهم تعبا في أدائها لأن الله -عز وجلَ- يقول:"إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ"وكانوا يتفرغون في هذا الشهر كما أسلفنا للعبادة ويتقللون من أعمال الدنيا وكانوا يوفرون الوقت للجلوس في بيوت الله -عز وجلَ- ويقولون نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً ويحضرون المصاحف ويتدارسون كتاب الله -عز وجلَ- كانوا يحفظون أوقاته من الضياع ما كانوا يهملون أو يفرطون كما عليه حال الكثير اليوم بل كانوا يحفظون أوقاته الليل في القيام والنهار بالصيام وتلاوة القرآن وذكر الله وأعمال الخير ما كانوا يفرطون في دقيقة منه أو في لحظة منه إلا ويقدمون فيها عملا صالحا".([21])
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ذَكْوَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، " عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ في الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَفِي رَمَضَانَ يَخْتِمُهُ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ ".([22])
وأخر ج البيهقي في شعبه عن سْبَحُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ: إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ، فَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عِشْرِينَ آيَةً، وَكَذَلِكَ إِلَى أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ، وَكَذَلِكَ يَقْرَأُ فِي السَّحَرِ مَا بَيْنَ النِّصْفِ إِلَى الثُّلُثِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَيَخْتِمُ عِنْدَ السَّحَرِ فِي كُلِّ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَكَانَ يَخْتِمُ بِالنَّهَارِ كُلَّ يَوْمٍ خَتْمَةً، وَيَكُونُ خَتْمُهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ كُلَّ لَيْلَةٍ وَيَقُولُ: " عِنْدَ كُلِّ خَتْمَةٍ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ "([23])
"وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف قال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري: إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن"([24])
فهذا هو استعداد سلفنا الصالح لهذا الشهر فهلا استعدينا الاستعداد المناسب لاستقبال هذا الشهر الفضيل ؟
([1])أخرجه أحمد (12/ 59) ، وعبد بن حميد (1427) وقال الشيخ مصطفى العدوي في تحقيه على المسند :صحيح لغيره.
([2]) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 148)
([3])تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 497)
([4]) شرح رياض الصالحين _ للشيخ العثيمين (3/ 335)
([5])مسند ابن أبي شيبة (1/ 128) ، وغيره وحسن إسناده الألباني في صحيح الترغيب(1022)
([6]) مجموع فتاوى ابن باز (15/ 385)
([8]) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 209)
([10])تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 168)
([12]) أخرجه أحمد ط الرسالة (30/ 225) وغيره وصححه الألباني في الصحيحة (1452)
([14])شرح رياض الصالحين _ للشيخ العثيمين (5/ 275)
([15])شرح النووي على مسلم (15/ 69)
([16])صحيح ابن خزيمة (2/ 181) ،وصححه الألباني في الصحيحة (642).
([17])شرح أبي داود للعيني (5/ 303)
([18])مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 187)
([19])بهجة المجالس وأنس المجالس (ص 247)
([20]) نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان (1/ 385)