بقلم فضيلة الأستاذ الشيخ/ محمد الغزالي
مدير عام إدارة الدعوة بوزارة الأوقاف
جلست يومًا أختم الصلاة وأردد الألفاظ المائة المأثورة، متدبرًا ما تدل عليه من تسبيح وتحميد وتكبير، بيد أن الشيطان سرق فكري دون أن أدري فإذا أنا أسرح في إحدى القضايا أستعرض أحداثها وأتتبع مراحلها وأتوجس من نتائجها!!
وغصت في أعماق القضية العارضة حتى ارتطمت بقاعها ولساني يحصي آخر الكلمات المائة التي تعقب الصلوات المكتوبة، لتكون ذكرًا بعد ذكر، وتحية بعد تحية!!!
وشعرت بتناقض بين حالي ومقالي، وساءلني ضميري: أكنت حقًا تذكر ربك، وتسبحه وتحمده وتكبره؟
ولم يكن للكذب مجال، لقد كان فؤادي في واد آخر، وإن كان لساني يردد ما تعوده من كلمات ..
لقد كنت حاضر كغائب، أو غائب كحاضر، وما أستطيع الزعم بأني فيما همهمت كنت من الذاكرين!!
إن البون بعيد جدًّا بين الكلمات التي تنطق بها، وبين معناها المصاحب لها، المخبوء تحت حروفها ..
لو كانت إدارة الألفاظ على الشفتين تثبت معانيها للفور كما تدبر أزرار الكهرباء فتسطع المصابيح للفور، كلنا في حال غير الحال، ووضع غير الوضع! ولكن المسافة شاسعة بين الكلمات ودلالتها الملاصقة.
وكم فينا من ببغاوات تجري على أفواههم كلمات جليلة، فإذا ذهبت نلتمس حقائقها في نفوس القائلين، وجدت الفراغ أو وجدت النقيض.
والمؤسف أن أغلب معاملتنا لله يسيل من هذه العين الحمئة!!
إن أسوأ ما يعتري الفرائض المكتوبة والعبادات الرتيبة أن يؤديها المكلفون، وهم في شبه غيبوبة، لا تلاحق عقولهم معانيها ولا تحصل نفوسهم حكمتها.
ويقول علماء النفس: إن درجات الحس تتفاوت عند مباشرة المرء لشتى الأعمال، فقد يقع الإحساس في بؤرة الشعور، وذلك في حالات الانتباه الكامل، وقد يهبط الوعي إلى حاشية الشعور، عند ملاحظة أمور مألوفة.
وهناك منطقة شبه الشعور التي تصحب القيام بأعمال معتادة، وأظن بعض الدواب تشارك البشر في هذه الحالة، فهي إذا دربت على أشغال معينة أدتها بدقة، دون وعي طبعًا.
والتكاليف الدينية يوم تؤدى على أنها عادت مجردة، ليس معها الصحو العقلي المطلوب تصبح إلى الأدواء أقرب منها إلى الأدوية ..
بل إن الكفار الصاحين الأيقاظ إذا التقوا في ميادين الحياة بعباد من هذا النوع المخدر الغافي سرعان ما يسبقونهم سبقًا بعيدوا ويغلبونهم غلبًا أكيدًا ..
إن الله شرع الدين موضعًا وشكلاً، معنى ولفظًا، يقظة نفسية وحركة بدنية، فمن أخذ الظاهر من هذا كله وترك الباطن فهو يعبث بالدين، ويتخذه لعبًا ولهوًا ..
ويحسن أن نفرق هنا بين عدة أحوال، فإن المؤمن الجاد الصادق عندما يشرع في نفسك، يقبل على الله معقود العزم حسن القصد ..
وربما اختلس الشيطان شيئًا أو أشياء من عبادته، فهو يحزن لذلك ويتعلم الحرص والحذر. ومراتب المؤمنين في مدافعة هذه الغارات لا حصر لها …
وخيرهم من تنجح مجاهداته في صيانة عمله جوهرًا ومظهرًا، وأعجزهم من استغفله الشيطان فشتت لبه في متاهات ليس لها آخر كلما تقرب إلى اللَّه بعمل ..
ولا بد من استبعاد النبات الملتاثة في هذا المجال ..
إنني أحيانًا أسمع الأغنية الدينية تصف مناسك الحج أو تعرض حياة الرسول. فيمتلئ قلبي بالرقة والضراعة .. ثم استحضر سيرة المغني والملحن والعازفين فأحسن فجوة رهيبة بين جلال ما يقال وفساد من يقول ..
إن الفرق الماهرة في أداء هذه الألحان الدينية هي التي تستفز الشهوات الساكنة، وتزين مزالق الشر لألوف من الخلق وتجدد نشاط الأشرار كيما يسترسلوا في غوايتهم.
ولذا عندما أسمع مناجاة الله على لسان مغن أو مغنية أسأل النفس: أهذا ذكر لله حقًا، أم هي صنعة الكلام والتطريب وحسب؟
ولم التمثيل بالغناء الديني؟
هل تتبعت مجالس القرآن التي تحف بنفر من القراء المشهورين ورأيت ما يسود هذه المجالس من صخب وخفة؟
إن الصياح الطائش الذي يفتعله بعض السامعين يستخف للأسف هؤلاء القراء فتراهم ينسون الكتاب، ومنزلة، وما ينبغي له من إجلال وتوقير، ويحولون الآي إلى نغم معجب للجهال يزيدهم ولها على وله!!
ثم ينفض الحفل الماجن دون أن ينشرح بذكر اللَّه صدر أو تدمع لخشيته عين، أو تنعقد على طاعته إرادة، ويئوب القارئ والسامعون إلى بيوتهم وهم يخوضون في غضب الله خوضًا!!
إن ما يطلب من الناس ليس شيئًا صعب التصور أو عسر المنال، مطلوب من الإنسان العاقل أن يعي ما يقول، وأن يعنيه، وأن يفقه ما يسمع ويستوعبه، فهل هذا تكليف بما يبهظ الهمم؟
مطلوب من المصلي إذا وقف بين يدي الله أن يعرف من يناجي، فإذا قال: الله أكبر، كان شعوره أنه حضرة الكبير المتعال عاصمًا له من الالتفات إلى غيره، ومحرمًا عليه الاشتغال بأمر دونه، وهذا سر تسمية افتتاح الصلاة بتكبيرة الإحرام.
مطلوب من التالي للوحي أن يفك إغلاق قبله فإذا نودي سمع، وإذ بصر رأى، وإذا استثير نشط، وقد جاء في وصف عباد الرحمن: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمًا وعميانًا}.
العلاقة بالله – على الحقيقة لا على التجوز – تطلب البعد عن آفتين: التوهم أو الخيال، والتمثيل أو التصنع.
الآفة الأولى تجعل المرء يرسل القول على عواهنه، وقد تخدعه نفسه فيخال الأمنية البعيدة حقيقة ماثلة، أو يخال الأمل السامي غاية سهلة.
وقوانين الإيمان لا تدع المؤمنين طويلاً بإزاء هذه الأوهام، بل تربيهم بالأحداث تلو الأحداث حتى ينكشف معدن النفس، فإما ثبت الإنسان عندما يقول وتحمل تبعاته كاملة، وإما انهزم وبدا عواره، وفي ذلك يقول جل شأنه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}.
والأمل في الاستشهاد قبل مواجهة العدو شيء عظيم، وأعظم منه وأدل على صدقه ألا يتبخر الحماس عند اللقاء، ويتغلب حب الحياة وإيثار السلامة.
إن الله تبارك واسمه يبغض أصحاب المزاعم العريضة، فإذا دقت ساعة الجد وجدت الثرثارين خرسًا: {لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.
وأما الآفة الأخرى التي تبعد ذويها عن جوهر الدين فهي أخذ العبادات من مراسمها البادية، وبذل الجهد في إتقان الظاهر وحده.
ولو عقلنا لأدركنا أن القليل مع صحو الضمائر أفضل من كثير لا روح فيه، تأمل في حديث إبراهيم الخليل عن ربه، إنه حديث ليس فيه كشف لمجهول، ولا تصوير لمعنى مبتدع، إنه يتناول أقرب المحسوسات إلينا: {الذي خلقني فهو يهدين. والذي يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين}.
إن الرجل العامي يجد هذا الكلام قريبًا من حسه، ولكن حقائق هذا الكلام هي التي فاتت العباقرة فزاغوا.
ليس الأمر تزويق عبارات بليغة، ولا شرح فلسفات عويصة، الأمر لا يتطلب أكثر من أن يقرأ المسلم فاتحة الكتاب، فيعني كل كلمة ينطق بها، ويكون قلبه مرآة نقية لما احتوت من حمد لله، وثناء عليه، وتعاهد معه، وتطلع إلى هداه ونعمته.
هذه هي الحقيقة التي تحدث عنها علماء التصوف ورجال التربية.
لا دلالة لهذه الكلمة غير ما قلنا، أن يعتزم المسلم بشريعته بمنى ومعنى، أن ينفعل بتعاليمها ليًا وقلبًا وجسدًا، أن يرقى إلى مستواها فكرًا وعاطفة وسلوكًا.
لا تعريف للحقيقة غير ما أوضحنا في الكلمات الآنفة أن يتطابق الفؤاد مع اللسان عند ذكر الله، وأن تتعانق الروح والجسد عند الانقياد لأمر.
ولبعض الصوفية كلام متهافت يوهم أن الشريعة شيء والحقيقة شيء آخر … يقول ابن عجيبة في شرح حكم ابن عطاء السكندري: ” الأعمال عند أهل الفن – يعني فن التصوف – على ثلاثة أقسام عمل الشريعة، وعمل الطريقة وعمل الحقيقة أو تقول عمل الإسلام وعمل الإيمان وعمل الإحسان أو تقول عمل أهل البداية وعمل أهل الوسط وعمل أهل النهاية، فالشريعة أن تعبده والطريقة أن تقصده والحقيقة أن تشهده أو تقول الشريعة لإصلاح الظواهر والطريقة لإصلاح الضمائر والحقيقة لإصلاح السرائر .. إلخ “. وهذا كلام مضطرب مدخول بقوم على التلاعب بالألفاظ والعبث بالمفاهيم فإن الشريعة إصلاح للظاهر والباطن معًا، وهي عبادة نية وإحسان، لا ينفك أحد هذه العناصر عن الآخر ..
ويوغل ابن عجيبة – غفر الله له – في خطئه، فيصور لقرائه أن الكتاب والسنة أقسام، بعضها يشير إلى الشريعة، والآخر يشير إلى الحقيقة فيقول: “أشكل على بعض الفضلاء قوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} مع قوله r: “لن يدخل أحدكم الجنة بما عمله “، والجواب – كما يزعم ابن عجيبة – أن الكتاب والسنة وردا بين شريعة وحقيقة، أو بين تشريع وتحقيق، فقد يشرعان في موضع ويخفقان في آخر، وقد يشرع القرآن في موضع وتحقق السنة هذا الأمر في موضع آخر. فقوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} تشرع لأهل الحكمة وهم أهل الشريعة وقوله صلى الله عليه وسلم: ” لن يدخل أحدكم الجنة بعمله تشريع لأهل القدوة وهم أهل الحقيقة … إلخ “.
وهذا كلام باطل، لا ينطوي إلا على الفراغ والدعوى .. وليس في دين الله أهل شريعة وأهل حقيقة. ولا انقسم الوحي الإلهي إلى فريق لهؤلاء، وفريق لأولئك.
أما الإشكال الذي أورده فإليك تفسيره …
اتفق أئمة المسلمين على أن العمل لا بد منه لدخول الجنة، وأنه سبب شرعي مطلوب لا يستثنى منه بشر، ولا يدخل بدونه أحد، وقد تظاهرت الدلائل على ذلك من الكتاب والسنة جميعًا .. قال تعالى: {لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون}، وقال: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}، وقال: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة … }. وقال في المستقيمين: {أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون} إلخ.
ولكن المطلوب من العابدين لله أن يتواضعوا له وأن يكبروا حقه وأن يخافوا لقاءه مهما قدموا من صالحات، قال تعالى: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات}.
ويؤتون ما آتوا، ليس معناها فعل المعاصي والحذر من عقباها! بل معناها فعل الطاعات والحذر من عدم قبولها؛ لأنها دون ما يجب لله أو دون ما يحسن المرء.
وبهذا المعنى جاء الحديث الشريف فهو نهي عن الاغترار بالعمل وليس نفيًا لقيمة العمل، إنه نهي عن الاطمئنان إلى العمل والاستكبار به والجراءة على الله بعد إتمامه.
وليس نهيًا عن التزود بالصالحات والاستكثار منها.
وغريب أن يفهم عوام المسلمين من الحديث الشريف أن العمل لا لزوم له. ففيم إذن نزل القرآن؟ ولماذا جاهد نبيه ربع قرن لإبلاغه وإقامة الأمة عليه.
الحديث نفي لأن يكون العمل ثمنًا حقيقيًا للجنة. وليس نفيًا لأن يكون سببًا حقيقيًا لدخولها. نعم. فإذا الخلود الدائم في نعيم مقيم ليس الثمن المكافئ لعبادة الله سنين عددًا ذاك لو خلت العبادة من شوائب الرفض. فكيف وأكثرنا لو فحص عمله رد في وجهه ثم كيف لو حوسب الإنسان على النعم المغدقة عليها في الدنيا. وقيل له: عملك نظير بعض هذه النعم!!
الحديث ليس مناقضًا للآيات، ولا للأحاديث الأخرى. وإنما هو كما قلنا كسر للغرور البشري وتذكير برحمة الله وتجاوزه وصفحه.
وعلى ضوء هذا التفسير تعرف أن ما ذكره ابن عجيبة وغيره عما يسمى حقيقة وشريعة لا أصل له في الإسلام. فدين الله واحد لجميع خلقه.