الأغنياء وحقوق الفقراء

ماذا تفعل إذا رأيت شخصًا ممزق الثياب حافي القدمين، أو يتيمًا فقد حنان الأبوة أو رأيت أرملة تلاحقها نظرات من في قلوبهم مرض وهي تسعى جاهدة لتجمع القوت لمن تعول من كسب حلال طيب، أو رأيت جائعًا قد عضه الجوع ورده الحرمان..

إن هذه النماذج من البشر تعيش بيننا وفي مجتمعنا المسلم دون أن تجد في الكثير الغالب من يحس بها أو يتألم لألمها وهذا ليس من الإسلام في شيء…

إن التواد والتراحم خلق فاضل يأمر به الإسلام أتباعه. عرف ذلك أقوام من المسلمين فمدوا يد الجود والسخاء والكرم يصافحون بها الفقراء والأرامل واليتامى وجهل ذلك أقوام من المسلمين فأحجموا عن العطاء ونسوا أنهم سيحشرون إلى ربهم حفاة عراة بلا مال أو جاه وأنهم كذلك سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة..

ولقد حث الإسلام على الإنفاق ورغب فيه ترغيبًا شديدًا حتى أن الصدقة- ولو كانت شق تمرة- تقي صاحبها من النار..

وإذا أردت أن تعيش هذه الحقيقة فإليك هذا الحديث الذي سترى من خلاله كيف كان المسلمون الأوائل يتنافسون على البذل والعطاء ابتغاء وجه ربهم الأعلى:

عن جرير قال “كنا في صدر النهار عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءه قوم عراة!! مجتابي النمار- مشقوقي الملابس- عامتهم من مضر فتمعر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم– تغير وحزن- لما رأى ما بهم من الفاقة- أي الفقر- فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال:

“يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن كان عليكم رقيبًا”. “يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد..” ثم قال: ليتصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة! فجاءه رجل من الأنصار بصرة- كيس نقود- كادت كفه تعجز عنها بل لقد عجزت! ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتهلل كأنه مذهبة- صفحة مطلية بالذهب- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- “من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده ن غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن غير أن ينقص من أوزارهم شيء “.

لقد فهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم لا يخلدون فباعوا دنياهم بأخراهم وتعلموا أن الحق سبحانه وتعالى يقبل الصدقة بيمينه ثم يربيها لصاحبها حتى تكون مثل الحبل!

وإنك لتنظر إليهم فتراهم يمتثلون لأمر الله ورسوله عند سماعه.. وهذا شأن كل مسلم يصدق فيما عاهد ربه عليه..

ينزل قوله تعالى {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم} فيسارع أبو طلحة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول: يا رسول الله إن الله يقول {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو بها برها وذخرها عبد الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بخ بخ ذاك مال رابح ذاك مال رابح. وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين. فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها في أقاربه وبني عمه.

وينزل قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم} وأي مسلم يقعد عن طلب ذلك المقام الرفيع! فالصدقة تطهر النفس من الشح والبخل وتطهر المال من الخبث وتستوجب الصلاة على صاحبها من رسول الله !! إنه تكريم لو فهمه الأغنياء لما أمسكوا من مالهم إلا حد الكفاف!

إن الفقراء من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم– لما نزلت آية الصدقة- سلكوا مسلكًا يبدو في ظاهره غريبُا ولكنه منهم أدراك لفضل الصدقة وتسابق إلى الجنة! يقول أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه “لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل” أي يعمل أحدهم حمالا بالأجرة حتى يجد ما يتصدق به!!

لله ما أجمل هذا الإيمان وما أسعد من تمسك به. إن الأغنياء في مجتمعنا المسلم ينسون أو يتناسون أن في أموالهم حقًا معلومًا للسائل والمحروم. أما فقراء المسلمين الأوائل فكانوا يبحثون عن وسيلة يتصدقون بها وليس لديهم مال! والفرق بين هؤلاء وأولئك هو الفرق بين من أسلم وجهه لله وهو محسن ومن انتسب إلى الإسلام وراثة وتقليدًا..

لو أنك أتيت اليوم إلى أحد أصاب الثراء الفاحش ممن لا هم لهم إلا جمع المال وقلت له “ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك” لهز رأسه ولسان حاله يقول “إنما أوتيته على علم عندي”!!

إن الفقراء الذين أقعدهم المرض أو العاهة وصدهم الحياء عن السؤال بحاجة إلى من يحنو عليهم ويمسح عنهم آلام البؤس وشقاء الحاجة.. وتفريج كربة مسلم أمر لا يعرف قدره إلا من أضاء الإيمان قلبه. وعندما يعرف الأغنياء ذلك فإنهم سيحملون أموالهم على أكفهم يطرقون بها أبواب اليتامى سرًا في ظلام الليل! والذي يريد لنفسه النجاة فعليه أن يتقي النار ولو بشق تمرة.. لقد دخلت امرأة ومعها ابنتان لها على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تطلب الصدقة فلم تجد عندها سوى تمرة واحدة فأعطتها إياها فقسمتها المرأة بين ابنتيها فكان لكل منهما شق تمرة!!

إن مجتمعنا اليوم بحاجة ماسة إلى من يذكره بالله ويوثق صلته به ويعيد إلى ذهنه اليقين بأن الموت يعقبه بعث وأن البعث يتلوه حساب وأن الحساب عاقبته جنة أبدًا أو نار أبدًا..

يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- “إنما الدنيا لأربعة نفر.. عبد رزقه الله مالا وعلمًا فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقًا فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو نيته فأجرهما سواء. وعبد رزقه مالا ولم يرزقه علمًا فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقًا فهذا بأخبث المنازل. وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علمًا فهو يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فوزرهما سواء”.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل..