كلمات في المنهج

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده … وبعد :

فإن الدين الحق الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد جعل الله من خصائصه الكمال والبقاء بحفظ الله له، وأنه صالح لكل زمان ومكان.

وإن المؤمن الصادق في إيمانه ينبغي عليه أن يعلم خصائص وحقائق هذا الدين حتى لا يضل أو يُضل.

وخذ لذلك مثلاً : إن كثيرًا من المسلمين اليوم يصدقون كل ما يسمعون !! وقد يكون باطلاً أو ضلالاً.

وينقلون كل ما يسمعون !! دون تثبت أو تبين كما أمر الله ، كما أن بعض المسلمين يأخذ أحكام الشريعة ويتعلم مسائل الدين من الصحف والمجلات الخليعة !! بدلاً من أخذه من العلماء، وكتب العلوم الشرعية الصحيحة، وهذا خلل واضح في المنهج.

وقبل معالجة الخلل، وتصحيح الخطأ فإن المسلم يحتاج أولاً أن يتعلم قواعد الإسلام وأصول الشريعة، وأولى الناس بهذا: دعاة وخطباء أنصار السنة؛ فهم أحوج شيء إلى معرفة المنهج والوقوف على القواعد والأصول.

وقد وضع علماء الأمة هذه القواعد التي تدور عليها أحكام الدين ومسائله بصورة سهلة يسيرة ؛ ومن أهمها :

القاعدة الأولى :

تحريم القول على الله بلا علم ؛ لقوله تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ) ، إلى قوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون ) [ الأعراف : 33] ، ولقوله : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) [ الإسراء : 36] .

والقول على الله بلا علم يعني الكلام في الدين وأحكامه ومسائله بغير علم ، وهذه كبيرة من أكبر الكبائر !! ومع ذلك فإنك ترى كثيرًا من الناس قد ارتكبوا هذه الكبيرة وهم لا يشعرون، بل إن بعضهم يتقرب إلى الله بها ، ولا يدري ما وراءها !!

والجرأة على الفتيا – كما قال ابن القيم رحمه الله – تكون من قلة العلم ومن غزارته وسعته!! فمن قل علمه – وهم كثير – أفتى في كل ما يُسأل عنه بغير علم ، وخذ لذلك مثلاً مضحكًا : الإفتاء في الطلاق ؛ يقوم به العلماء ، وهو من المسائل الشائكة ، ويشاركهم في الإفتاء : المأذون وإن لم يكن عالِمًا ، وأئمة المساجد عالمهم وجاهلهم على سواء ، والمؤذن ، ومقيم الشعائر ، والعوام وكل من حضر المجلس !!

وأحيانًا يقوم الآباء بالإفتاء ، حرصًا على مصلحة الأبناء ! وفي حالات كثيرة تسمع من يقول: ذهبت إلى شيخ أسأله عن الطلاق ، فردّ لي ديني ؟!! فأصبح الطلاق عندهم كفرًا وفاعله مرتد !! ودينه يحتاج إلى رد ! وهذا الباطل والمنكر من القول يرجع إلى القول على الله بغير علم .

وقد حذر علماء الأمة من ذلك تحذيرًا شديدًا ؛ قال حذيفة ، رضي الله عنه : ( إنما يفتى الناس ثلاثة : من يعلم ما نسخ من القرآن ، أو أمير لا يجد بدًّا ، أو أحمق متكلف ) .

وقال سحنون بن سعيد : ( أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا يكون عند الرجل البابُ الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه ) .

وقد كان الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، مع غزارة علمه يتوقف أحيانًا في الفتوى؛ لتعارض الأدلة عنده ، أو لاختلاف الصحابة فيها ، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة و التابعين !!

وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف ، كما قال لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام .

وكان ابن عمر، رضي الله عنهما، يقول: ( العلم ثلاث: كتاب الله الناطق، وسنة ماضية، ولا أدري ) !!

ومن أراد المزيد في هذا فليراجع ( إعلام الموقعين عن رب العالمين) الجزء الأول لابن القيم، رحمه الله.

القاعدة الثانية :

كل شيء سكت عنه الشارع الحكيم فهو مما عفا الله عنه ، فلا يحل لأحد أن يحرمه أو يوجبه أو يستحبه أو يكرهه ؛ لقوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ  ) [ المائدة : 101] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم- : ( وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ) .

وهي قاعدة جليلة عظيمة النفع في سائر المسائل ؛ ففي توحيد الأسماء والصفات – مثلا – نثبت ما أثبته الكتاب والسنة من الصفات ، وننفي عن الله سبحانه ما نفاه الكتاب والسنة من الصفات ، ونسكت عما سكت عنه الكتاب والسنة ؛ فلو سأل سائل : هل الله جسم أو ليس بجسم ؟ نقول : هذا مسكوت عنه ، فلا نثبته ولا ننفيه ، ولكن نسكت تطبيقًا لهذه القاعدة ، وكذلك في الحلال والحرام : نحل ما أحله الله ورسوله ، ونحرم ما حرمه الله ورسوله ، ونسكت عما سكت عنه الكتاب والسنة . وهكذا في كل أحكام ومسائل الشريعة .

القاعدة الثالثة :

ترك الدليل الواضح ، والاستدلال بلفظ متشابه هو طريق أهل الزيغ والضلال كالرافضة والخوارج ، قال تعالى : (  فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ) [ آل عمران : 7] ، والواجب على المسلم اتباع المحكم وإن عرف معنى المتشابه وجده لا يخالف المحكم ؛ بل يوافقه ، وإلا فالواجب عليه اتباع الراسخين في العلم في قولهم الذي ذكره القرآن عنهم : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا  ) [ آل عمران : 7] .

ونحن نسوق هنا الحوار المشهور ، والمناظرة المعروفة بين ابن عباس ، رضي الله عنهما، والخوارج ليستبين بها الفرق بين المحكم والمتشابه ويعرف بها طريقة أهل الزيغ من الخوارج وغيرهم .

قال ابن عباس، رضي الله عنهما : أتيت الخوارج وهم مجتمعون في دارهم قائلون : فسلّمت عليهم ، فقالوا : مرحبًا بك يا ابن عباسٍ ، فما هذه الحلة ؟ قال : قلت : ما تعيبون عليَّ ؟ لقد رأيت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن ما يكون من الحلل ونزلت : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) [ الأعراف : 32] ، قالوا : فما جاء بك ؟ قلت : أتيتكم من عند صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار لأبلغكم ما يقولون: فعليهم نزل القرآن، وهم أعلمُ بالوحي منكم، وفيهم أُنزل، وليس فيكم منهم أحد (1)، فقال بعضهم : لا تخاصموا قريشًا فإن الله يقول: (  بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون ) [الزخرف: 58].

قال ابن عباس : وأتيت قومًا لم أر قومًا قط أشد اجتهادًا منهم ، مسهمة وجوههم من السهر، كأن أيديهم وركبهم تثني عليهم ، فقال بعضهم : لنكلمنه ولننظرن ما يقول ، قلت : أخبروني ماذا نقمتم على علي ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصهره والمهاجرين والأنصار ؟ قالوا : ثلاثًا ، قلت : ما هن ؟ قالوا : أما إحداهن : فإنه حكّم الرجال في أمر الله، وقال الله تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ  ) [ يوسف : 40] .

وما للرجال وما للحكم ؟ فقلتُ: هذه واحدة، قالوا: وأما الأخرى: فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كان الذي قاتل كفارًا لقد حل سبيهم وقتالهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حلّ قتالهم، قلت: هذه اثنتان، فما الثالثة ؟ قالوا : إنه محا نفسه من أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين ، قلت: أعندكم سوى هذا ؟ قالوا: حسبنا هذا ، فقلت لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله، ومن سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يرد قولكم ، أترضون ؟ قالوا : نعم ، فقلت : أما قولكم حكّم الرجال في أمر الله ، فأنا أقرأ عليكم ما قد رد حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم في أرنب ونحوها من الصيد ، فقال : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) [ المائدة : 95] ، فنشدتكم الله … أحكم الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل ، أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم ؟ وإن تعلموا أن الله لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال .

وفي المرأة وزوجها ، قال الله عز وجل : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا  ) [ النساء : 35] .

فجعل الله حكم الرجال سنة مأمونة، أخرجت عن هذه ؟ قالوا: نعم، قال: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة ثم تستحلون منها ما يستحل من غيرها ؟ فلئن فعلتم لقد كفرتم وهي أمكم.

ولئن قلتم : ليست أمنا ، لقد كفرتم ، فإن الله تعالى يقول : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) [ الأحزاب : 6] .

فأنتم تدورون بين ضلالتين، أيهما سرتم إليها سرتم إلى ضلالة ، فنظر بعضهم إلى بعض، قلت : أخرجت من هذه ؟ قالوا : نعم ، قلت : وأما قولكم : محا نفسه من أمير المؤمنين فأنا آتيكم بمن ترضون – أي بما ترضون من الدليل القاطع المقنع – وأريكم ، قد سمعتم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية كاتب سهيلاً بن عمرو وأبا سفيان بن حرب ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمير المؤمنين : ( اكتب يا علي ؛ هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ) .

فقال المشركون : لا ، والله ما نعلم أنك رسول الله ، لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( اللهم إنك تعلم أني رسول الله ، أكتب يا علي ؛ هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله ) ، فوالله لرسول الله خير من علي ، وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه ؟

قال عبد الله بن عباس : فرجع من القوم ألفان وقتل سائرهم على ضلالة (2) .

القاعدة الرابعة:

الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات؛ ومما ينبغي أن يعلم أن اجتناب الشبهات من الورع، فإن من شك في شيء وتورع عنه فقد أصاب؛ ولو تبين له بعد ذلك أنه حلال !

القاعدة الخامسة:

رد التنازع والاختلاف إلى الكتاب والسنة ؛ لقوله تعالى : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) [ النساء : 59] .

فإن تبين لك الحق فاتبعه، وإن لم يتبين لك، واحتجت إلى العمل فخذ بقول من تثق بعلمه ودينه.

القاعدة السادسة:

إذا سنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرين وأراد أحد أن يأخذ بأحدهما ويترك الآخر ، فإنه لا ينكر عليه ؛ كالقراءات المتواترة ، فإنه يجوز للمسلم أن يختار منها قراءة دون غيرها بغير إنكار عليه ، ويلتحق بهذه القاعدة اختلاف التنوع الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة ، وقد ضرب له العلماء مثلاً فقالوا : ( إذا أمَّ رجل قومًا ، وهم يرون القنوت أو يرون الجهر بالبسملة وهو يرى غير ذلك ؛ والأفضل ما رأى ؛ أي رأيه راجح بالأدلة ورأيهم مرجوح، فموافقتهم أحسن، ويصير المفضول هو الفاضل درءًا لمفسدة الفتنة والاختلاف؛ فإن الخلاف كله شر ) .

القاعدة الأخيرة: وهي جليلة القدر عظيمة النفع.

مسائل العقيدة؛ ما وافق منها عقيدة أهل السنة، فهو حق، وما خالفها فهو ضلال، وليس منها راجح ومرجوح.

والأمة تنقسم في العقيدة إلى فرقة ناجية؛ وفرق ضالة في النار ! أما مسائل الفقه ففيها راجح ومرجوح ، وهو اختلاف تنوع جائز ، والأمة تنقسم في الفقه إلى مذاهب وأقوال ؛ كالمذاهب الأربعة ، وغيرها .

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .

(1) وهذا دليل على أنه لم يكن فيهم صحابي واحد.

(2)  الحاكم في (المستدرك) (جـ 3 ص 150) – واللفظ له – و ( مجمع الزوائد ) ( جـ 6 ص 249 ) ، وقال : رواه الطبراني وأحمد ببعضه . ورجاله رجال الصحيح .