الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله … وبعد :
فهذه كلمات صائبة صادقة بقلم العلامة الشيخ السعدي – رحمه الله – عجز قلمي عن الإتيان بمثلها ، فأقررت بالفضل لأهله ، وآثرت أن أقدمها للقراء الكرام ؛ لينتفع بها من شرح الله صدره ، ويعمل بها من أدركه توفيق الله ، ويستضيء بنورها كل باحث عن الهداية .
قال – رحمه الله – : اعلم أن الناس في معاشرة بعضهم لبعض درجات في الخير والشر ، لا تنضبط .
وأغلب المعاشرات قليلة الجدوى، عديمة الفائدة، بل كثير منها مُؤدٍّ إلى الخسران والأضرار الدينية والدنيوية.
ونذكر في هذا الموضع أعلى الأقسام وأنفعها، وأبقاها ثمرة، فإن أدركها المؤمن بتوفيق الله وجده واجتهاده، فقد أدرك كل خير، وإن لم تَقْوَ نفسه على بلوغها فليجاهدها، ولو على بعضها، وهي يسيرة على من يسرها الله عليه.
فأصل ذلك ، أن تعقد عزمًا جازمًا ، وعقيدة صادقة ، على محبة جميع المؤمنين ، والتقرب إلى الله في هذه المحبة ، وتجتهد على تحقيقها على وجه العموم ، وعلى وجه الخصوص ، وعلى قلع كل ما يُضادَها أو ينقضها ، فتعتقد أن تحقق القلب بمحبة المؤمنين عبادة من أجلّ العبادات ، وأفضل الطاعات ؛ فتتخذ جميع المؤمنين إخوانًا ، تحبُّ لهم ما تحب لنفسك من الخير ، وتكره لهم ما تكرهه لنفسك من الشر ، وتعقد قلبك في تحقيق هذا الأمر الجليل ، والانصاف به ، والاحتراز من ضِدَه ، من الغِلَ والحقد والحسد والبغض لأحد منهم .
ومتى رأيت من قلبك شيئًا من ذلك فبادر بقَلْمِه ، وسَلِ الله أن لا يجعل في قلبك غِلاً على أحد من المؤمنين ، خاصتهم وعامتهم ، وميَز من له في الإيمان مقام جليل ، كعلماء المسلمين وعبادهم بزيادة محبة بحسب مقاماتهم ، لتكون موافقًا لله في محبته ، وتعاهَدْه ذلك بالتحبب إلى المؤمنين ، بطلاقة الوجه ، وحُسن الخُلق ، والمعاملة الجميلة ، فإنها في نفسها عبادة ، وهي جالبة لتحقق القلوب بينك وبين المؤمنين بالمودة والرحمة ، ووطن نفسك على ما ينالك من الناس من أذى قولي ، أو أذى فعلي ، أو معاملة منهم بضد ما عاملتهم به من الإحسان ، فإن توطين النفس على ذلك يسهل عليك الأمر ، وتتلقى أذاهم بضده .
وليكن التقرب إلى الله عند ذلك على بالك ، فإن التقربَّ إلى الله هو الذي يهون عليك هذا الأمر الذي هو شديد على النفس .
واعلم أن هذا الوصف من أوصاف الكُمَّل من أولياء الله وأصفيائه ، فبادر للاتِّصاف به ، فمن أبغضك وعاداك وهجرك فعامله بضدِّ ذلك لتكسب الثواب ، وتكتسب هذا الخُلق الفاضل ، وتتعجل راحة قلبك ، وتخفف عن نفسك همَّ المُعاداة ، وربما انقلب العدو صديقًا ، والمبغض محبًّا ، كما هو الواقع .
واعفُ عما صدر منهم لله ، فإن من عفا عن عباد الله ، عفا الله عنه ، ومن سامحهم سامحه الله ، ومن تفضل عليهم تفضل الله عليه ، والجزاء من جنس العمل .
ولينصبغ قلبك كل وقت بالإنابة إلى الله ، ومحبة الخير لعباد الله ، فإن من كان كذلك فقد تأصَلت في قلبه أصول الخير التي تُؤتي أكلها وثمراتها كل حين بإذن ربها .
وبهذا يكون العبد أوَّابًا: ( فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ) [ الإسراء: 25].
وإذا اجتمعت مع الناس ، فخالقهم على حسب درجاتهم : الصغير والكبير ، والشريف والوضيع ، والعالِم والجاهل ، كل أحد تكلم معه بالكلام الذي يُناسبه ، ويليق بحاله ، ويُدخل السرور عليه ، وبالكلام الذي له به ميدان ، معلمًا للجاهل ، متعلمًا ممن هو أعرف منك ، متشاورًا مع نظيرك فيما هو الأحسن والأصلح من الأمور الدينية والدنيوية ، آخذًا لخواطرهم، موافقًا لهم على مطالبهم التي لا محذور فيها ، حريصًا على تأنيسهم وإدخال السرور بكل طريق ، مُضمنًا كلامك لكل أحد ما يناسبه من النصائح التي تنفع الدين والدنيا ، ومن الآداب الجميلة .
وحُثَّهم على قيام كل منهم بما هو بصدده من الحقوق التي لله والتي للخلق ، موضحًا لهم الطرق المسهلة لفعل الخير ، والأسباب الصارفة عن الشر.
واقنع بالقليل إذا عجزت عن الكثير .
واعلم أن قبولهم وانقيادهم مع الرفق والسهولة ، أبلغ بكثير من سُلوك طريق الشدة والعنف ، إلا حيث تُلجئ الضرورة إلى ذلك ، فللضرورة أحكام.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .