الإفك

الحمد لله الذي يعلم السر وأخفى ، والجهر والنجوى .

والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمدٍ المصطفى والمجتبى.

وبعد :

فإن القرآن هو منهج حياتنا، وحكم ما بيننا، وسائقنا ودليلنا وهو كتاب هداية، وفيه غُنْية وكفاية .

وفي القرآن توجيه كريم، وتحذيرٌ عظيم .

فمن توجيهاته الكريمة ما جاء في قوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (1) .

ومن تحذيراته العظيمة أنه نهانا عن الإفك ؛ وهو الكذب .

وقد ابتلى الله عصبة من هذه الأمة بالكذب والافتراء .

واجتبى الله عصبة فحفظها من هذا البلاء .

وفي سورة النور يحدثك القرآن عن قصة الإفك حديثًا تقشعر له الأبدان، وتشيب لهَوْله الولدان ! إنه يتحدث عن خوض بعض الناس – وفى مقدمتهم المنافقون – في عرض عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ! والتي برأها الله من فوق سبع سموات ! ويشعر القارئ لهذه القصة أن القرآن الكريم يصور واقع الناس ، ويصف صورة حية تعيشها المجتمعات في كل زمان . فعندما يستمع الناس إلى خيرٍ كاذب – وما أكثر الأخبار الكاذبة – يسارع بعضهم في الإثم؛ فيرمون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، ويخوضون في أعراض الأبرياء بغير حق.

وتبقى الطائفة المؤمنة، تحمى سمعها وبصرها، وقد عصمها الله بالورع؛ لا تظن إلاّ خيرًا، ولا تقول إلا خيرًا.

وفي حديث الإفك تقول عائشة رضي الله عنها قولًا بليغًا، وهي قدوة الأبرياء، ومثال الطهر والعفاف، تقول لرسول الله صلي الله عليه وسلم، ولأبويها: (والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم، وصدّقتم به (2) !! فإن قلت لكم إنّي بريئة والله يعلم أنيّ بريئة لا تصدقوني ! ولئن اعترفت لكم بأمر ، والله يعلم أنيّ بريئة لتصدقونني !! وإني والله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا كما قال أبو يوسف : فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون ) !!

إن عائشة رضي الله عنها تعلم علم اليقين أن الله سيظهر براءتها ؛ وهذا شأن كل بريء يتذكر دائمًا أن الله يدافع عن الذين آمنوا ، ويكون واثقًا أن الله سينصره ولو بعد حين .

ومع شدة وقع فتنة الإفك على نفوس المؤمنين إلا أن الله بشرّنا بأنه خيرٌ لنا ! وأنزل في ذلك قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ  ) (3) وكان الخير في أحكام وتشريعات نزلت ، ودروس كريمة عُرِفت ، وفوائد عظيمة ظهرت حتى ذكر النووي منها أربعة وخمسين فائدة (4) !! وعدّها ابن حجر رحمه الله فبلغ بها أكثر من تسعين فائدة (5)

إن الآيات التى نزلت في سورة النور بشأن الإفك تهدف إلى تطهير المجتمع المسلم من قالة السوء ، واتهام الناس بالباطل وتعلمّ المؤمنين عفة القول ، وحفظ اللسان من زلل يوجب العقاب والأصل في المسلم أن يظن خيرًا بالمسلمين والمسلمات ، وإذا سمع تهمة لمسلم بغير بينة شرعية فإنه لا يقبلها ولا ينقلها ، وقد وصف الله المؤمنين الصادقين بأنهم إذا سمعوا خبرًا كاذبًا أو تهمة أو قالة سوء قالوا : ( مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ) (6).

ويحذرنا القرآن من اتهام الأبرياء ، وسوء الظن بالمؤمنين ، وذلك في قوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (7) هذا بيان الله للمؤمنين يقرر فيه كيف يتلقون الأنباء ؟

وكيف يتصرفون فيها، ويوجب عليهم أن يتثبتوا من كل خبر تسمعه الأذن قبل الحكم على أحد.

وكم من أرحام قطعت ، وصداقات فسدت ، ومصائب وقعت بسبب الوشايات والإشاعات والإرجاف وسوء الظن ، قال الشيخ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله ، (إذا بلغك عن صديقك ما تكره فالتمس له عذرًا من واحد إلى سبعين فإن لم تجد فقل لعل له عذرًا ! وأنت أيتها المسلمة إذا بلغك عن أختك ما تكرهين فالتمسي لها عذرًا من واحد إلى سبعين ، فإن لم تجدي فقولي لعل لها عذرًا !!

وبعد : أيها القارئ الكريم :

أنت لا ترضى لنفسك أن تكون من أهل الإفك، فلا تصدق كل ما تسمع، ولا تنقل كل ما يدخل أذنك .

فكم من بريء رماه الناس بغير ما اكتسب من الإثم !

وكم من مؤمن أساء الناس به الظن !

والله سائلنا عن السمع والبصر والفؤاد ، يحصى الأقوال ، والأفعال ، ولا يغادر كتابه صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .

—————————

(1) التوبة : 119 .

(2) قال الحافظ بن حجر رحمه الله قالت : هذا وإن لم يكن على حقيقته على سبيل المقابلة لما وقع من المبالغة في التنقيب عن ذلك وهي كانت لما تحققته من براءة نفسها ومنزلتها تعتقد أنه كان ينبغي لكل من سمع عنها ذلك أن يقطع بكذبه لكن العذر لهم عن ذلك أنهم أرادوا إقامة الحجة على من تكلم في ذلك ولا يكفي مجرد نفى ما قالوا والسكوت عليه بل تعين التنقيب عليه لقطع شبههم . فتح الباري 8 / 333 .

(3) النور الآية : 11 .

(4) النووي على مسلم 17 / 116 .

(5) الفتح 8 / 337 .

(6) النور الآية 16 .

(7) الحجرات الآية 6 .