كيف تلقى الصحابة كلام الله

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد

عن أبي هريرة رضي الله عنه لما أنزلت على رسول الله ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة قال فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله، فأتوا رسول الله ثم بركوا على الركب فقالوا أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذَلَّتْ بها ألْسِنَتُهم، أنزل الله عز وجل في إثرها (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) البقرة فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قال نعم، (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) قال نعم (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) قال نعم (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) البقرة قال نعم

هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان باب (بيان تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر وبيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق) برقم كما أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم، كما أخرجه بنحوه الإمام مسلم عن ابن عباس برقم، والإمام أحمد برقم، والإمام الترمذي في التفسير باب ومن تفسير سورة البقرة برقم، وأخرجه الإمام الطبري وفيه قصة لابن عمر، كما أخرجه الترمذي نحوه من حديث علي رضي الله عنه برقم، وعن عائشة رضي الله عنها برقم

 شرح الحديث

في هذا الحديث بيان لما كان عليه أصحاب النبي من الفهم لكتاب الله تعالى والتدبر، حتى إنهم إذا نزل القرآن تدبروه، ونظروا فيما يكلفون به، فإن كان مما يطاق سارعوا إلى تنفيذه والعمل به، وإن كان فيه مشقة فإنهم يسارعون إلى رسول الله ليستوضوحوه كيف العمل بهذا الذي لا طاقة لهم به، وهذا الذي يرونه لا تطيقه نفوسهم هو من باب أولى لا تطيقه نفوس غيرهم ولا شك

وعلى ذلك فهم لا يعترضون على التكاليف الشرعية، وإنما يخافون مما هو فوق الطاقة، وفيه الحرج والمشقة أن يحاسبوا على تقصيرهم فيه، كما جاء في رواية الإمام ابن جرير الطبري قال الحافظ في الفتح بإسناد صحيح عن الزهري أنه سمع سعيد بن مرجانة يقول كنت عند ابن عمر رضي الله عنهما فتلا هذه الآية (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) فقال والله لئن واخذنا الله بهذا لنهلكن، ثم بكى حتى سمع نشيجه، فقمت حتى أتيت ابن عباس فذكرت له ما قال ابن عمر وما فعل حين تلاها، فقال يغفر الله لأبي عبد الرحمن، لعمري لقد وجد المسلمون حين نزلت مثل ما وجد، فأنزل الله تعالى (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)

وقد روى الإمام أحمد من طريق مجاهد قال دخلت على ابن عباس فقلت كنت عند ابن عمر فقرأ (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) فبكى، فقال ابن عباس إن هذه الآية لما أنزلت غمت أصحاب رسول الله غمًا شديدًا وقالوا يا رسول الله، هلكنا، فإن قلوبنا ليست بأيدينا فقال (قولوا سمعنا وأطعنا)، فقالوا، فنسختها هذه الآية (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)

ولقد أرشد النبي أصحابه وهذا الإرشاد للأمة كلها إلى عدم التشبه بالمغضوب عليهم أو الضالين، وهم اليهود والنصارى، فإنهم كان من شعارهم مع أنبيائهم إذا أمروا بأمر أن يقولوا سمعنا وعصينا، وبين لهم صلوات الله وسلامه عليه أنه يجب عليهم أن يكون شعارهم (سمعنا وأطعنا)، وبيَّن لهم بعد ذلك أنه إذا صدر من الإنسان شيء من ذلك أو وسوسة في النفس أن يستغفروا الله تعالى فيقولوا (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) استغفار لما بدر منهم مما وقع في نفوسهم من غم بسبب أنه ثقل عليهم القول حتى إنهم بركوا على ركبهم أو جثوا على صدورهم من شدة ما ظنوا أن الله سيحاسبهم على ما تخفيه أنفسهم وتنطوي عليه صدورهم، وهذا مما لا يطاق، وقد فرقوا بين هذا وبين ما سبق تكليفهم به من صلاة وصيام وجهاد وصدقة، فقالوا إن هذا مما نطيقه وقد كلفناه ولا حرج علينا فيه، أما أن نكلف بمتابعة قلوبنا وتفقد خواطرنا فقلوبنا ليست بأيدينا ولا نستطيع التحكم فيها، فإن حاسبنا الله على ذلك هلكنا، فقال لهم النبي (قولوا سمعنا وأطعنا) أي ففي السمع والطاعة بركة عظيمة، كيف والنبي يعلم أن الله تبارك وتعالى أرحم بعباده منهم بأنفسهم، فهو من رحمته سبحانه لا يكلفهم فوق طاقتهم، وهو سبحانه غني عن عنت عباده وغني عن عبادتهم، ولا يكلفهم سبحانه وتعالى إلا ما يطيقون

 ثناء الله على رسوله وعلى المؤمنين

فلما استجاب الصحابة للنبي وقالوا (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) أنزل الله تبارك وتعالى الآية التالية وهي تتضمن ثناء بإثبات الإيمان للرسول والمؤمنين، وهذا معناه فيما قرره العلماء ثناء بدوامهم على الإيمان واستمرارهم عليه، وإلا فالأصل أنهم مؤمنون، لكن لما استجابوا ولم يناقشوا استحقوا الثناء عليهم، فقال تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ)، فالله مالك الملك له ما في السماوات وما في الأرض وإن أظهر الخلق أعمالهم أو أخفوها فإن الله تعالى بها عليم، وقد قال تعالى (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك،، وقال تعالى (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) آل عمران، وقال تعالى (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) طه،، قال ابن كثير في التفسير والآيات في هذا المعنى كثيرة وقد أخبر في هذه الآية بمزيد على العلم وهو المحاسبة على ذلك؛ ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة رضي الله عنهم وخافوا منها ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها، وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم اهـ

وقد عطف المؤمنون على رسول الله في الإيمان؛ ثم فصل إيمانهم هذا بعد إجماله فقال (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)؛ لأنهم أقروا بما أرشدهم إليه الرسول وذَلَّتْ به ألسنتهم وخضعت له قلوبهم فنزل هذا الثناء عليهم ثناء بالإيمان المفصل، وقوله تعالى (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أي نؤمن بجميع الرسل ولا نكفر ببعضهم، فإيماننا بالجميع، لا كما قال الكافرون والمنافقون في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) النساء،

وهذا هو التفريق المنهي عنه، ومثله المفاضلة التي توهم تنقص بعض الرسل، حتى ولو كان فيما قال رسول الله (يأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي وليس معه أحد) متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وكذا ما نهى عنه النبي من المفاضلة بين الأنبياء في قوله صلوات الله وسلامه عليه (لا تفضلوا بين أنبياء الله) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

وأما تفضيل بعض الرسل على بعض الذي ورد في القرآن، مع معرفة فضل كل رسول وعدم تنقص أحد منهم فليس داخلاً في النهي وليس من التفريق بينهم المذموم في كتاب الله عز وجل، فإن الله تبارك وتعالى قال (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) البقرة وكذلك معرفة فضل أولي العزم من الرسل الوارد في قوله تعالى (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الأحقاف

 التخفيف عن الأمة

في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي معنا قال فلما فعلوا ذلك أي خضعوا لله ولرسوله وذلت قلوبهم وخضعت ألسنتهم وامتثلوا أمر نبيهم فقالوا سمعنا وأطعنا فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) إلى آخره

فلما قالوا (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) قال نعم، (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) قال نعم، (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) قال نعم

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قال قد فعلت، (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) قال قد فعلت، (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) قال قد فعلت، (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) قال قد فعلت

وفي الرواية الأخرى لابن عباس رضي الله عنهما قال إن هذه الآية لما أنزلت غَمَّتْ أصحاب النبي ورضي الله عنهم غمًا شديدًا، وغاظتهم غيظًا شديدًا، يعني وقالوا يا رسول الله هلكنا، إنا كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل، فأما قلوبنا فليست بأيدينا، فقال لهم رسول الله (قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) فقالوا سمعنا وأطعنا، قال فنسختها هذه الآية (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) إلى قوله (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)، فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال

قال الحافظ ابن كثير في تفسيره قال ابن عباس رضي الله عنهما فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله عز وجل أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل

ثم قال الحافظ ابن كثير فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أي في القول بالنسخ وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما كما ثبت عن ابن عباس قلت وهو ثابت أيضًا في حديث أبي هريرة الذي معنا قال وهكذا روي عن علي وابن مسعود وكعب الأحبار والشعبي والنخعي ومحمد بن كعب القرظي وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة أنها منسوخة بالتي بعدها

ثم ساق رحمه الله تعالى بعض الأحاديث في رحمة الله بالأمة والتخفيف عنها فقال ما مختصره وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تَكَلَّمْ أو تعمل)، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله (قال الله تعالى إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرًا) اللفظ لمسلم

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله (من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرًا إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت)

قال تفرد به مسلم دون غيره من أصحاب الكتب، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، قال (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك؛ فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة) ثم رواه مسلم وزاد فيه (ومحاها الله، ولا يهلك على الله إلا هالك)

 القائلون بعدم النسخ

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ)، فإنها لم تنسخ، ولكن الله عز وجل إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله (يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) يقول يخبركم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)، وهو قوله (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي من الشك والنفاق، وقد روى العوفي والضحاك عنه قريبًا من ذلك

قال وقد روى ابن جرير عن مجاهد والضحاك نحوه، وعن الحسن البصري أنه قال هي محكمة لم تنسخ، واختار ابن جرير ذلك، واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة، وأنه تعالى قد يحاسب ويغفر، وقد يحاسب ويعاقب، احتج بالحديث الذي رواه بسنده عن صفوان بن محرز قال بينا نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو يطوف إذا عرض له رجل فقال يا ابن عمر؛ ما سمعت رسول الله يقول في النجوى ؟ قال سمعت رسول الله يقول (يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، فيقول له هل تعرف كذا ؟ فيقول رب أعرف مرتين حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، قال فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الأشهاد (هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة

وعلى كلا القولين النسخ وعدمه ففي الروايات اتفاق على ثبوت سعة رحمة الله تعالى وجميل عفوه عن عباده المؤمنين

 ذكر بعض الأحاديث الواردة في فضل الآيتين من آخر سورة البقرة

أورد الحافظ ابن كثير عددًا من الأحاديث في فضل هاتين الآيتين نكتفي باختصار الصحيح منها على النحو الآتي

الأول عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي قال (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) أخرجه الجماعة قلت قال العلماء كفتاه عن قيام الليل، وقيل كفتاه عن أن يحفظ من الشيطان ومن كل ما يضر، ولا مانع من اجتماع الأمرين، والله أعلم

الثاني عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال لما أسري برسول الله انتهي به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) قال فراش من ذهب، قال وأعطي رسول الله ثلاثًا؛ أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا المُقْحِمَاتُ

قلت أي تغفر الذنوب التي تقحم صاحبها في النار إذا لم يشرك بالله شيئًا، والله أعلم

الثالث حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال بينما جبريل قاعد عند النبي سمع نقيضًا من فوقه، فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك؛ فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته رواه مسلم

والمعنى في هذا الحديث أن سورة الفاتحة وخواتيم سورة البقرة لا يقتصر الأجر فيهما على عشر حسنات للحرف، كما هو في سائر القرآن، والله أعلم

 تفسير بعض ألفاظ الآيتين

قوله تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) إخبار من الله تبارك وتعالى عن نبيه صلوات الله وسلامه عليه بذلك وقوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ) عطف على الرسول، ثم أخبر عن الجميع فقال (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)، فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد فرد صمد، لا إله غيره ولا رب سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من عند الله تعالى على عباده المرسلين، لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون مهديون هادون إلى سبل الخير والرشاد، وإن كان بعضهم نسخ شريعة بعض بإذن الله تعالى حتى نسخ الجميع بشريعة نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي تقوم الساعة على شريعته، ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم

وقوله (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أي قالوا سمعنا قولك يا ربنا ووعيناه وتدبرناه وقمنا به وامتثلناه فعملنا بمقتضاه، وقوله تعالى (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا) أي أنهم يسألون الله تعالى المغفرة والرحمة واللطف، وقوله تعالى (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي إليك المرجع والمآب للعرض والحساب

وقوله تعالى (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) أي أن الله تعالى لا يكلف أحدًا ما لا يطيق، وهذا من رحمته تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ولطفه بهم، وهذه هي الناسخة الرافعة لما أشفق منه الصحابة رضوان الله عليهم في قوله (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) أي أنه وإن حاسب سبحانه وسأل، لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه والبعد عنه، فأما ما لا يملك دفعه كالوسوسة وحديث النفس فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان

وقوله تعالى (لَهَا مَا كَسَبَتْ) أي من خير، (وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) أي من شر، وذلك في الأعمال الداخلة في نطاق التكليف، وقوله تعالى (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) أي لا تكلفنا من الأعمال الشاق وإن أطقناه، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم، والتي بعث نبينا محمد نبي الرحمة بوضعه في شرعه الحنيف السهل السمح وقد قال بعض المفسرين إن الله تعالى لم يكلف أحدًا من خلقه فوق طاقته لا من السابقين ولا من اللاحقين، وإنما عاقب بعض أهل الكتاب بالأغلال والآصار بأعمالهم وعنادهم وإعراضهم عن الحق، وأما بداية فلم يكونوا كلفوا إلا ما يطيقون والله أعلم

وقوله تعالى (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) أي من التكاليف والمصائب والبلايا، أي لا تبتلينا بما لا قبل لنا به وقوله (وَاعْفُ عَنَّا) أي فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصير وزلل يقع منا

وقوله (وَاغْفِرْ لَنَا) أي فيما بيننا وبين عبادك فلا تظهر مساوينا وأعمالنا القبيحة لهم

وقوله (وَارْحَمْنَا) فيما يستقبل من أعمارنا؛ فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر، وقد قيل إن المذنب يحتاج في توبته ومحو ذنبه إلى ثلاثة أمور؛ أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره من عباده فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره

 لطيفة

قال بعض العلماء تكرار النداء بـ (ربنا) في قوله تعالى (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) وفي قوله (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) وقوله تعالى (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ)، ولم يذكر النداء في قوله تعالى (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا) والسر في ذلك أن العفو أصل في عدم المؤاخذة، وأن المغفرة أصل في رفع المشقة، وأن الرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية، فلما كان تعميمًا بعد تخصيص كان كأنه دعاء واحد

وقوله (أَنْتَ مَوْلاَنَا) أي أنت يا ربنا ولينا وناصرنا، عليك توكلنا وأنت المستعان وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك

وقوله (فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أي انصرنا وأظهرنا وأظهر دينك وأهل توحيدك على القوم الكافرين الذين جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك، وعبدوا غيرك وأشركوا معك في عبادتك بعض خلقك، وتنكروا لرسالة نبيك محمد، فانصرنا عليهم واجعل العاقبة لنا عليهم ودائرة السوء عليهم في الدنيا والآخرة

وقال ابن جرير في تفسيره بسنده إلى أبي إسحاق أن معاذًا رضي الله عنه كان إذا فرغ من هذه السورة سورة البقرة (وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) قال آمين

هذا، ونسأل الله تعالى أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وأن يجعلنا من أهله الذين يتلونه حق تلاوته فيؤمنون به، وممن يعملون به في الدنيا عقيدة وعبادة ومعاملة وخلقًا وسلوكًا فيرقون به في الآخرة في جنات النعيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين .