تراحم المؤمنين وتعاطفهم

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوًا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى».

هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه؛ كتاب الأدب، باب (رحمة الله والناس والبهائم) برقم (6011)، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه؛ كتاب البر والصلة، باب (تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم)، وأخرجه أيضًا الإمام أحمد في المسند برقم (4/270- 276).

شرح المفردات

قوله: «ترى المؤمنين» في رواية مسلم: «مثل المؤمنين»، والمراد بالمؤمنين أي كاملي الإيمان، الذين اكتمل إيمانهم فلا يتصرفون في أمورهم إلا على كمال الإيمان، لذا كانوا جديرين بهذه الأوصاف.

وقوله: «وتراحمهم» أي أنهم يرحم بعضهم بعضًا، والرحمة متبادلة بينهم، كل منهم يبذلها للآخر، ولا يعامله في معاملة دنيوية أو دينية إلا بمقتضى الرحمة التي جعلها الله تعالى في قلبه.

وقوله: «وتوادِّهم» الأصل أن يُقال في تواددهم، لكن أدغمت الدال في الدال فصارت دالاً واحدة مشددة.

وقوله: «وتعاطفهم» أي أنهم يعطف بعضهم على بعض، ويحنو بعضهم على بعض، والمراد إعانة بعضهم بعضًا كما يُعطف الثوب على الثوب ليقويه.

وقوله: «كمثل الجسد» أي بالنسبة لجميع أعضائه، ووجه الشبه فيه التوافق في التعب والراحة.

وقوله: «تداعى» أي: دعا بعضه بعضًا إلى المشاركة في الألم، ومنه: «تداعى الأكلة إلى قصعتها» أي: أن الأمم كأنها تدعو كل أمة غيرها للمشاركة في الهجوم على المسلمين.

وقوله: «بالسهر والحمى»: أما السهر فلأن الألم والتعب يمنع النوم، وأما الحمى فلأن الألم وفَقْد النوم يثيرها. قال الحافظ: وقد عرَّف أهل الحذق الحمى بأنها حرارة غزيرة تشتعل في القلب فتشبّ منه في جميع البدن فتشتعل اشتعالاً لا يضر بالأفعال الطبيعية.

شرح الحديث

وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث المؤمنين بثلاث صفات؛ شبههم فيها بالجسد الواحد المترابطة أجزاؤه المتوافقة أعضاؤه، التي لا تنفك عنه بحالٍ من الأحوال؛ هذه الصفات هي:

أولاً: التراحم؛ وهذه الصفة التي جاءت على صيغة التفاعل تقتضي الرحمة المتبادلة بين أفراد الأمة المسلمة، فكل واحد منهم يرحم غيره، وقد جاء في تعريف الرحمة: أنها إرادة إيصال الخير إلى الغير، كما جاء في تعريفها أيضًا أنها: حالة وجدانية تعرض غالبًا لمن به رقة القلب، وتكون مبدأً للانعطاف النفساني الذي هو مبدأ الإحسان.

هذا، وقد جاءت الرحمة في القرآن الكريم بمعاني كثيرة، منها أنها تعني الألفة والمحبة بين أهل الإيمان، كما في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27].

الرحمة تقتضي الحزم

الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى الإنسان، وإن كرهتها نفسه وشقت عليه، فهذه هي الرحمة الحقيقية؛ فأرحم الناس بالناس من شق عليهم في إيصال مصالحهم إليهم، ودفع المضار عنهم، فمن رحمة الأب بولده أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود عليه بالضرر والفساد، ومتى أهمل ذلك مع ولده كان ذلك لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه بالإهمال ويرفهه ويريحه، فهذه رحمة مقرونة بجهل، ولذلك كان من تمام رحمة أرحم الراحمين سبحانه تسليط أنواع البلاء على العبد؛ فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته من رحمته سبحانه وتعالى به.

وصدق أبو تمام في قوله:

قسا ليزدجروا، ومن يك حازمًا            فليقسُ أحيانًا على مَن يرحم

من صور رحمة الله تعالى بعباده

من رحمة الله تعالى بعباده ابتلاؤه بالأوامر والنواهي، رحمة لهم وتفضلاً عليهم، لا حاجة منه إليهم فيما أمرهم به أو نهاهم عنه، سبحانه، ومن رحمته سبحانه بعباده أن نغّص عليهم الدنيا وجعلها عليهم كَبَدًا لئلا يطمئنوا إليها ويرغبوا عن النعيم المقيم في جنته ودار كرامته؛ فساقهم إليها بسياط الابتلاء؛ فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم، وأمرهم سبحانه أن يفرحوا بهذه الرحمة التي تَفَضَّل بها عليهم، قال تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].

وهذه الرحمة التي تحصل للمؤمنين المهتدين تكون بحسب هداهم، فكلما كان نصيب الواحد من الهداية أتم كان حظه من الرحمة أعظم وأوفر، لذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم أرحم الأمة، قال الله تعالى في شأنهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، والصديق رضي الله عنه كان أرحم الأمة؛ لأن الله تعالى جمع له بين سعة العلم وسعة الرحمة.

الرحمة صفة من صفات نبي الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم

لقد كان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- رحيمًا بالخلق عمومًا، وبالمؤمنين على وجه الخصوص، وقد وصفه الله تعالى بذلك؛ فمدحه وبيَّن فضله صلوات الله وسلامه عليه، كما جاء أيضًا في سنته الكثير مما يبين اتصافه -صلى الله عليه وسلم- بالرحمة، فمن ذلك ما جاء في كتاب الله تعالى قوله جل ثناؤه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقال جل ذكره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

ومما ورد في السنة مما يبين ذلك:

1- حديث أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذني فيُقعدني على فخذه، ويُقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر، ثم يضمهما ثم يقول: «اللهم ارحمهما؛ فإني أرحمهما». [أخرجه البخاري: 6003].

2- حديث مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – قال: أتيتنا النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن شَبَبَةٌ متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه، وكان رقيقًا رحيمًا صلى الله عليه وسلم، فقال: «ارجعوا إلى أهليكم؛ فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبرهم». [متفق عليه واللفظ للبخاري].

3- حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسمّي لنا نفسه أسماء، فقال: «أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفِّي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة». [مسلم: 2355].

4- حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الأقرع بن حابس أبصر النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبّل الحسن، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت واحدًا منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه من لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمْ». [متفق عليه].

5- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أعتم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى – أي العشاء – فقال: «إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي». [متفق عليه واللفظ لمسلم].

6- حديث أبي قتادة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطوّل فيها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه». [متفق عليه، واللفظ للبخاري].

7- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، ادع على المشركين، قال صلى الله عليه وسلم: «إني لم أُبعث لعانًا، وإنما بُعثت رحمة». [مسلم: 2599].

8- حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن ابنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ورضي عنها أرسلت إليه عند وفاة ابنها فأتاها ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرُفع الصبي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تقعقع، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء». [متفق عليه واللفظ للبخاري].

9- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في شأن دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: «يا ابن عوف، إنها رحمة»، ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون». [متفق عليه واللفظ للبخاري].

10- حديث عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ورضي عنها، وفيه أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى جبريل، فقال له جبريل: إن الله بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال صلى الله عليه وسلم: «فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا». [متفق عليه واللفظ للبخاري].

تراحم الصحابة رضي الله عنهم

وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم كانوا رحماء بينهم، كما قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، كان كبيرهم يرحم صغيرهم، وصغيرهم يوقر كبيرهم، وفي هذا من التراحم ما يجعلهم خير من اقتدى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتأسى به، كيف وقد عاينوا رحمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالكبير والصغير والمسلم وغير المسلم من كتابيّ وغير كتابي، فقد خلّفوا لنا التراحم، فهل نتأسى بهم كما تأسوا برسولهم صلوات الله وسلامه عليهم ورضي الله عنهم أجمعين؟!

ثانيًا: التوادُّ

جاءت هذه الصفة في الحديث على صيغة التفاعل التي تقتضي أن يكون التعامل فيها بين طرفين فأكثر، فكل مؤمن يودُّ أخاه، ويودُّه أخوه، فهي مفاعَلَة من الجانبين.

وعُرِّفَ التوادُّ بأنه التواصل الجالب للمحبة، أو هو التواصل على المحبة، وعُرِّفَ أيضًا بأنه طلب مودة الأكفاء بما يوجب ذلك.

وقد استعمل التودد بمعنى المحبة، وبمعنى التمني، قال الراغب في المفردات: الودُّ محبة الشيء وتمني كونه، ويستعمل في كل من المعنيين – أي المحبة والتمني – على أن التمني يتضمن معنى الودِّ؛ لأن التمني هو تشهي حصول ما نودّه، وقوله عز وجل: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، وقوله تبارك وتعالى: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]، إشارة إلى ما أوقع بينهم من الألفة المذكورة في قوله سبحانه: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 93]. وفي المودة التي تقتضي المحبة المجردة جاء قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، وقال ابن منظور: الوُدُّ: الحب، يكون في جميع مداخل الخير.

التودد بين المسلمين

عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقيل له: أصلحك الله! إنهم الأعراب، وإنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن أبرّ البر صلة الولد أهل وُدِّ أبيه». [مسلم: 2552].

وقد رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتزوج المسلم المرأة الودود – أي ذات الوُدِّ والتودُّد والتحبب لزوجها، وهي البكر الولود؛ لأن وجود الولد بين الزوجين من دواعي المودة والألفة والمحبة، فعن معقل بن يسار – رضي الله عنه – قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: «لا». ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: «تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم». أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 2940].

وقد نفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تكون هناك خلة بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين أحد من المسلمين، ولو كان متخذًا خليلاً لاتخذ أبا بكر رضي الله عنه خليلاً، فقال كما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «… ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر». [البخاري 466].

هذا، وقد وردت آثار عن بعض الصحابة والتابعين وأئمة الهدى في أهمية التودد بين المسلمين، نذكر طرفًا منها، وقد نقلناها من كتاب نضرة النعيم، فمن ذلك:

1- قال عمر رضي الله عنه: «ثلاث يصيفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته، وتوسّع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه».

2- قال الأحنف بن قيس: «خير الإخوان إن استغنيت عنه لم يزدك في المودة، وإن احتجت إليه لم ينقصك منها».

3- قال الماوردي: «البر هو المعروف، ويتنوع نوعين قولاً وعملاً؛ فأما القول فهو طيب الكلام وحسن البِشْر، والتودد بجميل القول، وهذا يبعث عليه حُسن الخلق ورقة الطبع».

4- كتب إبراهيم بن العباس إلى أحد إخوانه: «المودة يجمعنا حبلها، والصناعة تؤلفنا أسبابها، وما بين ذلك من تراحم في لقاءٍ أو تحلّف في مكاتبة موضوع بيننا يجب العذر فيه».

5- عن الحسين بن عبد الرحمن قال: كان يقال: «إن المودَّة قرابة مستفادة». وقالوا: «إن الصديق من صدقك وده، وبذل لك رفده»، وقيل: «القرابة تحتاج إلى مودة، والمودة لا تحتاج إلى قرابة».

6- قال جعفر الصادق – رحمه الله تعالى -: «مودةُ يوم صلةٌ، ومودةُ شهر قرابةٌ، ومودة سنة رحم مائية، من قطعها قطعه الله».

ثالثًا: التعاطف:

وهذه الصفة الثالثة التي جاءت في الحديث؛ جاءت أيضًا بصيغة التفاعل التي تدل على حدوث العطف من جانبين، أي أن كل مسلم يعطف على أخيه المسلم، ويرأف به ويرحمه ويشفق عليه.

ومادة عَطَفَ تدل على الانثناء والانعياج، يقال: عَطَفْتُ الشيء إلى أملته، وانعطف إذا انعاج، ويقال: عَطَفَ يَعْطِفُ من باب (ضرب)، وهو الحنان والميل، تقول: عَطَفَتِ الناقة على ولدها عطفًا إذا حنَّتْ عليه ودَرَّ لبنها، وعطف الله تعالى قلب السلطان على رعيته إذا جعله عاطفًا رحيمًا. ويقال أيضًا: امرأة عَطُوفٌ: مُحِبّة لزوجها، حانية على أولادها، وامرأة عَطَفٌ: لينة هينة ذلول مطواع لا كِبر فيها.

ويقال كذلك: تعطّف عليه: وصله وبرَّه، وتعطف على رحمة الله: رَقَّ لها وأشفق، وتعاطفوا: عطف بعضهم على بعض، ورجل عاطف وعطوف أي عائد بفضله، حسن الخُلُق.

وقال الراغب: العطف يقال في الشيء إذا ثني أحد طرفيه إلى الآخر؛ كعطف الغصن والوسادة والحبل، ويستعار للميل والشفقة إذا عُدِّيَ بـ (على) نحو عطف عليه، وإذا عدى بـ «عن» يكون على الضِّدِّ، نحو: عطفت عنه بمعنى أعرضت وصددت.

الفرق بين التراحم والتواد والتعاطف

نقل الحافظ في الفتح عن أبي محمد بن أبي جمرة قوله: الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف – وإن كانت متقاربة في المعنى – لكن بينها فرق لطيف، فأما التراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضًا بأخوة الإيمان لا بسبب شيء آخر، وأما التواد فالمراد به التواصل الجالب للمحبة كالتزاور والتهادي، وأما التعاطف، فالمراد به إعانة بعضهم بعضًا، كما يعطف الثوب عليه ليقويه. اهـ.

قال القاضي عياض: «.. فتشبيهه -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين بالجسد الواحد تمثيل صحيح، وفيه تقريب للفهم، وإظهار للمعاني في الصور المرئية. وفي الحديث تعظيم حقوق المسلمين، والحض على تعاونهم، وملاطفة بعضهم بعضًا».

وقال ابن أبي جمرة: «شبّه النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان بالجسد، وأهله بالأعضاء؛ لأن الإيمان أصل، وفروعه التكاليف، فإذا أخلَّ المرء بشيء من التكاليف شَانَ ذلك الإخلالُ الأصلَ، وكذلك الجسد أصل كالشجرة، وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضو من الأعضاء اشتكت الأعضاء كلها؛ كالشجرة إذا ضُربَ من أغصانها غصن اهتزت كلها بالتحرك والاضطراب.

الذي يجب أن يكون عليه حال المسلمين:

على المسلمين أن يتمسكوا بدينهم، ويعملوا بكتاب ربهم وسنة بينهم صلوات الله وسلامه عليه، عليهم أن يهتدوا بهدي القرآن الكريم الذي قال عنه منزله سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وبهدي خاتم النبيين وإمام المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن فعلوا كانوا خير أمة أخرجت للناس؛ تسود بينهم الألفة والمودة والرحمة والعطف والرأفة، ذلك لأنهم إخوة، كما وصفهم رب العالمين في قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وكما امتن عليهم رب العزة سبحانه بتأليف قلوبهم بعد أن كانوا متفرقين، فقال جل ثناؤه آمرًا إياهم بالاعتصام بحبله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا…} [آل عمران: 103]، ونهاهم عن التفرق فقال سبحانه: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].

فإذا عرف المسلمون حقيقة الدنيا، فإنهم لن يتنافسوها كما تنافسها الذين من قبلهم، ولن يقطع أحد رحمه ولن يعادي إخوانه، وإنما يسود التراحم والتواد والتعاطف؛ لأن الجميع يريد رضا رب العالمين، ولا يحرص على الدنيا ومتاعها الذي يؤدي إلى التقاطع والتدابر والتخاصم الذي يؤدي بصاحبه إلى سخط الرب تبارك وتعالى، وإلى غضب الخلق والقسوة بينهم.

نسأل الله تعالى أن يهدينا وسائر المسلمين صراطه المستقيم، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يباعد بيننا وبين سوء الأخلاق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.