الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعد،
فهذه هي الرسالة الثانية من الإمام الحافظ الخطيب البغدادي-رحمه الله- من كتابه الحافل” الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ”. قال[1/80]: يَجِبُ عَلَى طَالِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يُخْلِصَ نِيَّتَهُ فِي طَلَبِهِ، وَيَكُونَ قَصْدُهُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ(1).
ثم ذكر بإسناده حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا: “إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى”(2).
ثم قال[1/83]: وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَجْعَلَهُ سَبِيلًا إِلَى نَيْلِ الْأَعْرَاضِ(3)، وَطَرِيقًا إِلَى أَخْذِ الْأَعْوَاضِ(4)، فَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ لِمَنِ ابْتَغَى ذَلِكَ بِعِلْمِهِ.
ثم ذكر بإسناده حديث عبد الله بن عمرو، وحديث أبي هريرة مرفوعًا” مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضَ الدُّنْيَا [ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا] لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ “[لم يرح رائحة الجنة](5).
وقال-رحمه الله-[1/85]: وَلْيَتَّقِ الْمُفَاخَرَةَ وَالْمُبَاهَاةَ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ نَيْلَ الرِّئَاسَةِ وَاتِّخَاذَ الْأَتْبَاعِ وَعَقْدَ الْمَجَالِسِ، فَإِنَّ الْآفَةَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَكْثَرُهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ(6).
وقال[1/87]: وَلْيَجْعَلْ حِفْظَهُ لِلْحَدِيثِ حِفْظَ رِعَايَةٍ، لَا حِفْظَ رِوَايَةٍ، فَإِنَّ رُوَاةَ الْعُلُومِ كَثِيرٌ، وَرُعَاتَهَا قَلِيلٌ، وَرُبَّ حَاضِرٍ كَالْغَائِبِ وَعَالِمٍ كَالْجَاهِلِ، وَحَامِلٍ لِلْحَدِيثِ لَيْسَ مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ، إِذْ كَانَ فِي اطَّرَاحِهِ لِحُكْمِهِ بِمَنْزِلَةِ الذَّاهِبِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَعِلْمِهِ(7).
وساق بإسناد ضعيف عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، قال[1/89]: “يَا حَمَلَةَ الْعِلْمِ، اعْمَلُوا بِهِ، فَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَوَافَقَ عَمَلُهُ عِلْمَهُ، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، تُخَالِفُ سَرِيرَتُهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ، وَيُخَالِفُ عَمَلُهُمْ عِلْمَهُمْ، يَجْلِسُونَ حِلَقًا، فَيُبَاهِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى أَنَّ أَحَدَهُمْ لَيَغْضَبُ عَلَى جَلِيسِهِ حِينَ يَجْلِسُ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدَعُهُ، أُولَئِكَ لَا تَصْعَدُ أَعْمَالُهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ تِلْكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”(8).
وساق بإسناد حسن عن مطر بن طهمان الورَّاق(ت 125هـ) قال[1/90]: “خَيْرُ الْعِلْمِ مَا نَفَعَ، وَإِنَّما يَنْفَعُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ مَنْ عَلِمَهُ ثُمَّ عَمِلَ بِهِ، وَلَا يَنْفَعُ بِهِ مَنْ عَلِمَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ”. نسأل الله العفو والعافية، وأن يجعلنا من أهله العاملين به.
وبمثل سابقه أخرج عن سفيان بن عيينة(ت198هـ) قال[1/90]: “إِنَّمَا مَنْزِلَةُ الَّذِي يَطْلُبُ الْعِلْمَ يَنْتَفِعُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ يَطْلُبُ كُلَّ شَيْءٍ يُرْضِي سَيِّدَهُ، يَطْلُبُ التَّحَبُّبَ إِلَيْهِ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ وَالْمَنْزِلَةَ عِنْدَهُ؛ لِئَلَّا يَجِدَ عِنْدَهُ شَيْئًا يَكْرَهُهُ”.
وقال(9): قال سفيان[1/90]: “إِنْ أَنَا عَمِلْتُ بِمَا أَعْلَمُ فَأَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمَا أَعْلَمُ فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ أَجْهَلَ مِنِّي”.
قلت: صبري: ذلك لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]. ولقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [الصف: 2، 3]. ولقول أبي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه-: إنَّ أَخْوَف مَا أَخَافُ إذَا وَقَفْت عَلَى الْحِسَابِ أَنْ يُقَالَ لِي: قَدْ عَلِمْت فَمَا عَمِلْت فِيمَا عَلِمْت(10). فالعلم يقتضي العمل.
واعلم أخي الداعية، أن علم ابن عيينة الإمام الحجة، هو قال الله، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي سبق النقل عنه قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الميزان الأكبر، فعليه تُعرض الأشياء على خُلقه وسيرته وهديه، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل(11).
وهو-رحمه الله- على طريق سلفه الصالح المتمثل في قول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: “إنَّا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع”.
واعلم أخي، ولوكنت وحدك، وأنت على ذلك، فأنت أمة، المهم الثبات على المبدأ الحق وليس حقًّا سوى ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
اللهم فقهنا في ديننا، واغفر لنا وارحمنا
كتبه
صبري محمد عبد المجيد
—
(1) وطالب الحديث كطالب سائر العلوم التي يقوم بها العلم بالدين والفقه فيه، وإنما خص الحديث بالذكر لرئاسته.
(2) حديث متفق عليه، ولفظ المصنف مختصر على شطره الأول.
(3) جمع عَرَض، والمراد به حطام الدنيا.
(4) جمع عِوَض: والمراد به ما يأخذه من الأموال عِوضًا عن تعليمه الناس، والمعنى المنهي عنه: ألا يكون قصده من طلب العلم الحصول على المنصب والمال والثناء عليه.
(5) حديث حسن: مروي من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وابن عمرو، وجابر، وحذيفة، وأنس، وكعب بن مالك. ولا تخلو من مقال.
(6) الحديث داخل في عموم الخبر، وخصَّ بالذكر لرئاسته العلوم. قوله: “فإن الآفة. . . إلخ” هذا إن كان عالمًا، فكيف بمن ليس بعالم ولا طالب علم فوسَّد نفسه فيما ليس له أهل؟! ! ، وإذا كان هذا في زمن الخطيب البغدادي(ت463هـ) فكيف بزماننا1437هـ؟! !.
(7) خرِّج هذا على الواقع الذي نعيشه وأنت متأمل متدبر! نسأل الله الستر والسلامة.
(8) وذكره أبو عمر بن عبد البر في كتابه الجامع” جامع بيان العلم وفضله” معلقًا عن علي -رضي الله عنه- بلفظه. والمتن له ما يؤيده من القرآن وصحيح الأخبار والآثار منطوقًا ومفهومًا، بما يطول ذكره، وهو واقع نراه ونسمعه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، نعوذ بالله من الخذلان.
(9) القائل هو عبد الله بن وهب المصري الفقيه الحافظ الراوي عن سفيان بن عيينة.
(10) مصنف ابن أبي شيبة (35741).
(11) انظر مقدمة العدد(9)