الحمد لله والصلاة والسلام على رسولنا محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين، وبعد
فإن الأبناء هم جيل القدوة، والقيادة، ولذا اهتم بهم الشارع الحكيم من البداية، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ” كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ”. (1)
والراعي على الشيء هو الحافظ المؤتمن الملتزم بصلاح ما قام عليه، وما هو تحت نظره فهو مطالب بالعدل فيما أتمن عليه، ولا يكون العدل عدلا إلا بالمحافظة على حق المؤتمن عليهم، والقيام بمصالحهم الدينية والدنيوية، ومن جانب آخر تتضمن تقوى الله في المسئول عنهم.
ففي حديث معقل بن يسار -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. (2)
وهذا ظاهر في التحذير من غش المسلمين، لمن قلده الله شيئاً من أمرهم، واسترعاه عليهم، ونصبه لمصلحتهم في دينهم ودنياهم، فالتفريط في حق من أتمن عليهم غش.
أرأيتم خطورة المسئولية التي يتنافس عليها المتنافسون؟ ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)). (3)
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ” مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَالْمَكْرُ، وَالْخِدَاعُ فِي النَّارِ)). (4)
منشأ الإصلاح والإفساد:
من الأسرة، والأسرة من زوجين، ولذا اهتم الشارع الحكيم بهما ابتداءً، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ” تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ “. (5)
فهذا نص جمع بين الإخبار، والإقرار، والاختيار، وفيه خير الدنيا والآخرة، والخاسر الشقي التارك لاختيار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ اللائق بذي الدين والمرؤة أن يكون الدين صوب نظره في كل شيء، لاسيما فيما تطول فيه صحبته، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتحصيل صاحبة الدين، والتي هي غاية البُغية.
وفي المقابل المرأة كذلك، بمفهوم المخالفة من النص، فهي مأمورة بانتقاء صاحب الخلق والدين، وذلك بلازم قوله -صلى الله عليه وسلم- ” إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ. (6)
وبلازم قوله -صلى الله عليه وسلم- “. . . . . . . . . . إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ “. (7)
وعلامة التدين الاستقامة على ما عرف المسلم من دينه، بين افعل ولا تفعل على قاعدة قوله تعالى في جانب الحلال {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وفي جانب الحرام {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة: 187].
وقوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].
وقوله -صلى الله عليه وسلم- ((دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)). (8)
والمقصود أن الأصل في المسلم أن يكون متديناً مستقيماً، يحرص على اختيار الموضع المناسب قبل وضع قدميه، يحرص على استبيان الحلال والحرام قبل الشروع في أي مسلك، يعرض ما يقوله وما يفعله على الشرع.
وعلى هذا ينبغي أن تقوم الأسرة في الزوج والزوجة، ومنها يكون هذا في أولادهما، وهنا الهدف الذي منه وفيه كل شيء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر على المستوى العام والخاص.
ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ” كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ البَهِيمَةِ تُنْتَجُ البَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ)). (9)
والشاهد منه أن مناط التغيير في الأبوين، بقرينة قوله -صلى الله عليه وسلم- ” مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)). (10)
وفيه أن الصلاة رأس الأمر كله، لقوله تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
وعليه فعلموه الأخلاق الحسنة، والأمانة، والصدق، والعدل، والإحسان، والامر بالشيء الحسن، يلزمه النهي عن الشيء السيء.
والمقصود أن المحافظة على المسالك الحسنة التي أمر بها الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- هي غاية المدنية والحرية على قاعدة قوله تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [القصص: 77]، فالمسلم يكون عزيزاً بدينه إذا أقامه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ويتفرع عن هذه قاعدة مهمة: ” صلاح الآباء ينفع الأبناء “، وتقوى الأصول تنفع الفروع، والعكس، وعليه، فالعوامل المؤثرة في شخصية المسلم يمكن حصرها في خمسة عوامل أصلان وثلاثة توابع.
أما الأصلان فهما: الأسرة، وهي رأس الأمر كله، فهي أساس البناء والتكوين بين الصلاح والفساد.
فهذه أسرة طيبة متماسكة مترابطة، ثمرتها صالحة نافعة للمجتمع، والأمة، وهذه أسرة خبيثة رديئة مفككة مهلهلة ثمرتها طالحة مضرة للأمة وللمجتمع.
الأصل الثاني: المسجد، قال تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [التوبة: 18]، فالمسجد دعامة قوية في بناء المجتمع الإسلامي، وقاعدة راسخة في التبليغ والدعوة إلى الطريق المستقيم طريق الله ورسوله، ومنارة هداية لإيقاظ الغافلين وإرشاد التائهين، وتقويم اعوجاجهم.
وإذا كان الإسلام وكل إلى الأسرة مهمة تنشئة الأبناء على الإصلاح، فإنه أناط بالمسجد مسئولية المشاركة في البناء والتكوين الشخصي والأسري والاجتماعي، فنراه رغب في التردد عليه في الغدوة والروحة ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ((مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ رَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا، كُلَّمَا غَدَا، أَوْ رَاحَ)). (11) يأتيه للصلاة العبادة والعلم.
ونراه لم يحرم المرأة من ذلك لأنها ركن في البناء والتكوين ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ((لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ)). (12)، وفي لفظ ((إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى المَسْجِدِ فَلاَ يَمْنَعْهَا)). (13)
لكن هذا بشروط 1- أن تكون متحجبة 2- أن لا تكون متطيبة ولا متزينة بزينة 3- أن لا تختلط بالرجال 4- أن تكون آمنة في طريقها إلى المسجد.
ونراه أباح للأطفال الدخول إلى المسجد لاسيما برفقة والديه، وهما على قسمين:
قسم يدرك ويعقل ما يقال له، وشاهده في قوله -صلى الله عليه وسلم- ” مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)). (14)
وهذا ظاهره أنه لا يكتفى بالبيت بل يأخذه إلى المسجد ويروضه.
وقسم لا يعقل ولا يدرك ما يقال له، وهذا لا يأتي إلا اضرارا أو حينا بعد حين، وفي رفقة أبيه أوأمه غالبا وهذا يُرحم ولا يعنف.
وأما التوابع: فثلاثة 1- المدرسة وخلاصته من المدرس؟ ومن المدرسة (المعلمة)؟ ومن أين؟ الجواب من تلك الأسرة، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
الإعلام: وخلاصته: من الإعلامي؟ ومن الصحفي؟ ومن أين؟ الجواب من تلك الأسرة.
الشارع: وخلاصته: من الذي في الشوارع والمؤسسات العامة والخاصة؟ ومن أين؟ الجواب من تلك الأسرة.
ومن حيث بدأنا نرجع وحديث ابن عمر مرفوعاً (( كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)). (15)
فهل الجيل القائم جيل القدوة، والقيادة؟ ومتى يكون؟ ومن المسئول؟
نسأل الله العفو والعافية، والهداية والتوفيق إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يحفظنا وبلادنا من مكر الماكرين وكيد الكائدين، إنه عليم قدير وهو نعم المولى ونعم النصير
كتبه
صبري محمد عبد المجيد
—
(1) صحيح البخاري (3/ 150) رقم 2554، صحيح مسلم (3/ 1459) رقم 20 (1829).
(2) صحيح مسلم (1/ 125) رقم 227(142) واللفظ له، صحيح البخاري (9/ 64) رقم 7150.
(3) صحيح مسلم (1/ 99) رقم 164(101).
(4) إسناده حسن أخرجه ابن حبان في صحيحه (2/ 326) رقم 567، والطبراني في المعجم الكبير (10/ 138) رقم 10234، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 189)، والشهاب القضاعي في مسنده (1/ 229) رقم 354، وانظر السلسلة الصحيحة (3/ 48) رقم 1058.
(5) صحيح البخاري (7/ 7) رقم 5090، صحيح مسلم (2/ 1086) رقم 53 (1466).
(6) حسن لغيره أخرجه الترمذي في سننه (2/ 385) رقم 1084، وابن ماجه (1/ 632) رقم 1967، والطبراني في المعجم الأوسط (1/ 141) رقم 446وجماعة غيرهم من حديث أبي هريرة من طرق وفي الباب أحاديث أخرى عن أبي حاتم المزني وعائشة رضي الله عنهما.
(7) حسن لغيره أخرجه أحمد في مسنده (43/ 264) رقم 26195، وأبو داود في سننه (1/ 61) رقم 236، وغيرهما من حديث عائشة وانظر السلسلة الصحيحة (6/ 860) رقم 2863.
(8) صحيح البخاري (9/ 94) رقم 7288، ومسلم مختصراً من حديث أبي هريرة.
(9) صحيح البخاري (2/ 100) ( 1385)، صحيح مسلم (4/ 2047) (2658) من حديث أبي هريرة.
(10) حديث حسن أخرجه أبو داود (1/ 133) رقم 495، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 347) رقم 3501 وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأخرجه أبو داود في سننه (1/ 133) رقم 494، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 347) رقم 3500 ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير (7/ 115) رقم 6548 من حديث سبرة بن معبد الجهني.
(11) صحيح مسلم (1/ 463) رقم 285(669) واللفظ له، صحيح البخاري (1/ 133) رقم 662.
(12) صحيح مسلم (1/ 327) رقم 136 (442) واللفظ له، صحيح البخاري (2/ 6) رقم 900.
(13) صحيح البخاري (7/ 38) رقم 5238، صحيح مسلم (1/ 326) رقم 134(442)
(14) حسن. أخرجه أبو داود ( 495)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 347) رقم 3501 وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأخرجه أبو داود في سننه (494)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 347) (3500) ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير (7/ 115) رقم 6548 من حديث سبرة بن معبد الجهني.
(15) صحيح البخاري (3/ 150) رقم 2554، صحيح مسلم (3/ 1459) رقم 20 (1829).