شواهد المحبة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-وبعد،

فإن العبادة إِنَّمَا تبنى عَلَى ثلاثة أصول: الخوف والرجاء والمحبة.

وكل منهما فرض لازم، والجمع بين الثلاثة حتم واجب، فلهذا كان السَّلف يذمون من تعبد بواحد منها وأهمل الآخرين؛ فإن بدع الخوارج ومن أشبههم إِنَّمَا حدثت من التشديد في الخوف والإعراض عن الرجاء، وبدع المرجئة نشأت من التعليق بالرجاء وحده والإعراض عن الخوف، وبدع كثير من أهل الإباحة والحلول ممن ينسب إِلَى التعبد، نشأت من إفراط المحبة والإعراض عن الخوف والرجاء.

إن الخلل في تحقيق هذه الأصول الثلاثة ترتب عليه خلل عقدي وعملي عظيم، ولك أن تنظر إلى واقع الأمة الإسلامية اليوم لترى شواهد هذا الخلل.

فمن شدد في الخوف تبنى مذهب الإسقاط والتخوين لمن خالفه، فظهرت مذاهب قامت على التكفير والتبديع لمن خالفها في أي جزئية من جزئيات تعمقوا فيها،

وآخرين غلوا في الرجاء فأهملوا أعمال الشريعة وواجباتها وسننها، وياليت الأمر وقف عند هذا التطرف، بل زادت على ذلك فأعلنت النكير على المتمسكين بسنن المرسلين والتبرؤ من السمت الصالح القويم بل ألبسوا المتدينين نحلة المتطرفين ورموهم بكل وصف يزعج المؤمنين

وهم مع ذلك يصاحبون الساقطين ويمازحون المجرمين ويثنون على الفاسقين، ومنهم من يصفهم بالأتقياء الصالحين وهؤلاء كثر لا كثر الله منهم في البلاد.

وثالثة الأثافي مع الغارقين في الوجد والتيه جعلوا العبادة دعاوى، يدعون المحبة وهم منها في منأى قد هجروا الإصلاح وابتعدوا عن الصلاح وما الدين عندهم إلا رقص وأفراح.

ولهذا فهم أسعد الناس بالعطايا قد رضي المجرمون منهم التعبد بالخطايا فعليهم من الله المنايا.

فأهل محبة الله لهم علامات يعرفون بها ومنها كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].

لله تعالى أولياء وناصرون مدخرون في علم الله إن ينصرف هؤلاء يجيء الله بهؤلاء يقومون بكل ما تركه أولئك

فيا معشر الدعاة إلى الله إن أوقفك الله لنصرة دينه والدعوة له إياك أن تتخلى عن هذا التشريف فإن توليت استبدلك الله بخير منك {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38)

فوصف الله تعالى أهل محبته في هذه الآية بأوصاف أربعة:

الأول: الذلة على المؤمنين، والمراد لين الجانب وخفض الجناح والرأفة والرحمة للمؤمنين، كما قال تعالى لرسوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فهم يتواضعون للمؤمنين ويرحمونهم كالوالد مع ولده

الثاني: العزة على الكافرين، والمراد الشدة والغلظة عليهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} فالعداوة نشأت من اختلاف العقائد وليس من علو الموائد فبغضنا لهم لله وحده

الثالث: الجهاد في سبيل الله وهو مجاهدة أعدائه باليد واللسان، وذلك أيضاً من تمام معاداة أعداء الله الَّذِي تستلزمه المحبة، ولما ترك المسلمون هذه الفريضة سلط الله عليهم ذلا نراه اليوم ماثلا أمامنا في كثير من بلاد المسلمين

الرابع: أنهم لا يخافون لومة لائم، والمراد أنهم يجتهدون فيما يرضى به من الأعمال ولا يبالون بلومة من لامهم في شيء منه إذا كان فيه رضا ربهم.

وهذا من علامات المحبة الصادقة، وإن المحب يشتغل بما يرضي به حبيبه ومولاه، ويستوي عنده من حمده في ذلك أو لامه، (1)

فاجعل غايتك رضاء ربك وإن سخطك الناس ولاموك فرضى الناس غاية لا تدرك فعليك بما فيه نجاتك وفلاحك في الآخرة، واعلم أنك إن امتثلت ذلك حول الله قلوب الناس إليك فانقلب الذَّامُّ لك بعدها حامدًا.

وصلى الله على النبي محمد وآله وأصحابه

والحمد لله أولا وآخرًا.

(1) وانظر في ذلك رسالة الحافظ ابن رجب استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس.