أحمد بن حنبل إمام أهل السنة

المقدمة

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ ، الذي أرسله ربه هادياً ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.أما بعد:

فإن الإمام أحمد بن حنبل من الشخصيات البارزة في تاريخ الفقه الإسلامي، والتي خصصت حياتها لنصرة سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- ، والتصدي لأهل البدع . وقد تناولت الحديث في هذه الرسالة عن اسمه ونسبه،وزوجاته،وأولاده ،وأخلاقه، وطلبه للعلم، وعبادته،وزهده،وثناء العلماء عليه ،ومحنته،ثم ختمت الرسالة بالحديث عن مرضه،ووفاته ، وجنازته .

أسألُ اللَه تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به طلاب العِلْمِِ.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .وصلى اللهُ وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله، وصحبه، والتابعينَ لهم بإحسان إلى يوم الدين.

صلاح نـجيب الدق

بلبيس ـ مسجد التوحيد

اسم الإمام أحمد ونسبه:

هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني،ويُكنى بأبي عبد الله.

(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 178)

مولد الإمام أحمد :

وُلِدَ أحمد بن حنبل في ربيع الأول في بغداد سنة أربع وستين و مئة.ومات والده، شاباً، له نحو من ثلاثين سنة.

وعاش أحمد يتيماً، وقامت أمه على تربيته، وقد كان أسمر اللون .

(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 179)

زوجات أحمد وأولاده :

لم يتزوج أحمد إلا بعد سن الأربعين .تزوج أولاً بامرأة ،تُسمى عباسة بنت الفضل، فلم يُولد له منها سوى صالح،وعاشت معه عشرين سنة، ثم توفيت، ثم تزوج بعدها ريحانة، فما ولدت له سوى عبد الله.و عاشت معه سبع سنوات ،ولما تُوفيت أم عبد الله، اشترى أحمد جارية،تُسمى حُسْن، فولدت له أم علي زينب، والحسن والحسين توأماً، وماتا بالقرب من ولادتهما، ثم ولدت الحسن ومحمداً، فعاشا نحو الأربعين يوماً،ثم ولدت بعدهما سعيداً،قبل موت الإمام أحمد بخمسين يوماً، فكبر سعيد وتفقه، ومات قبل أخيه عبد الله. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 333:332)

حسْن مظهر الإمام أحمد:

قال عبد الملك بن عبد الحميد الميموني : ما أعلم أني رأيت أحدا أنظف ثوباً ولا أشد تعاهدا لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه ولا أنقى ثوباً وأشده بياضاً من أحمد بن حنبل. (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2صـ 340)

طلب الإمام أحمد للعلم:

طلب الإمام أحمد العِلْمَ وهو ابن خمس عشرة سنة،و طاف في البلاد،وسمع من علماء عصره ،و كانوا يجلونه ويحترمونه في حال سماعه منهم. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 181)

سعة حفظ الإمام أحمد:

(1) قال عبد الله بن أحمد: قال لي أبو زُرعة.أبوك يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يدريك ؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب. قال الذهبي:هذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر، والأثر، وفتوى التابعي، وما فسر، ونحو ذلك. وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 187)

(2) قال عبدُ الله بن أحمد، قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع بن الجراح ، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك أنا بالكلام. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 186)

(3) قال عليٌّ بن المديني،: ليس في أصحابنا أحفظ من أحمد، وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 200)

(4) قال أبو زُرعة: حُزرت كتب أحمد يوم مات، فبلغت اثني عشر حملاً و نصف حمل بعير من الكتب ،كل ذلك كان يحفظه . (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 188:187)

(5) قال عبدُ الله بن أحمد: كتب أبي عن القاضي أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني (صاحبا أبي حنيفة) الكتب، وكان يحفظها. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 306)

مؤلفات الإمام أحمد :

كتاب العلل، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وكتاب الزهد، وكتاب المسائل، وكتاب الفضائل، وكتاب الفرائض ،وكتاب المناسك، وكتاب الإيمان، وكتاب الأشربة، وكتاب طاعة الرسول، وكتاب الرد على الجهمية، و المسند. (الفهرست لابن النديم صـ 281)

مسند الإمام أحمد :

أولاً: معنى المسند : هو الكتاب الذي يجمع أحاديث كل صحابي على حدة، سواء كان هذا الحديث صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً، بصرف النظر عن موضوع الأحاديث .

بدأ الإمام أحمد في تأليف المسند بعد عودته من رحلته لشيخه عبد الرزاق بن همام، عالم اليمن، عام مئتين من الهجرة، كان الإمام أحمد في السادسة والثلاثين من عمره، ويحتوي المسند على نحو من ثلاثين ألف حديث رواها الإمام أحمد عن مئتين وثلاثٍ وثمانينَ شيخاً .

قال حنبل بن إسحاق : جمعنا أحمد بن حنبل، أنا وصالح وعبد الله، وقرأ علينا ” المسند” ما سمعه غيرنا.

وقال: هذا الكتاب: جمعته وانتقيته من أكثر من سبع مئة ألف وخمسين ألفاً، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فارجعوا إليه. فإن وجدتموه فيه، وإلا فليس بحجة. ( سير أعلام النبلاء جـ11 صـ329 )

فائدة هامة :

ليس المقصود من هذه الآف الكثيرة من الأحاديث أنها أحاديث مختلفة، وإنما هي أ طرافٌ متعددةٌ للأحاديث، فقد يُروى الحديث الواحد بعشرات الأسانيد، فيختار منها عالمُ الحديث، كالإمام أحمد، أو البخاري، أو مسلم،وغيرهم، أصحها، ويترك الأحاديث الضعيفة، وفي هذه الألوف أيضاً آثار الصحابة والتابعين وغيرهم، فقد كان علماء الحديث يرونها بالأسانيد ويعدونها كالأحاديث .

عبادة الإمام أحمد:

(1) قال الإمامُ أحمد: حججت خمس حجج منها ثلاث راجلاً(سيرا ًعلى الأٌقدام)، أنفقت في إحدى هذه الحجج ثلاثين درهما.

قال: وقد ضللت في بعضها عن الطريق وأنا ماش فجعلت أقول: يا عباد الله دلوني على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق. (البداية و النهاية لابن كثير جـ 10صـ 340)

(2) قال عبدُ الله بن أحمد:كان أبي أصبر الناس على الوحدة ،لم يره أحدٌ إلا في مسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض وكان يكره المشي في الأسواق .وكان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاث مائة ركعة فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته فكان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة وقد كان قرب من الثمانين وكان يقرأ في كل يوم سبعا يختم في سبعة أيام، وكانت له ختمة في كل سبع ليال سوى صلاة النهار وكان ساعة يصلي عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو . (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2صـ 349:348)

(3) قال صالح بن الإمام أحمد : كان أبي يصوم ويدمن، ثم يفطر ما شاء الله.ولا يترك صوم الاثنين والخميس وأيام البيض، فلما رجع من السجن، أدمن الصوم إلى أن مات. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ:223)

 (4) وقال المرُّوذي: رأيت أبا عبد الله يقوم لورده قريبا من نصف الليل حتى يقارب السحر،ورأيته يركع فيما بين المغرب والعشاء. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 223)

وقال أبو بكر المرُّوذي أيضاً : كنت مع أبي عبد الله نحوا من أربعة أشهر بالعسكر لايدع قيام الليل وقراءة النهار فما علمت بختمة ختمها كان يسر ذلك. (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2صـ 339)

أخلاق الإمام أحمد:

(1) قال أبو بكر المرُّوذي :كان أبو عبد الله لا يجهل، وإن جهل عليه حلمواحتمل، ويقول: يكفي الله.ولم يكن بالحقود ولا العجول، كثير التواضع، حسن الخلق، دائم البشر، لين الجانب، ليس بفظ.وكان يحب في الله، ويبغض في الله، وإذا كان في أمر من الدين، اشتد له غضبه.وكان يحتمل الأذى من الجيران.  (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ :221:220)

(2) قال إسماعيل بن عُلية: كان يجتمع في مجلس أحمد قرابة  خمسة آلاف أو يزيدون ،نحو خمس مئة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حُسْن الأدب والسمت. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ :316)

 (3) قال أبو بكر بن المطوعي: ذهبت إلى أبي عبد الله، ثنتي عشرة سنة، وهو يقرأ ” المسند ” على أولاده، فما كتبت عنه حديثا واحدا، إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ :316)

(4)روى ابن المنادي، عن جده أبي جعفر، قال: كان أحمد من أحيى الناس، وأكرمهم، وأحسنهم عشرة.وأدبا، كثير الإطراق، لا يسمع منه إلا المذاكرة للحديث، وذكر الصالحين في وقار وسكون، ولفظ حسن.وإذا لقيه إنسان، بش به، وأقبل عليه.وكان يتواضع للشيوخ شديدا، وكانوا يعظمونه، وكان يفعل بيحيى بن معين ما لم أره يعمل بغيره من التواضع والتكريم والتبجيل.كان يحيى أكبر منه بسبع سنين.  (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ :317:316)

وفاء الإمام أحمد لشيوخه :

(1) قال القاضي محمد بن محمد بن إدريس الشافعي: قال لي أحمد: أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم سحرا. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ :227)

هيبة الإمام أحمد:

قال أبو عبيد القاسم بن سلام : جالست أبا يوسف ومحمد بن الحسن ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي فما هبت أحدا منهم ما هبت أحمد بن حنبل ولقد دخلت عليه في السجن لأسلم عليه فسألني رجل عن مسألة فلم أجبه هيبة له. (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2صـ 339)

جهاد الإمام أحمد:

قال  عبد الله بن أحمد: خرج أبي إلى طرسوس، ورابط بها، وغزا.ثم قال أبي: رأيت العلم بها يموت. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ:311)    

وقال أحمد لرجل: عليك بالثغر، عليك بقزوين، وكانت ثغرا.(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ:311)    

كرامات الإمام أحمد :

(1) قال عليٌّ بن أبي فزارة : كانت أمي مقعدة  (مشلولة)  نحو عشرين سنة، فقالت لي يوما: اذهب إلى أحمد بن حنبل فسله أن يدعو الله لي، فمضيت فدققت عليه الباب ،فقال: من هذا؟ فقلت: رجل من أهل ذلك الجانب سألتني أمي وهي كبيرة السن مقعدة أن أسألك أن تدعو الله لها فسمعت كلامه كلام رجل مغضب وقال: نحن أحوج أن تدعو الله لنا فوليت منصرفا فخرجت عجوز من داره فقالت أنت الذي كلمت أبا عبد الله؟ قلت: نعم. قالت: قد تركته يدعو الله لها. قال: فجئت من فوري إلى البيت فدققت الباب فخرجت على رجليها تمشي حتى فتحت لي الباب، وقالت: قد وهب اللهُ لي العافية. (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2صـ 350:349)

(2) قال الإمام أحمد بن حنبل: تبينت الإجابة في دعوتين: دعوت الله أن لا يجمع بيني وبين المأمون، ودعوته أن لا أرى المتوكل.فلم أر المأمون، مات بالبذندون (قرية).و بقي أحمد محبوساً بالرقة حتى بُويعَ المعتصم إثر موت أخيه، فرُد أحمد إلى بغداد.وأما المتوكل فإنه نوه بذكر الإمام أحمد، والتمس الاجتماع به، فلما أن حضر أحمد دار الخلافة بسامراء ليحدث ولد المتوكل ويبرك عليه، جلس له المتوكل في طاقة، حتى نظر هو وأمه منها إلى أحمد، ولم يره أحمد. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 242:241)

الإمام أحمد يرفض تولية القضاء :

قال الشافعي لأحمد بن حنبل: إن أمير المؤمنين،محمد الأمين، سألني أن ألتمس له قاضيا لليمن، وأنت تحب الخروج إلى عبد الرزاق، فقد نلت حاجتك، وتقضي بالحق، فقال للشافعي: يا أبا عبد الله، إن سمعت هذا منك ثانية، لم ترني عندك.

و كان عمر أحمد ثلاثين سنة، أو سبعاً وعشرين.(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 224)

زهد وورع الإمام أحمد :

(1) قال صالح بن أحمد: دخلت على أبي في أيام الخليفة الواثق، والله يعلم في أي حالة نحن، وخرج لصلاة العصر وكان له جلد يجلس عليه قد أتت عليه سنون كثيرة حتى قد بلى فإذا تحته كتاب فيه: بلغني يا أبا عبد الله ما أنت فيه وعن الضيق وما عليك من الدين وقد وجهت إليك بأربعة آلاف درهم على يدي فلان لتقضي بها دينك وتوسع بها على عيالك وما هي من صدقة ولا زكاة إنما هو شيء ورثته من أبي فقرأت الكتاب ووضعته فلما دخل قلت له يا أبة ما هذا الكتاب فاحمر وجهه وقال رفعته منك ثم قال تذهب بجوابه إلى الرجل وكتب بسم الله الرحمن الرحيم وصل كتابك إلي ونحن في عافية فأما الدين فإنه لرجل لايرهقنا وأما عيالنا فهم بنعمة الله والحمد لله ، فذهبت بالكتاب إلى الرجل الذي كان أوصل كتاب الرجل فقال ويحك لو أن أبا عبد الله قبل هذا الشيء ورمى مثلا في دجلة كان مأجورا لأن هذا الرجل لايعرف له معروف. فلما كان بعد حين ورد كتاب الرجل بمثل ذلك فرد عليه الجواب بمثل ما رد فلما مضت سنة أو أقل أو أكثر ذكرناها فقال لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت . (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2صـ 344:344)

(2)قال محمد بن موسى بن حماد الزيدي : حُملَ إلى الحسن بن عبد العزيز الحروي من ميراثه من مصر مائة ألف دينار فحمل إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس في كل كيس ألف دينار فقال يا أبا عبد الله هذه ميراث حلال فخذها فاستعن بها على عائلتك فقال لا حاجة لي فيها أنا في كفاية فردها ولم يقبل منها شيئا.   (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2صـ 344)

 (3) قال المرُّوذي: كان أبو عبد الله إذا ذكر الموت، خنقته العبرة. وكان يقول: الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت، هان علي كل أمر الدنيا. إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس. وإنها أيام قلائل.ما أعدل بالفقر شيئا.(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 216:215)

قال المرُّوذي أيضاً: قلت لأحمد: كيف أصبحت ؟ قال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطلبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة ؟ ! (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ :227)

قال المرُّوذي أيضاً: قال لي أحمد: ما كتبت حديثا إلا وقد عملت به، حتى مر بي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، احتجم وأعطى أبا طيبة دينارا، فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت.

(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ:214)

(4) قال إسحاق بن راهويه،: لما خرج أحمد إلى عبد الرزاق، انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه من بعض الجمالين إلى أن وافى صنعاء، وعرض عليه أصحابه المواساة فلم يأخذ.(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ:214)

(5) قال أبو داود السجستاني: كانت مجالس أحمد بن حنبل مجالس الآخرة لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا ما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط.  (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2صـ 340)

(6) كان الإمام أحمد لا يصلي خلف عمه إسحاق بن حنبل، ولا خلف بنيه ولا يكلمهم أيضاً، لأنهم أخذوا جائزة السلطان. (البداية و النهاية لابن كثير جـ 10صـ 342)

(7) مكث أحمد ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله حتى بعث إلى بعض أصحابه فاستقرض منه دقيقاً فعرف أهله حاجته إلى الطعام فعجلوا وعجنوا وخبزوا له سريعاً فقال: ما هذه العجلة ! كيف خبزتم ؟ فقالوا: وجدنا تنور بيت صالح مسجوراً فخبزنا لك فيه.

فقال: ارفعوا، ولم يأكل وأمر بسد بابه إلى دار صالح.قال البيهقي: لأن صالحاً أخذ جائزة السلطان، وهو المتوكل على الله. (البداية و النهاية لابن كثير جـ 10صـ 342)

(8) قال البيهقي: كان الخليفة يبعث إلى أحمد المائدة فيها أشياء كثيرة من الأنواع وكان أحمد لا يتناول منها شيئا. (البداية و النهاية لابن كثير جـ 10صـ 342)

(9) قال البيهقي :بعث المأمون مرة ذهباً يُقسمُ على أصحاب الحديث فما بقي منهم أحدٌ إلا أخذ، إلا أحمد بن حنبل فإنه أبى. (البداية و النهاية لابن كثير جـ 10صـ 342)

(10) قال سليمان الشاذكوني: رهن أحمد سطلاً(وعاء) عند رجلٍ، فأخذ منه شيئاً يتقوته فجاء فأعطاه فكاكه فأخرج إليه سطلين فقال: أنظر أيهما سطلك فخذه. قال:لا أدري أنت في حل منه ومما أعطيتك ولم يأخذ شيئاً، قال الرجلُ:والله إنه لسطله وإنما أردت أن أمتحنه فيه. (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2صـ 348:347)

(11) قال أحمد بن منصور الرمادي: سمعت عبد الرزاق، وذكر أحمد، فدمعت عينه.وقال: قدم وبلغني أن نفقته نفدت، فأخذت عشرة دنانير، وعرضتها عليه، فتبسم، وقال: يا أبا بكر، لو قبلت شيئا من الناس، قبلت منك.ولم يقبل مني شيئاً. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ :229)

أقوال العلماء في الإمام أحمد

(1)قال الإمام الشافعي : خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلا أفضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى من أحمد بن حنبل. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 195)

وقال الإمام الشافعي أيضاً : يا أبا عبد الله: إذا صح عندكم الحديث، فأخبرونا حتى نرجع إليه أنتم أعلم بالاخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح، فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفيا كان أو بصريا أو شاميا. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 213)

(2) قال  إبراهيم الحربي : رأيت أحمد بن حنبل كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك ما شاء  (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2صـ 337)

(3) قال إسحاق بن راهويه،: أحمد حجة بين الله وبين خلقه.(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 196)

(4) قال عبد الرزاق بن همام : ما رأيت أحدا أفقه ولا أورع من أحمد بن حنبل. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 195)

(5) قال يحيى بن آدم: أحمد بن حنبل إمامنا.(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 189)

(6) قال عبد الرحمن بن مهدي،وقد ذكر أصحاب الحديث: أعلمهم بحديث الثوري أحمد بن حنبل.قال: فأقبل أحمد، فقال ابن مهدي: من أراد أن ينظر إلى مابين كتفي الثوري، فلينظر إلى هذا. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 189)

(7) قال عمرو الناقد: إذا وافقني أحمد بن حنبل على حديث لا أبالي من خالفني. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 198)

(8) قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن علي بن المديني وأحمد بن حنبل، أيهما أحفظ ؟ فقال: كانا في الحفظ متقاربين، وكان أحمد أفقه، إذا رأيت من يحب أحمد، فاعلم أنه صاحب سنة.(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 198)

(9) قال محمد بن يحيى الذهلي: جعلت أحمد إماما فيما بيني وبين الله.(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 198)

(10) قال أبو عمير بن النحاس الرملي، وذكر أحمد بن حنبل، فقال: رحمه الله، عن

الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها. (سير أعلام النبلاء جـ 11صـ 198)

(11)قال أبو خيثمة: ما رأيت مثل أحمد، ولا أشد منه قلبا.(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 197)

(12) قال نصر بن علي الجهضمي: أحمد أفضل أهل زمانه.(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 197)

(13)قال علي بن المديني، يقول: أحمد أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه، لان سعيدا كان له نظراء.

وقال أيضاً : أعز الله الدين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة.(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 196)

و قال علي بن الديني أيضاً : أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحدث إلا من كتاب. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 200)

(14) قال يحيى بن معين: كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم قط: كان محدثا، وكان حافظا، وكان عالما، وكان ورعا، وكان زاهداً، وكان عاقلا.( البداية و النهاية لابن كثير جـ 10 صـ 350)

وقال يحيى بن معين أيضاً: أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، والله ما نقوى أن نكون مثله ولا نطيق سلوك طريقه.( البداية و النهاية لابن كثير جـ 10 صـ 350)

وقال يحيى بن معين أيضاً: ما رأيت مثل أحمد، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 214)

(15)قال قتيبة بن سعيد: خير أهل زماننا ابن المبارك، ثم هذا الشاب، يعني: أحمد ابن حنبل، وإذا رأيت رجلا يحب أحمد، فاعلم أنه صاحب سنة.ولو أدرك عصر الثوري، والأوزاعي، والليث، لكان هو المقدم عليهم.

فقيل لقتيبة: يضم أحمد إلى التابعين ؟ قال: إلى كبار التابعين.

وقال قتيبة أيضاً: لولا الثوري، لمات الورع، ولولا أحمد لأحدثوا في الدين، أحمد إمام الدنيا.

(سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 195)

(16) قال إسماعيل ابن عُلية(عندما أقيمت الصلاة): هاهنا أحمد بن حنبل، قولوا له يتقدم يصلي بنا. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 194)

(17) قال وكيع بن بن الجراح ما قدم الكوفة مثل أحمد بن حنبل. (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2صـ 338)

(18) قال أبو عاصم النبيل، وقد ذكر طلاب العلم ،فقال ما رأينا في القوم مثل أحمد بن حنبل. (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2صـ 339)

ابتلاء أحمد بفتنة خلق القرآن

كان الخليفة المأمون قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز وجل.و لم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم، فلما ولي هو الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك وزينوا له، فكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين.فلما وصل الكتاب إلى والي بغداد استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مُكرهين: واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح ، فحُملا على بعير وسُيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك، وهما مقيدان ،وفي أثناء الطريق جاءهما رجل من الأعراب يقال له جابر بن عامر، فسلم على الإمام أحمد وقال له: يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤما عليهم، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه،فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل، وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت، عشت حميداً.قال أحمد: وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك الذي يدعونني إليه.فلما اقتربا من جيش الخليفة ، جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف. فجثى أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال: اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته.فجاءهم الخبر بموت الخليفة المأمون في الثلث الأخير من الليل.

ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة وقد انضم إليه أحمد بن أبي دُؤَاد، وأن الأمر شديد، فردوهما إلى بغداد في سفينة، وكان في رجلي أحمد القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد.فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان، فأودع في السجن نحواً من ثمانية وعشرين شهراً، وقيل بضعاً وثلاثين شهراً، و كان أحمد يصلي بأهل السجن والقيود في رجليه.

ولما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي بها ،فحملتها بيدي، ثم جاؤني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم، فأدخلت في بيت وأغلق علي وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد.ثم دعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلي وعنده ابن أبي دُؤَاد قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن وهذا شيخ مكهل ؟ فلما دنوت منه وسلمت قال لي: أدنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ثم قال: اجلس ! فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة ثم قلت: يا أمير المؤمنين إلى ما دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.

قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله.قال: ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ، ثم قلت: فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: ثم تكلم ابن أبي دُؤَاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أتفقه كلامه، ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض إليك، ثم قال: يا عبد الرحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة ؟ قال أحمد: فقلت، الله أكبر، هذا فرج للمسلمين، ثم قال: ناظره يا عبد الرحمن، كلمه.فقال لي عبد الرحمن بن إسحاق الشافعي  :ما تقول في القرآن ؟ فلم أجبه، فقال المعتصم: أجبه فقلت: ما تقول في العلم ؟ فسكت، فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله، فسكت فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين كفرك وكفرنا، فلم يلتفت إلى ذلك، فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن، فقلت: كان الله ولا علم ؟ فسكت.فجعلوا يتكلمون من ههنا وههنا، فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به، فقال: ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا ؟ فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما.وجرت مناظرات طويلة. فقال ابن أبي دُؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع، وهنا قضاتك والفقهاء فسلهم، فقال لهم: ما تقولون ؟ فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دُؤَاد، ثم أحضروه في اليوم الثاني وناظروه أيضا ثم في اليوم الثالث، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم، وتغلب حجته حججهم.

وفي أثناء ذلك كله يتلطف به الخليفة المعتصم ويقول: يا أحمد أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي.

فلما لم يقم لهم معه حجة عدل أحمد بن أبي دُؤاد ومن معه إلى استعمال جاه الخليفة، فقالوا: يا أمير المؤمنين هذا كافر ضال مضل.

ولما أراد الخليفة المعتصم أن يطلق سراح الإمام أحمد قال له والي بغداد: يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين، فعند ذلك حمي واشتد غضبه.

قال أحمد فعند ذلك قال لي الخليفة المعتصم: طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه.

قال أحمد: فأخذت وسحبت وجئ بالسياط وأنا أنظر، فقلت: يا أمير المؤمنين الله الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث ” وتلوت الحديث، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ” فبم تستحل دمي ولم آت شيئا من هذا ؟ يا أمير المؤمنين اذكر وقوفك بين الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك.ثم لم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين :إنه ضال مضل كافر، فأمر بضربي ،فجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له المعتصم: شد قطع الله يديك، ويجئ الآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك، فضربوني أسواطاً فأغمي علي وذهب عقلي مراراً، فإذا سكن الضرب يعود علي عقلي، وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك ! الخليفة على رأسك، فلم أقبل وأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء إلي الثالثة، فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أُطلقت الأقياد من رجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطا، وقيل ثمانين سوطا، ولكن كان ضربا مبرحا شديدا جدا.ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم، أتوه بسويق ليفطر من الضعف فامتنع من ذلك وأتم صومه، وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم فقال له ابن سماعة القاضي وصليت في دمك ! فقال له أحمد: قد صلى عمر وجرحه يثعب دما، فسكت.ولما رجع إلى منزله جاءه الطبيب يداويه .

ندم الخليفة المعتصم على ضرب أحمد:

ندم الخليفة المعتصم ندماً شديداً على ما كان منه في حق أحمد ، فلما شفى الله أحمد ،  فرح المعتصم والمسلمون بذلك، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد، وجعل أحمد الخليفة المعتصم و كل من آذاه في حل ، إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى (وليعفوا وليصفحوا) ( النور: 22 ).ويقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك ؟ وقد قال تعالى (فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين) ( الشورى: 40 ) (البداية و النهاية لابن كثير جـ 10صـ 349:346)

ثبات أحمد على الحق وانتهاء المحنة :

خرج أحمد من سجنه  إلى منزله وهو ثابت على الحق ،ولزم منزله فلا يخرج منه إلى جمعة ولا جماعة، وامتنع من التحديث وذلك بأمر الخليفة المعتصم،و أحمد صابراً محتسباً.ولم يزل كذلك مدة خلافة المعتصم، وكذلك في أيام ابنه محمد الواثق ، فلما ولي المتوكل على الله الخلافة استبشر الناس بولايته، فإنه كان محبا للسنة وأهلها، ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن، ثم كتب إلى نائبه ببغداد أن يبعث بأحمد بن حنبل إليه.

(البداية و النهاية لابن كثير جـ 10صـ 351)

براءة الإمام أحمد:

(1) قال رجل من المبتدعة يُقالُ له ابنُ البلخي للخليفة  : إن رجلا من العلويين قد أوى إلى منزل أحمد بن حنبل وهو يبايع له الناس في الباطن.فأمر الخليفة نائب بغداد أن يفتشوا منزل أحمد،و ذلك ليلاً.فلم يشعر أهل أحمد إلا والمشاعل قد أحاطت بالدار من كل جانب، فوجدوا أحمد جالسا في داره مع عياله فسألوه عما ذُكِرَ عنه فقال: ليس عندي من هذا علم، وليس من هذا شيء ولا هذا من نيتي، وإني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلانية، وفي عسري ويسري ومنشطي ومكرهي، وأثره علي، وإني لأدعو الله بالتسديد والتوفيق، في الليل والنهار.ففتشوا منزله حتى مكان الكتب وبيوت النساء، وغيرها فلم يروا شيئاً.فلما بلغ المتوكل ذلك وعلم براءته مما نسب إليه علم أنهم يكذبون عليه كثيراً، فبعث إليه يعقوب بن إبراهيم – بعشرة آلاف درهم وقال له الخليفة: يقرأ عليك السلام ويقول: استنفق هذه، فامتنع من قبولها.فقال: يا أبا عبد الله إني أخشى من ردك إياها أن يقع وحشة بينك وبين الخليفة، والمصلحة لك قبولها، فوضعها عنده ثم ذهب فلما كان من آخر الليل استدعى أحمد أهله وبني عمه وعياله وقال: لم أنم هذه الليلة من هذا المال، فجلسوا وكتبوا أسماء جماعة من المحتاجين من أهل الحديث وغيرهم من أهل بغداد والبصرة، ثم أصبح ففرقها في الناس ما بين الخمسين إلى المائة والمائتين، فلم يبق منها درهما، وأعطى منها لأبي أيوب وأبي سعيد الأشج، وتصدق بالكيس الذي كانت فيه، ولم يعط منها لأهله شيئا وهم في غاية الفقر.وبلغ الخليفة أنه تصدق بالجائزة كلها حتى كيسها، فقال علي بن الجهم: يا أمير المؤمنين إنه قد قبلها منك وتصدق بها عنك، وماذا يصنع أحمد بالمال ؟ إنما يكفيه رغيف. فقال: صدقت. (البداية و النهاية لابن كثير جـ 10صـ 352)

(2)كتب رجلٌ ورقةً إلى الخليفة المتوكل يقول فيها: يا أمير المؤمنين إن أحمد يشتم آباءك ويرميهم بالزندقة.فكتب فيها المتوكل: أما المأمون فإنه خلط فسلط الناس على نفسه، وأما أبي المعتصم فإنه كان رجل حرب ولم يكن له بصر بالكلام، وأما أخي الواثق فإنه استحق ما قيل فيه.ثم أمر أن يضرب الرجل الذي رفع إليه الرقعة مائتي سوط، فأخذه عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم فضربه خمسمائة سوط.

فقال له الخليفة: لم ضربته خمسمائة سوط ؟ فقال: مائتين لطاعتك ومائتين لطاعة الله، ومائة لكونه قذف هذا الشيخ الرجل الصالح أحمد بن حنبل.  (البداية و النهاية لابن كثير جـ 10صـ 354)

رغبة أم الخليفة المتوكل في رؤية الإمام أحمد :       

بلغ أم الخليفة المتوكل خبر الإمام، فقالت لابنها: أشتهي أن أرى هذا الرجل، فوجه المتوكل إلى أحمد، يسأله أن يدخل على ابنه المعتز ويدعو له، فذهب أحمد.وجلس المتوكل مع أمه في مجلس من المكان، وعلى المجلس ستر رقيق.

فدخل أحمد على المعتز، ونظر إليه المتوكل وأمه.فلما رأته، قالت: يا بني، الله الله في هذا الرجل، فليس هذا ممن يريد ما عندكم، ولا المصلحة أن تحبسه عن منزله، فائذن له ليذهب. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 271)

اهتمام الخليفة المتوكل بعلاج أحمد:

لما طالت مدة مرض الإمام أحمد، كان المتوكل يبعث بابن ماسويه الطبيب، فيصف له الأدوية، فلا يتعالج.

ويدخل ابن ماسويه، فقال: يا أمير المؤمنين ليست بأحمد علة، إنما هو من قلة الطعام والصيام والعبادة، فسكت المتوكل. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 271)

وفاة الإمام أحمد بن حنبل:

قال صالح بن أحمد: لما كان أول ربيع الأول أصابة أبي الحمى ليلة الأربعاء، وبات وهو محموم، يتنفس تنفساً شديداً، وكنت قد عرفت علته، وكنت أمرضه إذا اعتل. قال المرُّوذي مرض أبو عبد الله ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول ومرض تسعة أيام وتسامع الناس فأقبلوا لعيادته ولزموا الباب الليل والنهار يبيتون فربما أذن للناس فيدخلون أفواجا يسلمون عليه فيرد عليهم بيده. وقد بلغه في مرضه عن طاوس أنه كان يكره أنين المريض فترك الأنين فلم يئن حتى كانت الليلة التي توفي في صبيحتها ،فأنَّ حين اشتد به الوجع.وأشار أحمد إلى أهله أن يوضؤه فجعلوا يوضؤنه وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي وهو يذكر الله عز وجل في جميع ذلك، فلما أكملوا وضوءه توفي الإمام أحمد، رحمه الله ،وكان ذلك يوم الجمعة ،الثاني عشر من ربيع الأول، سنة إحدى وأربعين ومئتين من الهجرة ، وكان عمره سبع وسبعون سنة.

جنازة الإمام أحمد: 

لما علم الناس بوفاة أحمد اجتمعوا في الشوارع، وبعث الأمير محمد بن طاهر حاجبه ومعه غلمان ومعهم أكفان، وأرسل يقول: هذا نيابة عن الخليفة، فأرسل أولاده يقولون: إن أمير المؤمنين كان قد أعفاه في حياته مما يكره وأبوا أن يكفنوه بتلك الأكفان، وأتي بثوب كان قد غزلته جاريته فكفنوه واشتروا معه لفافة وحنوطاً، واشتروا له راوية ماء وامتنعوا أن يغسلوه بماء بيوتهم، لأنه كان قد هجر بيوتهم فلا يأكل منها ولا يستعير من أمتعتهم شيئا، وكان لا يزال غاضباً عليهم، لأنهم كانوا يتناولون ما رتب لهم على بيت المال، وهو في كل شهر أربعة آلاف درهم وكان لهم عيال كثيرة وهم فقراء.و حضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بني هاشم، فجعلوا يقبلون بين عينيه ويدعون له ويترحمون عليه رحمه الله.

وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلا الله، ونائب البلد محمد بن عبد الله بن طاهر واقف في جملة الناس، ثم تقدم فعزى أولاد الإمام أحمد فيه، وكان هو الذي أم الناس في الصلاة عليه ولم يستقر أحمد في قبره إلا بعد صلاة العصر وذلك لكثرة الناس.

روى البيهقي أن الأمير محمد بن طاهر أمر بحزر الناس فوجدوا ألف ألف وثلثمائة ألف، وفي رواية وسبعمائة ألف سوى من كان في السفن.

قال عبد الوهاب الوراق: أظهر الناس في جنازة أحمد بن حنبل السُّنة والطعن على أهل البدع، فسر الله المسلمين بذلك على ما عندهم من المصيبة لما رأوا من العز وعلو الإسلام، وكبت أهل الزيغ.ولزم بعض الناس القبر، وباتوا عنده، وجعل النساء يأتين حتى منعن.

قال عبد الوهاب الوراق أيضاً: ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية، ولا في الإسلام، اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل.  (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11صـ 342:334) (البداية و النهاية لابن كثير جـ 10صـ 356)

رحم اللهُ الإمام أحمد بن حنبل ، وجمعنا معه في الفردوس الأعلى من الجنة مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.

وختاماً : أسألُ اللهَ تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته أن يجعلَ هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به المسلمين . وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى اللهُ وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آلهِ، وصحبهِ، والتابعينَ لهم بإحسان إلى يوم الدين.