قبض العلماء

أخرج البخاري في ((صحيحه)) عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم – يقول : ((إن اللَّه لا يقبض العلم انتزاعـًا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسـًا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا )) . وفي رواية : (( فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم ، فيضلون ويضلون)) . والحديث أخرجه مسلم أيضـًا في كتاب العلم .

هذا الحديث أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجه وأحمد ، وجاء الحديث في قصة ساقها مسلم عن عروة بن الزبير قال : قالت لي عائشة ، رضي اللَّه عنها : يا ابن أختي ، بلغني أن عبد اللَّه بن عمرو مار بنا إلى الحج فالقه فسائله ، فإنه قد حمل عن النبي  – صلى الله عليه وسلم – علمـًا كثيرًا ، قال : فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن رسول اللَّه  – صلى الله عليه وسلم – ، قال عروة : فكان فيما ذكر – ثم ساق الحديث الذي أوردناه – قال عروة : فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته ، قالت : أحدثك أنه سمع النبي  – صلى الله عليه وسلم – يقول هذا ؟! قال عروة : حتى إذا كان قابل(1) ، قالت له : إن عبد اللَّه بن عمرو قد قدم ، فالقه ، ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم ، قال : فلقيته فسألته ، فذكر لي نحو ما حدثني به في مرته الأولى . قال عروة : فلما أخبرتها بذلك ، قالت: ما أحسبه إلا قد صدق ، أراه لم يزد فيه شيئـًا ، ولم ينقص .

أما البخاري فذكر الحديث بغير تلك القصة في كتاب العلم ، في باب : ( رفع العلم وظهور الجهل ) : وقال ابن حجر : مقصود الباب الحث على تعلم العلم فإنه لا يرفع إلا بقبض العلماء، وما دام من يتعلم العلم موجودًا لا يحصل الرفع ، وقد تبين أن رفعه من علامات الساعة ، والمراد برفعه موت حملته .

وفي البخاري قال ربيعة : لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه .

قال ابن حجر : مراد ربيعة أن من كان فيه فهم وقابلية للعلم لا ينبغي له أن يهمل نفسه فيترك الاشتغال بالعلم ؛ لئلا يؤدي ذلك إلى رفع العلم ، أو مراده الحث على نشر العلم في أهله لئلا يموت العالم قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم ، أو مراده أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم . وقيل : مراده تعظيم العلم وتوقيره فلا يهين نفسه بأن يجعله غرضـًا للدنيا ، وهذا معنى حسن .

وفي حديث البخاري ومسلم عن أنس ، رضي اللَّه عنه ، قال : سمعت رسول اللَّه  – صلى الله عليه وسلم – يقول : (( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)) .

قال ابن حجر : وكأن هذه الأمور الخمسة خصت بالذكر لكونها مشعرة باختلال الأمور التي يحصل بحفظها صلاح المعاش والمعاد ، وهي : الدين ؛ لأن رفع العلم يخل به ، والعقل ؛ لأن شرب الخمر يخل به ، والنسب ؛ لأن الزنا يخل به ، والنفس والمال ؛ لأن كثرة الفتن تخل بهما .

وفي هذه المعاني جاءت أحاديث أخرى ، منها :

أخرج البخاري ومسلم عن أنس ، رضي اللَّه عنه ، قال : لأحدثكم حديثـًا سمعته من رسول اللَّه  – صلى الله عليه وسلم – لا يحدثكم به أحد غيري ، سمعت رسول اللَّه  – صلى الله عليه وسلم – يقول : (( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويكثر الجهل ، ويكثر الزنا ، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال ، ويكثر النساء ، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد )).

وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة، رضي اللَّه عنه، عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: (( لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، ويكثر الهرج – وهو القتل – حتى يكثر فيكم المال فيفيض )).

وأخرج البخاري ومسلم عن عبد اللَّه وأبى موسى فقالا : قال رسول اللَّه  – صلى الله عليه وسلم – : (( إن بين يدي الساعة أيامـًا يرفع فيها العلم ، وينزل فيها الجهل ، ويكثر فيها الهرج ، والهرج القتل )) .

قال ابن حجر : يمكن أن تنزل هذه الأحاديث على الترتيب في الواقع ، فيكون :

أولاً : رفع العلم بقبض العلماء المجتهدين الاجتهاد المطلق ، ثم المقيد(1) .

ثانيـًا : فإذا لم يبق مجتهد استووا في التقليد لكن ربما كان بعض المقلدين أقرب إلى بلوغ درجة الاجتهاد المقيد من بعض ، ولا سيما إذا فرعنا على جواز تجزؤ الاجتهاد ، ولكن لغلبة الجهل يقدم أهل الجهل أمثالهم ، وإليه الإشارة بقوله : (( اتخذ الناس رءوسـًا جهالاً )) . وهذا لا ينفي ترئيس بعض من لم يتصف بالجهل التام ، كما لا يمنع ترئيس من ينسب إلى الجهل في الجملة في زمن أهل الاجتهاد .

وفي هذا الحديث الحث على حفظ العلم ، والتحذير من ترئيس الجهلة ، وفيه أن الفتوى هي الرئاسة الحقيقية ، وذم من يقدم عليها بغير علم .

وقد أخرج ابن عبد البر في كتــاب العلـم عـن دراج قـال : يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته ، حتى يسير عليها في الأمصار يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن .

ثم قال ابن حجر : وقد وجد هذا مشاهدًا ، ثم يجوز أن يقبض أهل تلك الصفة ولا يبقى إلا المقلد الصرف ، وحينئذ يتصور خلو الزمان من مجتهد حتى في بعض الأبواب ، بل في بعض المسائل ، ولكن يبقى من له نسبة إلى العلم في الجملة ، ثم يزداد حينئذ غلبة الجهل وترئيس أهله ، ثم يجوز أن يقبض هؤلاء حتى لا يبقى منهم أحد ، وحينئذ يتصور خلو الزمان عمن ينتسب إلى العلم أصلاً .

وفي حديث عوف بن مالك وحديث أبي أمامة عند أحمد : فقال رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد : أُيرفع العلم يا رسول اللَّه وفينا كتاب اللَّه ، وقد علمناه أبناءنا ونساءنا وخدمنا ؟ فقال له النبي  – صلى الله عليه وسلم – : (( وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف لم يصبحوا يتعلقوا بحرف مما جاءتهم أنبياؤهم ، ألا وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته )) .

ثم قال جبير بن نفير : وهل تدري أي العلم يرفع أول أن يرفع ؟ قال : قلت : لا أدري ، قال: الخشوع ، حتى لا تكاد ترى خاشعـًا .

قال ابن المنير: محو العلم من الصدور جائز في القدرة ، إلا أن هذا الحديث دل على عدم وقوعه .

وقد ساق البخاري الحديث أيضـًا في كتاب الاعتصام ، باب : ( ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس ) ، وشرح ابن حجر هذه الترجمة بقوله : أي الفتوى بما يؤدي إليه النظر ، وهو يصدق على ما يوافق النص وعلى ما يخالفه ، والمذموم منه ما يوجد النص بخلافه ، وأشار بقوله : ( من ) إلى أن بعض الفتوى بالرأي لا تذم ، وهو إذا لم يوجد النص من كتاب أو سنة أو إجماع ، وقوله : ( وتكلف القياس ) ؛ أي إذا لم يجد الأمور الثلاثة – كتاب ، أو سنة ، أو إجماع – واحتاج إلى القياس فلا يتكلفه ، بل يستعمله على أوضاعه(1) ، ولا يتعسف في إتيان العلة الجامعة التي هي من أركان القياس ، بل إذا لم تكن العلة الجامعة واضحة فليتمسك بالبراءة الأصلية(2) ، ويدخل في تكلف القياس ما إذا استعمله على أوضاعه مع وجود النص(3) ، وما إذا وجد النص فخالفه وتأول لمخالفته شيئـًا بعيدًا ، ويشتد الذم فيه لمن ينتصر لمن يقلده مع احتمال أن لا يكون الأول اطلع على النص .

يقول ابن حجر : وفي الحديث الزجر عن ترئيس الجاهل لما يترتب عليه من المفسدة ، وقد يتمسك به من لا يجيز تولية الجاهل بالحكم ولو كان عاقلاً عفيفـًا ، لكن إذا دار الأمر بين العالم الفاسق والجاهل العفيف فالجاهل العفيف أولى ؛ لأن ورعه يمنعه عن الحكم بغير علم فيحمله على البحث والسؤال .

استقامة العلماء استقامة للأمة:

الاستقامة خير من ألف كرامة ، وهي الثبات على العقيدة الصحيحة ، والمداومة على العلم النافع والعمل الصالح والإخلاص الخالص ، والحضور مع اللَّه ، والغيبة عن شهود ما سواه . اسلكوا طريق الاستقامة ، وتمسكوا بالكتاب والسنة تسبقوا إلى خير .

في هذا الحديث حث للناس على أن يغتنموا حياة العلماء ، فيجلسوا عند ركبهم ، ويطلبوا العلم الذي عندهم ، وينقلوا الخُلق الصالح عنهم ، وأن يطلبوا الفقه في الدين الذي جمعوه ، وأن يعلموا أن بموتهم يلحق الناس خسارة عظيمة ، فإذا مات العالِم وقد ورث علمه تلامذته ، فتلك هي الحياة للعالم وللناس ، فإن أهمل الناس العلم حتى مات العلماء وقع الناس في شر مستطير وفتنة عظيمة ؛ لذا فإن اللَّه الذي تعهد بحفظ الذكر أظهر بقدره سبحانه الفتن في قرون الخير ، حيث ظهرت فرق الضلال أصولها الأربعة : ( الخوارج ، والشيعة ، والمعتزلة ، والمرجئة)، وفروعها الثنتين والسبعين ، كل ذلك ظهر في القرون الثلاثة الأولى ، حيث يتوافر أئمة أهل العلم ، فكان الجواب السديد منهم عن أقوال فرق الضلال ، وكذلك الجواب على الفتن وأفعال أهل الفتن .

هذا ، ولقد حفظ اللَّه سبحانه العلم وأهله بقول النبي  – صلى الله عليه وسلم – : (( ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر اللَّه وهم على ذلك )) .

ونحن إذ نسمع بين الحين والآخر بموت عالم من العلماء يلزمنا في ذلك :

أولاً : أن نجتمع حول من بقي من العلماء بطلب علمهم ، فلا نضيع أعمارهم ، ثم نبكي عليهم بعد موتهم .

ثانيـًا : أن نسأل عمن ورث علم من مات منهم ، ولا نظن أن العلم مجرد نص محفوظ في الكتب ، فإن أهل الكتاب لم تنفعهم كتبهم التي بين أيديهم ، فقد حرفوا بعضها ، وأهملوا بقيتها، فلم يبق لهم من الدين شيء ، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم .

قال القرطبي في التفسير : { فَاسْأَلُواْ أَهْل الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] : لم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها ، وأنهم المراد بقوله تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْل الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ، وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بتمييزه للقبلة إذا أشكلت عليه ، فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه ، وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم .

قال ابن مسعود : موت العالِم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار .

وقال : لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن ، ثم يفيضون في الشعر ، وقال : عليكم بالعلم قبل أن يقبض ، وقبضه ذهاب أهله ، وعليكم بالعلم ، فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه ، وعليكم بالعلم ، وإياكم والتنطع والتعمق .

وقال عمر بن الخطاب : من سوده قومه على الفقه كان حياة له ولهم ، ومن سوده قومه على غير فقه كان هلاكـًا له ولهم .

وقال : هل تدرون ما يهدم الإسلام ؟ يهدمه زلة العالِم ، وجدال المنافق بالكتاب ، وحكم الأئمة المضلين .

وقال عقبة بن عامر : تعلموا قبل الظانين : يعني الذين يتكلمون بالظن . قال ابن مسعود : لا يزال الناس صالحين متماسكين ما أتاهم العلم من أصحاب محمد  – صلى الله عليه وسلم – ومن أكابرهم ، فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا .

وقال سليمان : لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخر ، فإذا هلك الأول قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس .

وقيل لسعيد بن جبير : ما علامة هلاك الناس ؟ قال : إذا هلك علماؤهم .

وقال سفيان بن عيينة : وأي عقوبة أشد على أهل الجهل من أن يذهب أهل العلم .

وقال سفيان : نعوذ باللَّه من فتنة العابد الجاهل ، وفتنة العالم الفاجر ، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون .

بيان قصة الحديث

اعلم أيها القارئ الكريم أن عبد اللَّه بن عمرو كان يسكن مصر، وعائشة وعروة كانا يسكنان المدينة ، فكان إذا خرج حاجـًّا مر قريبـًا من المدينة ، أو كانت عائشة في حج أيضـًا .

لذا فإن عائشة، رضي اللَّه عنها، أمرت عروة أن يسأله.

وفي ذلك بيان فضل علم عبد اللَّه بن عمرو بن العاص ، رضي اللَّه عنهما ؛ لما أخرجه البخاري عن أبي هريرة ، رضي اللَّه عنه ، قال : ما من أصحاب النبي  – صلى الله عليه وسلم – أحد أكثر حديثـًا عنه مني ، إلا ما كان من عبد اللَّه بن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب .

أخرج أبو داود عن عبد اللَّه بن عمرو ، رضي اللَّه عنه ، قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول اللَّه  – صلى الله عليه وسلم – ، فنهتني قريش ، وقالوا : أتكتب كل شيء تسمعه ورسول اللَّه  – صلى الله عليه وسلم – بشر يتكلم في الغضب والرضا ، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك إلى رسول اللَّه  – صلى الله عليه وسلم – ، فأومأ بإصبعه إلى فِيه ، فقال : ((اكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق )) .

وفي الحديث حث طالب العلم على تتبعه في مصادره، فمع أن عائشة، رضي اللَّه عنها، من أجمع الخلق علمـًا، إلا أنها دفعت عروة ابن أختها أن يلحق بعبد اللَّه بن عمرو ليسمع منه.

وفي الحديث تثبت الصحابة لما يرد إليهم من علم؛ لأن الوهم قد يعتري البشر، فهي تتثبت من عروة، فتقول له: أحدثك أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول هذا ؟ ذلك لأنها لا تتهمه بالكذب ، ولكنها خافت أن يكون عروة وهم ، فتثبتت منه ، ثم لما كان العام القابل ومر عبد اللَّه حاجـًّا أرسلت عروة ، فلما رأته عاد إليها بنفس الخبر الأول أيقنت من أن عبد اللَّه إنما حفظ ذلك عن النبي  – صلى الله عليه وسلم – ، وذلك ما يقوله القاضي عياض في ((الإكمال )) : عائشة لم تتهم عبد اللَّه بالكذب ، ولكن لعلها نسبت إليه أنه مما قرأه من الكتب عن غير النبي  – صلى الله عليه وسلم – ؛ إذ كان عبد اللَّه بن عمرو قد طالع كثيرًا من كتب أهل الكتاب .

وفي الحديث أيضـًا التلطف عند التثبت من العالم ، فأوصت عائشة عروة أن يفاتح عبد اللَّه حتى يسأله عن الحديث للتثبت فلا يفتح باب الإنكار ، وهذا من أهم الآداب التي ينبغي أن يتخلق بها طلبة العلم ، فلا يقدم الإنكار عند وقوعه في صدره ، ولكن يتثبت من أهل العلم .

وصف العلماء أهل الحديث :

قد جعل اللَّه أهله أركان الشريعة ، وهدم بهم كل بدعة شنيعة ، فهم أمناء اللَّه في خليقته ، والواسطة بين النبي  – صلى الله عليه وسلم – وأمته ، والمجتهدون في حفظ ملته ، أنوارهم زاهرة ، وفضائلهم سائرة ، وآياتهم باهرة ، ومذاهبهم ظاهرة ، وحججهم قاهرة ، وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه ، وتستحسن رأيـًا تعكف عليه ، سوى أصحاب الحديث ، فإن الكتاب عدتهم ، والسنة حجتهم ، والرسول  – صلى الله عليه وسلم – فئتهم ، وإليه نسبتهم ، لا يعرجون على الأهواء ، ولا يلتفتون إلى الآراء ، يقبل منهم ما رووا عن الرسول  – صلى الله عليه وسلم – ، وهم المأمونون عليه العدول ، حفظة الدين وخزنته ، وأوعية العلم وحملته، إذا اختلف في الحديث كان إليهم الرجوع ، فما حكموا به فهو المقبول المسموع ، منهم كل عالم فقيه ، وإمام رفيع نبيه ، وزاهد في قبيلة ، ومخصوص بفضيلة ، وقارئ متقن ، وخطيب محسن ، وهم الجمهور العظيم ، وسبيلهم السبيل المستقيم ، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر ، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر ، من كادهم قصمه اللَّه ، ومن عاندهم خذله اللَّه ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا يفلح من اعتزلهم ، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير ، وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير ، وإن اللَّه على نصرهم لقدير .

فقد جعلهم رب العالمين الطائفة المنصورة ، حراس الدين ، وصرف عنهم كيد الكائدين ؛ لتمسكهم بالشرع المتين ، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين ، فشأنهم حفظ الآثار وقطع المفاوز والقفار ، وركوب البراري والبحار في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى ، لا يعرجون عنه إلى رأي ولا هوى ، قبلوا شريعته قولاً وفعلاً ، وحرسوا سنته حفظـًا ونقلاً ، حتى ثبتوا بذلك أصلها ، وكانوا أحق بها وأهلها ، وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها ، واللَّه تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها ، فهم الحفاظ لأركانها ، والقوامون بأمرها وشأنها ، إذا صدف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون ، أولئك حزب اللَّه ، ألا إن حزب اللَّه هم المفلحون . اهـ . كلام الخطيب البغدادي .

تدوين حديث النبي  – صلى الله عليه وسلم – :

ولقد بَوَّب البخاري لهذا الحديث في موضعين: الأول في كتاب العلم قال فيه : باب : كيف يقبض العلم . ثم قال : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم : انظر ما كان من حديث رسول اللَّه  – صلى الله عليه وسلم – فاكتبه ، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي  – صلى الله عليه وسلم – وليفشوا العلم وليجلسوا حتى يعلم من لا يعلم ، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا .

أما الموضع الثاني: ففي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ( ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس ).

وفي كلام عمر بن عبد العزيز ما يقيد بدء التدوين الرسمي لحديث النبي  – صلى الله عليه وسلم – ، ونعني بقول : ( الرسمي ) ؛ أي الذي كان بأمر السلطان ؛ لأن عمر بن عبد العزيز كان قد استعمل أبو بكر بن حزم على المدينة أميرًا وقاضيـًا ، ولهذا كتب إليه ليجمع الحديث . وكان ذلك على رأس المائة الأولى ، فلما لم يبق من الصحابة أحد وذهب من كان يعرف منهم بالعلم أمر عمر بتدوين الحديث ضبطـًا له وإبقاءً .

وأما التدوين الخاص لحديث النبي  – صلى الله عليه وسلم – فلقد بدأ في حياة رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – بأمره مرة ، وبإذنه أخرى ، مثل ما جاء في (( صحيح البخاري )) من حديث علي ، رضي اللَّه عنه ، أنه كتب صحيفة عن النبي  – صلى الله عليه وسلم – فيها العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر(1) .

وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يكتبوا لرجل من اليمن ، فقال: (( اكتبوا لأبي شاة)).

قال ابن القيم في (( تهذيب السنن )) : قد صح عن النبي  – صلى الله عليه وسلم – النهي عن الكتابة والإذن فيها ، والإذن متأخر فيكون ناسخـًا لحديث النهي ، فإن النبي  – صلى الله عليه وسلم – قال في غزاة الفتح : (( اكتبوا لأبي شاة )) ؛ يعني خطبته التي سأل أبو شاة كتابتها ، وأذن لعبد اللَّه بن عمرو في الكتابة ، وحديثه متأخر عن النهي ؛ لأنه لم يزل يكتب ومات وعنده كتابته ، وهي الصحيفة التي كان يسميها الصادقة ، ولو كان النهي عن الكتابة متأخرًا لمحاها عبد اللَّه ؛ لأن النبي  – صلى الله عليه وسلم – أمر أن يمحو ما كتب عنه غير القرآن ، فلما لم يمحها وأثبتها دل على أن الإذن في الكتابة متأخر عن النهي عنها ، وهذا واضح والحمد للَّه .

وقد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال لهم في مرض موته: (( ائتوني باللوح والدواة والكتف لأكتب لكم كتابـًا لا تضلوا بعده أبدًا )).

هذا إنما يكون كتابة كلامه بأمره وإذنه. وكتب النبي – صلى الله عليه وسلم – لعمرو بن حزم(2) كتابـًا عظيمـًا في الديات وفرائض الزكاة وغيرها، وكتبه في الصدقات معروفة مثل كتاب عمر بن الخطاب، وكتاب أبي بكر الصديق الذي دفعه إلى أنس، رضي اللَّه عنه.

وقيل لعلي: هل خصكم رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – بشيء ؟ فقال : لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلا ما في هذه الصحيفة ، وكان فيها العقل وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر ، وإنما نهى النبي  – صلى الله عليه وسلم – عن كتابة غير القرآن في أول الإسلام لئلا يختلط القرآن بغيره ، فلما علم القرآن وتميز وأفرد بالضبط والحفظ وأمنت عليه مفسدة الاختلاط أذن في الكتابة .

وقال بعضهم : إنما كان النهي عن كتابة مخصوصة وهي أن يجمع بين كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة خشية الالتباس . وكان بعض السلف يكره الكتابة مطلقـًا، وكان بعضهم يرخص فيها حتى يحفظ، فإذا حفظ محاها، وقد وقع الاتفاق على جواز الكتابة وإبقائها ولولا الكتابة ما كان بأيدينا اليوم من السنة إلا أقل القليل. ( انتهى كلام ابن القيم ).

وقد قال الذهبي في (( السير )): انعقد الإجماع بعد اختلاف الصحابة، رضي اللَّه عنهم، على الجواز والاستحباب لتقييد العلم بالكتابة.

وعمر بن عبد العزيز هو الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد ، أمير المؤمنين ، من خلفاء بني أمية ، كان أميرًا على المدينة في عهد الوليد ، ثم صار وزيرًا لسليمان بن عبد الملك ، ثم ولي الخلافة بعد سليمان سنة 99 هـ ، واستمر في الخلافة سنتين ونصفـًا ، وأخباره في العدل وحسن السياسة كثيرة ، ربما سماه بعض الناس خامس الخلفاء الراشدين ، وليس الأمر كذلك فإن أحق الناس بذلك الحسن بن علي ؛ لأنه ولي الخلافة ستة أشهر قبل أن ينزل عنها إلى معاوية بن أبي سفيان ، بل نسبة معاوية الصحابي الجليل إلى الخلافة الراشدة أولى من نسبة التابعين كعمر بن عبد العزيز – رحمه اللَّه – وإن كنا نعرف لعمر بن عبد العزيز قدره في العلم والفضل ، بل هو مجدد القرن الأول كما صرح بذلك من أهل العلم الإمام أحمد وغيره .

واللَّه تعالى أعلم .

————————

(1) أي موسم الحج من العام التالي .

( ) المجتهد : هو المسلم صحيح الفهم ، العالم بمصادر الأحكام من كتاب وسنة وإجماع وقياس ، ويكون عالمـًا بالناسخ والمنسوخ وباللغة العربية ؛ نحوها وصرفها وبلاغتها ، وعالمـًا بأصول الفقه ، وهو الإمام الذي يتصدى لاستنباط الأحكام الفقهية من الأدلة التفصيلية، وهو إما مجتهد مطلق لا ينتسب إلى إمام من أئمة الفقه ، أو مجتهد مقيد ، وقد يسمى مجتهد منتسب ، وهو الذي يجتهد على أصول إمام من أئمة الفقه قبله .

( ) أي يطبق القواعد الأصولية التي نص عليها العلماء عند إجراء القياس .

( ) البراءة الأصلية تعني أنه لا تكليف إلا بنص ، وأن الأصل في الأمور – يقصد أمور العادات – الإباحة ما لم يأت النص بالتحريم .

( ) ذلك لأنه لا اجتهاد مع نص ، وهذا لا ينفي الاجتهاد في النص ، ومثاله أن عمر ، رضي اللَّه عنه ، لما أراد أن يفرق بين أصابع اليد في قيمة الدية لاختلاف منافعها ، ثم علم أن رسول اللَّه  – صلى الله عليه وسلم – سوى بينهما رجع عن رأيه ، لكن اجتهاد العلماء في النص مثل أن يستنبط من قوله تعالى : { فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } غسل الأنف بالاستنشاق والفم بالمضمضة ؛ لأن الأنف والفم من الوجه .( ) راجع البخاري حديث (111، 7300) .

( ) هو جد أبي بكر بن حزم الذي أمره عمر بن عبد العزيز أن يجمع الحديث ويكتبه .