أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : (تسموا باسمي ، ولا تكنوا بكنيتي ، ومن رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي ، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) .
هذا موعدنا للحديث عن الفقرة الثالثة : (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) ، وهذا الجزء من الحديث في غاية الصحة ، وقد اتخذه أهل العلم مثالاً للحديث المتواتر ، بل بالغ بعضهم ، فلم يثبت متواترًا غيره ، وهذا خطأ ، فالأحاديث العالية في التواتر كثيرة ؛ منها : (من بنى لله مسجدًا ….) وحديث الشفاعة ، وحديث الحوض ، وحديث رؤية الله في الآخرة ، وحديث الأئمة من قريش ، وحديث المسح على الخفين ، وحديث رفع اليدين ، كلها أمثلة قوية واضحة على التواتر .
أما حديثنا هذا فقد أحصى بعض أهل العلم له طرقًا بلغ بعضهم بها أربعمائة طريق جاءت عن جمع من الصحابة بلغ بهم بعض أهل العلم مائة صحابي ، منهم العشرة المبشرون بالجنة ، وفي (الصحيحين) منها أربعة عشرة حديثًا .
والكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء كان عمدًا أم خطأ، وإن كان المخطئ مرفوعًا عنه الإثم بالإجماع.
قال النووي : الإجماع والنصوص المشهورة في الكتاب والسنة متوافقة متظاهرة على أنه لا إثم على الناسي والغالط ، (انتهى) .
لذا جاء الحديث مقيدًا بالعمد ، أما حديث الزبير عند البخاري قال : أما إني لم أفارقه ، ولكن سمعته يقول : (من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار).
قال في (الفتح) : فالزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر ؛ لأنه وإن كان لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار ، إذ الإكثار مظنة الخطأ ، والثقة إذا حدث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق بنقله فيكون سببًا للعمل بما لم يقله الشارع، فمن خشي من الإكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم ؛ إذا تعمد الإكثار ، فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار من التحديث ، وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت ، أو طالت أعمارهم ، فاحتيج إلى ما عندهم ، فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان ، رضي الله عنهم . (انتهى) .
ومع أن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، من المكثرين ، إلا أن رواية البخاري عنه ؛ إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثًا كثيرًا ؛ أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : (من تعمد عليَّ كذبًا فليتبوأ مقعده من النار) ، فكأنه كان لا يحدث إلا ما تحققه ويترك ما يشك فيه ، وأن سبب الإكثار تأخر وفاته وسكناه العراق ، حيث قل الصحابة بها .
وإكثار الصحابي من الحديث قد يرجع إلى طول العمر بعد وفاة النبي- صلى الله عليه وسلم- ؛ خاصة بعد وفاة كثير من الأصحاب ، أو يرجع إلى اشتغالهم بالإمارة والقضاء والفتيا أو التعليم فيكون التحديث شغلهم وعملهم ، أو يرجع إلى سكناه بعض البلاد التي يعز فيها الأصحاب .
قال البغوي : اعلم أن الكذب على النبي – صلى الله عليه وسلم – أعظم أنواع الكذب بعد كذب الكافرين على الله – وذكر الحديث ، ثم قال – : ولذلك كره قوم من الصحابة والتابعين الإكثار من الحديث خوفًا من الزيادة والنقصان والغلط فيه ، ثم عدد البغوي بعض صور قولهم لما هابوا ذلك ، مثل قولهم : يرفعه أو يبلغ به النبي- صلى الله عليه وسلم – ، وقد ينسب القول للصحابي ويقول : الكذب عليه أهون . (انتهى بتصرف) .
ومعنى : (فليتبوأ) ؛ أي يختار ، فكما قصد في الكذب التعمد فليقصد بجزائه التبوأ من النار ، وهو أمر بمعنى الخبر تهديدًا لمن تعمد الكذب ، وقد يكون للتهكم منه ، وقد يكون الأمر بمعنى الدعاء ، أي بوأه الله ذلك يدعو عليه ، وقوله : (فليتبوأ) تفيد طول الإقامة ، والأدلة القطعية على أنه لا خلود في النار إلا للكافرين .
قال النووي : معنى الحديث أن هذا جزاؤه ، وقد يجازى به ، وقد يعفو الله الكريم عنه ، ولا يقطع له بدخول النار ، وهكذا سبيل كل ما جاء من الوعيد بالنار لأصحاب الكبائر غير الكفر، فكلها يقال فيها هذا جزاؤه ، وقد يجازي ، وقد يعفى عنه ، ثم إن جوزي وأدخل النار فلا يخلد فيها ؛ بل لابد من خروجه منها بفضل الله تعالى ورحمته ، ولا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ، وهذه قاعدة متفق عليها عند أهل السنة . (انتهى كلام النووي ، رحمه الله تعالى ) ، وهو كلام نفيس ، فتدبره بحكمة وعقل ، واحذر أن تتعلق برجاء العفو تعلقًا يهون عليك معصية من المعاصي ، فإن العفو له أسباب ، وإن أهل الصالحات يحبهم مولاهم ، فيعفو عن أخطائهم ، ويتجاوز عن سيئاتهم ، أما من تعلق بالعفو بغير عمل فمثله : ( كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ) [ الرعد : 14] ، والذي يظن أن العفو سيناله بغير عمل صالح ينبغي أن يراجع إيمانه بربه وتوحيده له فيخشى ألا يكون من أهل التوحيد ، فيكون من أهل الادعاء ، نطق بلسانه ، ولا حقيقة له في قلبه ، فمن استشعر ذلك عاش بين الخوف والرجاء .
وكلام النووي هذا يبين عقيدة أهل السنة في أصحاب الكبائر من الموحدين ، وإن ماتوا مصرين عليها أنهم في المشيئة ، فلا نحكم لهم بجنة ولا بنار ولا لأحد من أهل القبلة عمل ما عمل ، لأن مشيئة الله فوق كل شيء وهو الحكم العدل ، فاحذر أن تغتر بالعفو فتكون مرجئًا تسوي الفاسقين والمؤمنين ، واحذر ضدها فتكون وعيديًّا ، وكن على عقيدة أهل السنة والجماعة .
وقد قال بعض أهل العلم بكفر من تعمد الكذب على النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وهو قول ضعيف (1) ، ووجه هذا القول وإن كان ضعيفًا أن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلاً لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله ، واستحلال الحرام كفر ، والحمل على الكفر كفر .
قال ابن حجر : وفي ذلك نظر لا يخفى ، والجمهور على أنه لا يكفر ، إلا إذا اعتقد حل ذلك.
قال ابن حجر : والحكمة في التشديد في الكذب على النبي – صلى الله عليه وسلم – واضحة، فإنه إنما يخبر عن الله ، فمن كذب عليه كذب على الله ، عز وجل ، وقد اشتد النكير على من كذب على الله تعالى في قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) [الأعراف :37] ، فسوى بين من كذب عليه وبين الكافر ، وقال : ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ) [ الزمر : 60] .
والوعيد أقبح بكل من كذب فيما نسب إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ لأنه لا يتصور أن يكذب له كما زعمت الكرامية – وهي فرقة ضالة مجسمة – حيث جوزوا الكذب على النبي – صلى الله عليه وسلم – في الترغيب والترهيب ، ولتثبيت ما ورد بالقرآن والسنة ، ويزعمون أنه كذب له وليس كذبًا عليه ، وهذا جهل بالشرع وبلسان العرب ، أما الشرع فلأن الله أكمل دينه وأتم نعمته ورضي لنا الإسلام دينًا ؛ ولأنه سبحانه قال : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) [ الإسراء :105] ، وذلك ينفي الحاجة إلى الكذب .
قال ابن حجر : ومعناه – أي الحديث – : لا تنسبوا الكذب إليَّ ، ولا مفهوم لقوله : (عليَّ) ؛ لأنه لا يتصور أن يكذب له لنهيه عن مطلق الكذب . (انتهى) . و(لسان العرب) يفيد أن قوله: (عليَّ) يشمل كل كذب ينسب إليه ، ولحديث أنس : (من تعمد عليَّ كذبًا) .
يقول العيني : (كذبًا) عام في جميع أنواع الكذب ؛ لأن النكرة في سياق الشرط كالنكرة في سياق النفي في إفادة العموم ، هذا وكل من كذب على النبي – صلى الله عليه وسلم – فهو مستخف مستهين بحقه ، وهذا من أسوأ الذنوب .
وفي كتاب (الصارم المسلول) : مبتدعة الإسلام والكذابون والوضاعون للحديث أشد من الملحدين ، قصدوا إفساد الدين من خارج ، وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل ، فهم كأهل بلد سعوا في فساد أحواله ، والملحدون كالمحاصرين من الخارج ، فالدخلاء يفتحون الحصن ، فهم شر على الإسلام من غير الملابسين له . (انتهى) .
وتحتج الكرامية على جواز الكذب على الترغيب والترهيب برواية : (من كذب عليَّ متعمدًا ليضل به الناس فيتبوأ مقعده من النار) ، والحجة باطلة أولاً ؛ لأن زيادة : (ليضل به) باطلة بإجماع أهل الحديث ، ثانيًا مع بطلانها فليست دليلاً ؛ لأنها كقوله : ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ ) [ الأنعام : 144] ، فلا يجوز أن يفتري أحد على الله تعالى ، وكذلك على رسوله- صلى الله عليه وسلم – ؛ لأن قوله شرع ، وكلامه وحي : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) [ النجم : 3 ، 4] .
واعلم أن اللام في قوله : (ليضل به الناس) ليست لام تعليل إنما هي لام العاقبة ، أي مصير كذبه وعاقبته إضلال الناس ، كقوله تعالى : ( فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) [القصص : 8] .
أسباب هذا الكذب
قال شيخ الإسلام : وتعمد الكذب له أسباب :
أ – الزندقة والإلحاد في دين الله .
ب – نصرة المذاهب والأهواء .
جـ – الترغيب والترهيب لمن ظن جواز ذلك .
د – الأغراض الدنيوية لجمع الحطام .
هـ – حب الرياسة بالحديث الغريب .
هل يجوز رواية الحديث بالمعنى ؟
هذا مبحث هام ذكره علماء الأصول، ولعل الراجح الجواز بشروط أهمها:
1 – أن يكون عارفًا بالمعنى، حتى لا يحيل، فلا يأتي بخفي مكان جلي ولا عام مكان خاص، ولا مطلق مكان مقيد والعكس.
2 – ألا يكون من المتعبد بتلاوته ، كالأذان والتشهد ، وبذلك يعلم بطلان بدع الأذان عند الروافض والصوفية .
3 – ألا يكون من جوامع الكلم ، كقوله : (إنما الأعمال بالنيات) ، (الحربخدعة) ، (لاتغضب) ، (الدينالنصيحة) .
من فوائد الحديث
1 – أن الكذب يتناول إخبار العامد والساهي ، بخلاف الأمر ، ولكن الإثم يلحق العامد فقط .
2 – أن الكذب على النبي – صلى الله عليه وسلم – فاحشة عظيمة بلغ بعض أهل العلم بأصحابها إلى الكفر .
3 – يفسق من تعمد كذبة واحدة على النبي – صلى الله عليه وسلم – وترد روايته حتى يتوب وتحسن توبته عند الجمهور ، إلا أن جماعة من أهل العلم ؛ منهم الإمام أحمد قالوا بعدم قبول روايته حتى لو تاب .
4 – الكذب عليه كله حرام ، سواء في الأحكام أو في الرقاق أو الفضائل سواء في اليقظة أو في رؤيا النوم بإجماع المسلمين ، وعلى ذلك فليحذر الذين يكتبون الأحاديث الموضوعة وشديدة الضعف فيعلقونها أو يوزعونها على الناس ، مثل حديث : (تارك الصلاة يعاقب بخمسة عشر عقوبة …) ، وحديث : (يا علي لا تنم حتى ….) .
5 – حرمة رواية الحديث الموضوع لمن عرفه أو غلب على ظنه وضعه .
قال النووي : قال العلماء : ينبغي لمن أراد رواية حديث أن ينظر ، فإن كان صحيحًا أو حسنًا، قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كذا أو فعل كذا ، ونحو ذلك من صيغ الجزم ، وإن كان ضعيفًا فلا يقل : قال أو فعل أو أمر أو نهى أو شبه ذلك من صيغ الجزم ، بل يقول : روي عنه كذا أو جاء عنه كذا ، أو يروى أو يذكر أو يحكى أو يقال أو بلغنا ، وما أشبه ذلك . (انتهى) .
وكلام النووي إنما يكون لمن يفهم الفرق بين هذه الصيغ ؛ فإن حدث من لا يفهم ذلك فلا يذكر إلا ما عرف أنه صحيح أو حسن .
6 – من الكذب أن يحدث المرء بكل ما سمع لحديث : (كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع) .
تاريخ الكذب في الحديث
لم يظهر الكذب في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – في خلافة أبي بكر وعمر وغالب خلافة عثمان ، رضي الله عنهم ، وإنما في آخر حياته ادعى ابن السوداء (عبد الله بن سبأ) في علي أنه وصي النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وأشاع ذلك في خلافة علي ، رضي الله عنه .
وهذا ؛ وجمهور الصحابة وكبار التابعين متوافرون ، وذلك حول سنة أربعين للهجرة ، فكان أن تنادى أهل العلم فقالوا : (سموا لنا رجالكم) ، فنشأ بذلك علم الرجال ، وهو أوسع علوم الدنيا ، فلا نظير له عند سائر الأمم .
فلما ظهر الكذب كان بمثابة التنبيه للأمة حتى تتحصن ، فالحمد لله أن حمى جيل الصحابة جميعًا من كذبة تقع منهم في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – ، والحمد لله أن ظهر الكذب والصحابة لا يزالون متوافرون حتى يكونوا مرجعًا للحديث وتصحيحه ، والحمد لله أن مكن المسلمين من التعريف برجال الحديث من الصحابة فما بعدهم ، فبينوا الجرح وسببه حتى لا يختلف على الناس من الحديث شيء ، فوضعت القواعد التي حفظ الله بها السنة إلى اليوم بحمد الله تعالى .
قال الإمام مالك ، رحمه الله : لا يؤخذ العلم عن أربعة ؛ رجل معلن بالسفه ، وإن كان أروى الناس ، ورجل يكذب في أحاديث الناس ، وإن كنت لا أتهمه أن يكذب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم – ، وصاحب هوى يدعو الناس إلى هواه ، وشيخ له فضل عبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به .
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
———————-
(1) من القائلين بكفر الكاذب الإمام الجويني ، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية وجه الجمع بين قول الجويني في كفر الكاذب على النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين قول الجمهور بأن الكاذب الذي يكفر بكذبه فيقتل هو الذي كذب عليه مباشرة ، مثل حال الرجل الذي ذهب لبني ليث ، فزعم أن النبي- صلى الله عليه وسلم – حكمه في دمائهم وأموالهم . وراجع لذلك (الصارم المسلول) (169 ، 172) .