تربوية العبادة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وبعد،

فالعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال والأحوال والنيات، ورأسها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا.

فالائتمار بأمر الله ورسوله تعبد، والانتهاء عما نهى عنه الله ورسوله تعبد، ومن هنا يظهر أثر التعبد في حياة المسلم الذي آمن بالله ربًّا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولًا، وبالإسلام شريعةً ومنهاجًا، وهذا ما أُسمِيه “تربوية العبادة”.

وها نحن في مدخل شهر رمضان لعام 1438هـ وفيه الصيام، والصلاة، والزكاة، وقراءة القرآن، وغير ذلك، وبعده الست من شوال، وفيها الصيام، وغيره، وبعده العشر من ذي الحجة وفيها العمل الصالح، من صيام وصدقة، وقراءة للقرآن وبر وإحسان، وغير ذلك ويوم عرفة، والحج لمن استطاع إليه سبيلًا.

فهذه عبادات كلفها الله عز وجل عباده المؤمنين، فما من عبادة منها إلا ولها أثرها في حياة المسلم قولًا وفعلًا.

رأسها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وتربويتها في سلوك المسلم، نراه في صحيح قوله -صلى الله عليه وسلم-: ” مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ “(1).

وفي حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه نعليه وقال له: ” اذْهَبْ بِنَعْلَىَّ هَاتَيْنِ فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ”(2).

والشاهد في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ” صدقًا من قلبه“، “مستيقنًا بها قلبه“، وفي ذلك تقرير لمعنى وحقيقة الإيمان؛ وهو ما وقر في القلب، وصدقه القول والعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان هما سيَّان متلازمان لا ينفكان، فهذه عقيدة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعين لهم بإحسان والإيمان بضعة وستون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، كما صح ذلك عن النبي-صلى الله عليه وسلم-: فحقيقة الإيمان بالله ورسوله تظهر في سلوك الإنسان قولًا وفعلًا.

والمؤمن آمن في نفسه مؤَمِنٌ لغيره، كما قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح لغيره” الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ “(3)، وصح قوله -صلى الله عليه وسلم-، في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: ” خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ وَشَرُّكُمْ مَنْ لاَ يُرْجَى خَيْرُهُ وَلاَ يُؤْمَنُ شَرُّهُ “(4).

ومن ذلك حقيقة حبِّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، نرى ذلك في قوله -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح: ” لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ “(5).

وهذا يعني اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أمر به، وفيما ينهى عنه وزجر، وحب النبي -صلى الله عليه وسلم- ملازم لحب الله وحقيقة حب الله، اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]

وتمام حبه -صلى الله عليه وسلم- تقديم قوله وفعله -صلى الله عليه وسلم-، على قول وفعل أي أحد، وقوله في حياته -صلى الله عليه وسلم- كقوله المأثور بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الحجرات: 1]

سنته -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة، هي الميزان الأكبر عليها تُعرض الأقوال والأفعال، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل.

فهذا موجز أول ركن من أركان الإسلام، وأثره في سلوك الإنسان.

ثانيها: الصلاة: تربويتها في سلوك الإنسان: نراه في قوله تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت: 45]

والفحش هو الأمر الذي اشتدَّ قُبحه، فهو القبيح الشنيع من القول أو الفعل.

والمنكر: كل ما تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو يقبحه الشرع أو يُحرمه، أو يكرِّهه.

والبغي: الظلم، والخروج عن الحد المشروع، ومجاوزة الحد في الشيء.

ثالثها: الزكاة: تربويتها في سلوك الإنسان، نراه في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]

فنفعها في النفس ومتعدٍ غلى الغير، فيها تفرج الهموم وتنفس الكروب، وتقضى الحاجات، وتسد الديون، وتجلب المحبة والمودة والرحمة بين المسلمين.

نرى ذلك في صحيح قوله -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ”(6).

رابعها: الصيام: وتربويتها في سلوك الإنسان، نراه في صحيح قوله -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، “الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ، وَلاَ يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ”(7).

وفي قوله -صلى الله عليه وسلم- كسابقه من حديث عثمان بن أبي العاص: “الصِّيَامُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ”(8).

فالصيام: سترة وحماية ووقاية ومانع من الرفث، وهو السُخف وفاحش الكلام، و الصخب: الصياح والسفه.

الصيام وقاية لصاحبه من النار، كوقاية المقاتل بدرعه في ساحة القتال، وفي صحيح قوله -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ”(9).

خامسها: الحج: وتربويته في سلوك الإنسان، نراه في صحيح قوله -صلى الله عليه وسلم-: ” مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ”(10).

حيث ترك أهله ووطنه وماله، وقد تجرد من ثيابه، ذاهبًا إلى محلةٍ، تلبيةً لدعوة ربه، تائبًا مما ألَّمه كبيرًا أو صغيرًا، فهلل وكبر، وصلى وطاف ودعا ربه باكيًا خائفًا راجيًا، وقد طوى صفحات على ما فيها، وفتح أخرى يزينها بعقيدة صحت، وتعبد ورد وتعامل شرع، يزينها بعدل، ورحمة ورفعة ولين، ولسان رطب بذكر الله، وقد كثر صياحه بقوله: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”.

وهو من صحيح قوله -صلى الله عليه وسلم- من حديث ابن عمر-رضي الله عنه-، وكان يزيد فيه” لبيك وسعديك، والخير بيديك والرغباء إليك والعمل”.

وفي ذلك: طهارة النفس من أوزار الذنوب والمعاصي، وإعلان العبودية لله وحده وخلع ما سواه والتجرد من شهوات النفس وملذاتها وإذلال الشيطان، ومرضاة الرحمن، وتنمية روح المحبة والتعاون بين المسلمين، والمساواة، وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله.

نسال الله العفو والعافية، وأن يجعلنا صالحين مصلحين.

وكتبه

صبري محمد عبد المجيد

(1) أخرجه البخاري (128)، وهذا لفظه، ومسلم(157). من حديث معاذ بن جبل-رضي الله عنه-.

(2) أخرجه مسلم(156).

(3) أخرجه ابن ماجه بهذا اللفظ(3934).

(4) أخرجه الترمذي(2432)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

(5) أخرجه البخاري(15)، وهذا لفظه، ومسلم(177).

(6) أخرجه مسلم(7028).

(7) أخرجه البخاري(1904) وهذا لفظه، ومسلم(2759).

(8) أخرجه أحمد(16278).

(9) أخرجه البخاري(1903).

(10) أخرجه البخاري(1521) وهذا لفظه، ومسلم(3357).