التربية بين الأصالة والتجديد (5)

كان المقال السابق حول أسلوب النبي -صلى الله عليه وسلم- في التعليم ثم بعض الوسائل التربوية له ذكرنا منها التربية بالقدوة ونتحدث اليوم عن:

 التربية بالإرشاد والتوجيه

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- دائم الرعاية لأصحابه يرشدهم إذا أخطئوا ويبين لهم إذا جهلوا وتظهر في ثنايا ذلك الحكمة البالغة والأثر الواضح. ومن أمثلة ذلك:

فقال: أما في بيتك شيء ؟. قال: بلى جلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه من الماء، قال: ائتني بهما فأتاه بهما فأخذهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل أنا آخذهما بدرهم، قال من يزيد على درهم، (مرتين أو ثلاثًا) قال رجل أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدومًا فأتني به. فأتاه به فشد فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عودا بيده ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يومًا. فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبًا وببعضها طعامًا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة. أن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع ولذي غرم مفظع أو لذي دم موجع. رواه أبو داود.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن فتى شابًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله ائذن لي بالزنى فأقبل القوم عليه فزجروه فقالوا مه! مه! فقال: ادنه فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لأبنتك؟ قال لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه، قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.

وفي ثنايا هذه الدروس تبدو الأساليب التربوية الجليلة الكثيرة منها:

أسلوب ضرب المثل

قد يكون هذا المثل منطوقًا لتقريب الفهم. فيقرب النبي -صلى الله عليه وسلم- الخسارة الدينية بضرب المثل بالخسارة الدنيوية كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله. رواه البخاري.

وقد يكون المثل لتقريب أمر غيبي كمشاهد القيامة والجنة والنار. وذلك كحديث البخاري عن جرير بن عبد الله: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته. فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. ثم قال {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} فقرب رؤية أهل الجنة لربهم سبحانه وتعالى برؤية القمر ليلة البدر حيث يرونه دون تزاحم فلا يحجب أحد الرؤية عن أحد.

ومن الأحاديث التي ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها أمثلة متعددة ما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يحدث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال: “إني أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها”. فقال رجل يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- قلنا يوحى إليه وسكت الناس كأن على رءوسهم الطير ثم أنه مسح عن وجهه الرحضاء فقال أين السائل آنفًا؟ فقال: أنه لا يأتي الخير بالشر وأن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم إلا آكلة الخضراء أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت وبالت ورتعت. أن هذا المال خضرة حلوة فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل و لا يشبع ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة.

والحديث فيه من الدرر النفيسة ما يطول بيانه لكني أكتفي بنقل وجوه التشبيه فيه من فتح الباري.

أولها: تشبيه المال ونموه بالنبات وظهوره.

 ثانيها: تشبيه المنهمك في الاكتساب والأسباب بالبهائم المنهمكة في الأعشاب.

وثالثها:تشبيه الاستكثار منه والادخار له بالشره في الأكل والامتلاء منه.

ورابعها: تشبيه موت الجامع للمال المانع من إنفاقه بموت البهيمة الغافلة عن دفع ما يضرها فتأكل حتى تهلك.

وخامسها: تشبيه المال بالصاحب الذي لا يؤمن أن ينقلب عدوًّا فإن المال من شأنه أن يكتنز و ذلك يقتضي منعه من مستحقيه فيكون سببًا للعقوبة.

وسادسها: تشبيه آخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع.

ومنها حديث البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى أنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.

ومنها حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى اله الذي أرسلت به”.

ومنها حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات. وما يبقى ذلك من الدرن؟ رواه أحمد ومسلم.

ومن حديث النعمان بن بشير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا (رواه البخاري).

ومنها حديث البخاري عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعي له سائر جسده بالسهر والحمى.

وهذه الأمثلة كثيرة قد صنف فيها ابن الحنبلي ناصح الدين الأنصاري كتابًا قيمًا مباركًا. بل أن من الأمثلة التي يستخدمها النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يسميه التربويون وسائل إيضاح. وقد تكون هذه الوسيلة هي أصابعه الشريفة يبين قرب المنزلة كحديث البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا. وقال بأصبعيه السبابة الوسطى.

وقد يشير بأصابعه لبيان قرب الزمان كحديث البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “بعثت أنا والساعة كهاتين. وأشار بالوسطى والسبابة”.

وقد تكون الوسيلة المستخدمة خطوطًا يخطها النبي -صلى الله عليه وسلم- على الأرض مثل حديث البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط النبي -صلى الله عليه وسلم- خطأ مربعًا وخط خطأ في الوسط خارجًا منه وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط. وقال هذا الإنسان وهذا أجله محيط أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطوط الصغار الأعراض. فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا.

وكذلك حديث أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال خط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطأ بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيمًا. وخط عن يمينه وشماله ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ “وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله”

قال ابن مسعود تركنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جواد- أي طرق- وعن يساره جواد ثم رجال يدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة.

أسلوب القصة

ومن الأساليب التربوية أيضًا أسلوب القصة. كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقصها أو تنزل قرآنًا يتلى على الناس ويكون من وراء تلك القصة أهداف سامية تتحقق بها. ومن أمثلة ذلك قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار في تعلم أثر التوسل بالعمل الصالح. وقصة الأبرص والأقرع والأعمى لتمثيل الاختيار في دار الدنيا وخسارة من يخلد إليها. وقصص الأنبياء السابقين وغير ذلك من القصص التي لا تقع تحت حصر.