العدة والحداد (2)

الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسوله محمد ، وآله وصحبه وسلم – ، أما بعد :

فقد تكلمنا في الحلقة الماضية عن حديث سبيعة الأسلم -ية ، رضي اللَّه عنها ، وفي هذه الحلقة نكمل حديثنا حوله أيضـًا ، فنقول وباللَّه تعالى التوفيق :

ففي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم – في ((صحيحيهما)) قالت زينب بنت أبي سلمة-: دخلت على أم حبيبة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – حين توفى أبوها أبو سفيان ، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صُفرة خَلوق أو غيره ، فدهنــت  منه ثم مست بعارضيها ، ثم قالت: واللَّه ما لي بالطيب من حاجة ، غير أني سمعت رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – يقول على المنبر : (( لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا )) . قالت زينب : ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها ، فدعت بطيب فمست منه ، ثم قالت : واللَّه ما لي بالطيب من حاجة ، غير أني سمعت رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – يقول على المنبر: (( لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا )) . قالت زينب : سمعت أمي أم سلمة تقول : جاءت امرأة لى رسول اللَّه  – صلى الله عليه وسلم – فقالت : يا رسول اللَّه : إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها ، أفنكحلها ، فقال رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – (( لا )) – مرتين أو ثلاثـًا كل ذلك يقول : (( لا )) – ثم قال : (( إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول )) ، قال حميد : فقلت لزينب : وما ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ فقالت زينب : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشـًا ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيبـًا ولا شيئـًا حتى تمر بها سنة ، ثم تؤتى بدابة – حمار ، أو شاة ، أو طير – فتفتض به ، فقلما تفتض بشيء إلا مات ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره .

زينب بنت أبي سلمة

هي ربيبة النبي – صلى الله عليه وسلم – وابنة أبي سلمة أخو النبي – صلى الله عليه وسلم – من الرضاع ، حيث إنه هو ورسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم  – وحمزة بن عبد المطلب ثلاثتهم أرضعتهم ثويبة مولاة أبي لهب ، وزينب بنت أبي سلمة هذه أرضعتها أسماء بنت أبي بكر الصديق ، فهي أخت لأبناء الزبير من الرضاع ، وعائشة خالتها من الرضاع ، وقد دخلت بيت رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – وأمها ترضعها ، وكانوا قد سموها برة، فغير النبي – صلى الله عليه وسلم – اسمها إلى زينب .

وزينب بنت أم سلمة نشأت في بيت النبي – صلى الله عليه وسلم –  فمكثت سنوات طفولتها فيه ، وتعلمت من أمها ، بل من رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم –  فكانت أفقه النساء في زمان التابعين ، وزينب هذه روت ذلك الحديث عن ثلاثة من أمهات المؤمنين – رضوان اللَّه عليهم أجمعين-

الأولى : هي أم حبيبة بنت أبي سفيان ، رضي اللَّه تعالى عنها ، وروته عن وفاة أبيها أبو سفيان بن حرب – رضي اللَّه عنه – وهي من السابقين للإسلام ، هاجرت للحبشة وتنصر زوجها عبيد اللَّه بن جحش ، فتزوجها رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم –  أرسل للنجاشي فعقد عليها للنبي – صلى الله عليه وسلم –  وأصدقها عنه أربعمائة دينار ، وأما وفاة أبيها سفيان بن حرب ؛ فكانت في سنة إحدى وثلاثين بالمدينة ، عن نحو تسعين سنة ، وكان أبو سفيان رأس قريش يوم أحد والخندق والحديبية ، وله هنات وأمور صعبة ، لكن اللَّه تداركه بالإسلام يوم الفتح فأسلم كالمكره الخائف ، ثم مَن اللَّه عليه ، فحسن إسلامه بعد ، والإسلام يَجُب ما قبله ، حيث شهد الطائف ، فأصيبت عينه يومئذ ، وأصيبت الأخرى يوم اليرموك ، وهو يحرض على الجهاد تحت راية ولده يزيد ، يصيح بقوله : يا نصر اللَّه اقترب ، ويقول : اللَّه اللَّه ، إنكم أنصار الإسلام ودارة العرب ، وهؤلاء أنصار الشرك ودارة الروم ، اللهم هذا يوم من أيامك ، اللهم أنزل نصرك .

فكان ما حكته زينب بنت أبي سلمة من تطييب أم حبيبة بعد موته .

أما الثانية : فهي زينب بنت جحش ، زوج النبي – صلى الله عليه وسلم –  تزوجها بعد طلاق زيد بن حارثة لها ، وكانت تقول لزوجات النبي – صلى الله عليه وسلم –  زوجكن أهليكن ، وزوجني اللَّه من فوق سبع سماوات ، فأنزل اللَّه عز وجل قوله تعالى : { وإذ تقول للذي أنعم اللَّه عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق اللَّه وتُخفي في نفسك ما اللَّه مُبْديه وتخشى الناس واللَّه أحقُّ أن تخشـهُ فلما قضى زيدٌ منها وطرًا زوجْنَكها }[ الأحزاب: 37]، وكانت عائشة ، رضي اللَّه عنها ، تقول : لم يكن أحد من نساء النبي – صلى الله عليه وسلم- تساوينى في حسن المنزلة عنده إلا زينب بنت جحش .

وقالت عائشة : ما رأيت امرأة قط خيرًا في الدين من زينب ، وأتقى للَّه ، وأصدق حديثـًا ، وأوصل للرحم ، وأعظم أمانة وصدقة، وكانت أول نساء رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم-

لحوقـًا به ، حيث توفيت سنة عشرين للهجرة ، وبذلك ففي هذا إشكالان :

الأول : حكاية زينب بنت أبي سلمة أنها دخلت عليها في وفاة أخيها ، ونعلم أن إخوتها ثلاث : عبد اللَّه ، وعبيد اللَّه ، وعبد ، والثالث يكنى ( أبو أحمد ) ، فأما الأول : فمات في غزوة أُحد، وأما الثاني عبيد اللَّه بالتصغير : فهذا هو الذي كان زوجـًا لأم حبيبة ، وتنصر ومات بالحبشة ، وأما الثالث المكنى بأبي أحمد : فهذا هو الشاعر الأعمى ، وقد شهد جنازتها ، يعني مات بعدها ؛ ولذا فإن ابن حجر قال : فلعله – أي المتوفى – أخ لأم ، أو أخ من رضاع .

والإشكال الثاني : في قول زينب بنت أم سلمة : ( ثم دخلت على زينب ) ، فحرف العطف ثم يفيد التراخي والترتيب ، وفي رواية البخاري : فدخلت على زينب – والعطف بالفاء يفيد الترتيب والتعقيب ، فلعل ( ثم ) هنا استخدمت بمعنى الواو التي تفيد مطلق الجمع ، حيث قال في (( النحو الوافي )) :-ومنها- وهذا قليل جائز، أنها قد تكون بمعنى واو العطف فتفيد مطلق الجمع والاشتراك من غير دلالة على ترتيب بشرط وجود قرينة، ومثاله قول ابن مالك:

كلامنا لفظ مفيد كاستقم

واسم وفعل ثم حرف الكلم

أو لعله من الرواية بالمعنى تصرفـًا من بعض الرواة، ولعله ترتيب ذكر زينب ؛ أي ثم ذكرت دخولها على زينب بعد ذكر دخولها على أم حبيبة، ولكن يمكن أن يحل ذلك الإشكال برواية لمسلم  من قول زينب : توفي حميم لأم حبيبة، فتكون تلك غير وفاة أبيها ، ويكون ذلك الحميم مات قبل موت زينب بنت جحش، أي قبل سنة عشرين؛ لأن أبا سفيان مات سنة إحدى وثلاثين – كما سبق- واللَّه أعلم .

الثالثة : أم سلمة – رضي اللَّه عنها – وهي أم زينب التي روت الحديث ، ومن زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد تزوجها رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – بعد وفاة أبي سلمة ، رضي اللَّه عنهما ، وموت أم سلمة كان في سنة إحدى وستين للهجرة .

والذي يظهر من الحديث أن الإحداد على الزوج أمر لازم دينـًا ، وأما الإحداد على غيره فهو إذن يمكن أن يمنع منه الزوج ، فيعلم أنه يجوز الإحداد على غير الزوج من قريب ونحوه ثلاث ليال فما دونها ، فما زاد عليها فحرام لا يجوز ، وكأن هذا القدر أبيح لأجل حفظ النفس ومراعاة غلبة الطباع البشرية ، ولهذا تناولت أم حبيبة وزينب بنت جحش ، رضي اللَّه عنهما، الطيب لتخرجا من عهدة الإحداد ، وصرحتا بأنهما لم تتطيبا لحاجة ، إشارة إلى أن آثار الحزن باقية عندهما ، لكنهما لا يسعهما إلا الامتثال لأمر الشرع ، وتقديمه على حظ النفس ، فضلاً عن العادة والعرف .

وفي الحديث النهي الصريح عن الاكتحال للمرأة في حدادها ، ولو كان علاجـًا لمرض أصاب عينها ، وإنما ذلك ليس منعـًا من التداوي، ولكنه منع من التزين ؛ لأن الكحل يجمع بين التداوي والزينة ، وغير الكحل يمكن أن يحدث منه الدواء بدون زينة ؛ لذا جاء النهي الصريح عن الاكتحال في حدادها .

ففي الجاهلية كانت المرأة في حدادها لا تمس ماءً ، ولا تقلم ظفرًا ، ولا تزيل شعرًا ، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر ، ثم تفتض بدابة أو طائر – أي : تحك جلدها به – فيموت من وسخ جسمها الذي انتقل إليه .

وفي حديث سبيعة جاء : ( فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك – رجل من بني عبد الدار- فقال لها: ما لي أراك تجملت للخطاب، ترجين النكاح…إلخ).

( تعلت من نفاسها ) : لفظة تحتمل : طهرت من نفاسها ، وتحتمل بمعنى : استعلت من ألم نفاسها ؛ أي بدخولها فيه ، والراجح هنا الثاني؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أفتاها إذا وضعت أن تنكح إن شاءت ، وفي رواية : (( حللت حين وضعت حملك )) .

يقول ابن حجر : يجوز العقد عليها إذا وضعت ولو لم تطهر من دم نفاسها ، وبه قال الجمهور ، ومنه قول ابن شهاب عند مسلم – : ولا أرى بأسـًا أن تتزوج حين وضعت ، وإن كانت في دمها ، غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر .

وظاهر القرآن في قوله تعالى : { أن يضعن حملهنَّ } [ الطلاق : 4 ] علق الحل على الوضع، وقصره عليه ، ولم يقل : إذا طهرت ، ولا إذا انقطع دمك ، فصح ما قاله الجمهور .

( تجملت للخطاب ) : هذه الكلمة ذكرها الأئمة من أهل العلم والمحدثين دون نكير أو تفسير ، دل على أنهم لم يروا فيها من شيء مستهجن؛ ذلك لأنهم عاشوا في عصور تلتزم بالشرع وتفهم الإسلام، وتبني ما اشتبه عندهم بيانه إلى الواضح من مسائل الشرع، لكن العلمانيين وزبانيتهم من المتلصصين الذين يسرقون الكلمات يتاجرون بها يستخدمون مثل تلك العبارات استخدامـًا يظهر منه حبهم لشيوع الفاحشة ، ليحيق بهم قول اللَّه تعالى : { إن الذين يُحبون أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخرة واللَّه يعلم وأنتم لا تعلمون } [ النور : 19 ] ؛ لذا وجب أن نقف هنا وقفات :

الوقفة الأولى : أن المرأة التي مات زوجها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا ، فلا تتطيب في بيتها ، فضلاً عن خارجه ، فكأن من دخل بيتها فشم ريحـًا علم أنها خرجت من عدتها ، ومعلوم أن الريح يدرك بالأنف ، ولو من وراء حجاب ، لذا فإن المرأة منهية عن التعطر إذا خرجت من بيتها ، أو مرت على رجال في غير حدادها ، أما في الحداد فلا تتطيب البتة ، فيعلم انتهاء عدتها إذا شم أحد منها ريحـًا وهي في بيتها .

وكذلك تحد على زوجها بألا تلبس ثوبـًا صبيغـًا؛ يعني أن يكون ثوبها على لون نسيجها من صوف ، أو وبر ، أو قطن ، أو كتان ، أي لا تتكلف في ذلك ثوبـًا غير ما عندها ، ولا تلبس ثوبـًا فيه زينة ، واستثنوا من ذلك ما كان صبغه لقذر أصابه بغير أن يكون ذلك لزينة؛ كالأسود الذي لا لمعان فيه ، فكأن المرأة يظهر انتهاء عدتها على زوجها بلون ثيابها، وإن كانت منتقبة يقال لها عندئذ : تجملت للخطاب ، بل إن جماعة من أهل العلم يمنعون الحادة من النقاب ، فكأنها إذا رئيت منتقبة دل ذلك على أنها تجملت للخطاب ، وذلك ما ذكره الخرقي في (( المختصر )) ، وابن قدامة في (( المغني )) ، وقال : فإن احتاجت إلى ستر وجهها أسدلت عليه كما تفعل المحرمة .

والمرأة منهية في حدادها أن تخرج نهارًا إلا لحاجة ، ولا ليلاً إلا لضرورة ، فإذا خرجت لصلة رحم أو عيادة مريض أو شهود صلاة في مسجد دل ذلك على خروجها من حدادها ، ويقال لها : تجملت للخطاب ، لذا علينا أن نتنبه لتلك الكلمات ، وأن نحذر من أن نحملها على عادة المعاصرين فنسيء الظن بجيل الصحابة الكرام ، رضي اللَّه عنهم .

الوقفة الثانية : أن الإسلام يحث على أن تكون المرأة تحت زوج دائمـًا ؛ لذا جاء الإذن بالتعدد للزوجات حتى لا تبقى امرأة بغير زوج ، سواء بكرًا ، أو مطلقة ، أو مات عنها زوجها ، وذلك ما يجعل المرأة دائمـًا مرغوبة ، فيُصبح عدد النساء دائمـًا دون الكفاية للتعدد من الرجال ، وهذا هو الذي يرفع اللَّه به الهوان عن المرأة ، فلا تحيا إلا في بيت ترى نفسها فيه معززة مكرمة ؛ ولأن اللَّه سبحانه وعدها بالخير في قوله : { وإن يتفرقا يُغْنَ اللَّه كلاًّ من سعته } [ النساء : 130 ] ، وهذا من محاسن الإسلام التي تغافل عنها الناس ، حتى ظنوها شرًّا وهم لا يعلمون ، فلقد أخرجوا المرأة من حيائها ودفعوها للعمل ، وعرضوها للذئاب بدعوى حريتها ومساواتها للرجل ، فحدث لها ومنها الشقاء والنكد ، مع أن الشرع قد ضمن لها الرعاية والخير . ولا حول ولا قوة إلا باللَّه .

الوقفة الثالثة : أن حال الناس اليوم إفراط وتفريط ، فالمرأة مأذون لها في أن تحد على غير الزوج ثلاثة أيام ، ولا يجوز لها الزيادة، ويجوز لزوجها منعها من الحداد على كل ميت غيره ؛ لأن الزينة حقه ، والحداد على غير الزوج ليس عليها بلازم ، إنما هو إذن فقط ، أما حدادها على الزوج فهو لازم أربعة أشهر وعشرًا .

وحال الناس اليوم أشد من الجاهلية الأولى ، حيث تحد المرأة على أبيها ، وعلى أخيها ، وعلى ولدها عامـًا وقد تزيد ، وكثيرًا ما نرى الزوجة التي مات زوجها يمنعها أهلها من الزواج بعده ، ويرون كأن عارًا يلحقهم إن هي تزوجت بعد وفاة زوجها ، وقد يموت عنها وهي شابة صغيرة بعد أن ذاقت الحياة مع الأزواج ، ثم تمنع من ذلك ، وهذا مخالف لشرع الإسلام ، وقد تقع في الخطأ بذلك السبب وهي آثمة في وقوعها في الخطأ مهما كان يسيرًا ، لكن على كل من منعها الزواج مثل ذلك الإثم ، بل لو كان الذي منعها ولي لها فإن ولايته تسقط بمنعها وإعضالها عن الزواج، وتنتقل الولاية للولي الذي بعده ، فإن لم يكن لها وَلىٌّ غيره، فالسلطان ولي من لا ولي له، وما يعرض من مشكلات في ذلك الأمر شديد ينبغي أن نتنبه له، وأن ننتقل عن حياة الجاهلية هذه .

حتى إن كثيرًا من الأبناء يمنعون أمهاتهم، بل وأبيهم من الزواج بعد وفاة الزوج، وكفى بذلك من العقوق الذي يحرم الجنة، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.

يقول ابن حجر : وفي قصة سبيعة من الفوائد أن الصحابة كانوا يفتون في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم –  وأن المفتي إذا كان له ميل إلى شيء لا ينبغي له أن يفتي فيه لئلا يحمله الميل إليه على ترجيح ما هو مرجح كما وقع لأبي السنابل ، حيث أفتى سبيعة أنها لا تحل بالوضع لكونه كان خطبها فمنعته، ورجا أنها إذا قبلت ذلك منه وانتظرت مضي العدة حضر أهلها فرغبوها في زواجه دون غيره .

وفيه ما كان من سبيعة من الشهامة والفطنة، حيث ترددت فيما أفتاها به حتى حملها ذلك على استيضاح الحكم من الشارع، وهكذا ينبغي لمن ارتاب في فتوى المفتي أو حكم الحاكم في مواضع الاجتهاد أن يبحث عن النص في تلك المسألة، وفيه الرجوع في الوقائع إلى الأعلم .

وفيه مباشرة المرأة السؤال عما ينزل بها ولو كان مما يستحي النساء من مثله لكن خروجها من منزلها ليلاً يكون أستر لها كما فعلت سبيعة .

وفيه أن الحامل تنقضي عدتها بالوضع على أي صفة كان من مضغة أو علقة ، سواء استبان خلق الآدمي أم لا ؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – رتب الحل على الوضع من غير تفصيل وهو الذي عليه الجمهور ، وخالف ابن دقيق العيد والشافعي .

وفيه جواز تجمل المرأة بعد انقضاء عدتها لمن يخطبها دون تبرج أو سفور ، بل بما يوافق الشرع المطهر .

وفيه أن المرأة لا يجب عليها التزويج لقولها في الخبر: ( وأمرني بالتزويج إن بدا لي )، فيكون معناه: وأذن لها، وفي رواية ابن ماجه فقال: ( إن وجدت زوجـًا صالحـًا فتزوجي)، وعند أحمد : ( إذا أتاك أحدًا ترضينه ) . وفيه أن الثيب لا تزوج إلا برضاها من ترضاه ولا إجبار لأحد عليها ، ولا يعني ذلك أن تزوج نفسها بغير ولي ، فكل نكاح لثيب أو بكر بغير ولي فهو باطل للأحاديث الصحيحة الكثيرة .

والنساء في حكم الخطبة على ثلاثة أقسام :

أحدها : التي تجوز خطبتها تعريضـًا وتصريحـًا ، وهي التي تكون خالية من الأزواج والعدد لا يستثنى منهن إلا من كانت مخطوبة لغيره ، وكانت إجابتهم له بقبول خطبته صريحـًا .

الثاني : التي لا تجوز خطبتها لا تصريحـًا ولا تعريضـًا :

أ- وهي المرأة المتزوجة ؛ لأن ذلك قد يخببها على زوجها ، في حديث أبي داود وأحمد وابن حبان عن أبي هريرة ، رضي اللَّه عنه : (( من خبب زوج امرئ أو مملوكه فليس منا )) . وقوله : (( خبب )) ؛ أي خدع أو أفسد .

ب- المرأة المطلقة طلاقـًا رجعيـًّا ؛ لأنها زوجة تعتد من زوجها إذا مات وترثه .

الثالث : التي يجوز التعريض بخطبتها دون التصريح وهي :

أ- التي لا تزال في عدة الوفاة من زوجها ؛ لقوله تعالى : { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خِطبة النساء } [ البقرة : 235 ]، ودليل النهي عن التصريح إذن اللَّه تعالى لهم بالتعريض ، فلو كان التصريح جائزًا ما كانت حاجة لذكر التعريض .

ب- المعتدة من طلاق بائن بينونة كبرى ( طلاق ثالث ) ، وإن كره بعض أهل العلم ذلك ؛ لأن الفرق بينها وبين المعتدة من وفاة أن عدة الحيضات يمكن كتمانها أو الخيانة فيها أما عدة الأشهر : ( أربعة أشهر وعشرة أيام ) لا يمكن فيها ذلك .

التعريض في الخطبة : هو الكلام الذي يفهم به السامع مراده من غير تصريح ، وأمثلته أن يذكر نسبه لتسمعه أو يذكر رغبته أو حاجته إلى زوجة أو كلامـًا يفيد من صفاتها ما يرغب فيه . مثل أن يقول : ( رب راغب فيك ) ، أو ( من يجد مثلك ) ، أو ( وددت أن ييسر اللَّه لي امرأة صالحة ) .

أما التصريح : فذكر الألفاظ التي تحمل المعنى المباشر لا يقصد غيره .

هذه جملة من فوائد حديث سبيعة الأسلمية ، وفي الحديث تصوير للحياة الاجتماعية التي جاء بها الإسلام ، فكرم المرأة كامل التكريم ، فصارت ترى بيتها وأهلها عونـًا لها على طاعة ربها ، وترى كذلك وظيفتها في بيتها عون أهلها وزوجها وولدها على طاعة ربهم ، فكانت البيوت المسلم -ة تسعد أهلها وتعدهم للجنة في الآخرة .

ولذا فإنني أختم الكلمة بذكر هذا الحديث الذي أخرجه ابن ماجه والبيهقي وسند البيهقي صحيح عن الزبير بن العوام – رضي اللَّه عنه – وكانت عنده أم كلثوم بنت عقبة ، فقالت له وهي حامل : طيب نفسي بتطليقة ، فطلقها تطليقة ، ثم خرج إلى الصلاة ، فرجع وقد وضعت ، فقال : ما لها ؟ خدعتني خدعها اللَّه ، ثم أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : سبق الكتاب أجله اخطبها إلى نفسها .

فتدبر هذه أم كلثوم التي نزل بسببها آيات سورة (( الممتحنة )) : { يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ فامتحنوهن اللَّه أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمناتٍ فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حلٌّ لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } [ الممتحنة : 10 ] ، وأم كلثوم هذه هاجرت في العام السابع من الهجرة، ثم تزوجت بعبد اللَّه بن رواحة الذي مات عنها في غزوة مؤتة ، ثم تزوجها الزبير بن العوام فطلقها، وتلك قصتها ، ثم تزوجها عبد الرحمن بن عوف ، حتى مات عنها وانجب منها ، ثم تزوجها عمرو بن العاص فماتت عنده ، و صلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم