من البيوع المنهي عنها - بيع الغرر / البيع على بيع أخيه
5- الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة محمد بن
عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
نواصل ما بدأناه في العدد الماضي حول صور البيوع المنهي عنها، فقد
تحدثنا في العدد السابق: عن بيع الإنسان ما ليس عنده، وبيع ما لم يقبضه، وفي هذا
العدد نتحدث - بمشيئة الله تعالى - عن:
3- بيع الغرر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الحَصَاةِ وعن بيع
الغَرَرِ.
هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في باب (بطلان بيع الحصاة
والبيع الذي فيه غرر) برقم (1513)، وأبو داود في باب (في بيع الغرر) برقم (3376)،
والترمذي في باب (ما جاء في كراهية بيع الغرر) برقم (1230)، والنسائي في باب (بيع
الحصاة) برقم (4522)، وابن ماجه في باب (النهي عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر) برقم
(2194)، وأخرجه برقم (2195) عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما أخرجه الإمام أحمد في
المسند (2/436، 496).
شرح الحديث
أما الغرر فمعناه - كما قال في النهاية -: هو ما كان له ظاهر يَغُرُّ
المشتري وباطن مجهول، ونقل عن الأزهري قوله: بيع الغرر: ما كان على غير عهدة ولا
ثقة، وتدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان من كل مجهول.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: وأما النهي عن بيع الغرر فإنه أصل عظيم
من أصول كتاب البيوع، ولهذا قدمه مسلم، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة كبيع
الآبق - أي العبد الهارب من سيده - والمعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه،
وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع
الحمل في البطن، وبيع بعض الصبرة مبهمًا (والصُّبْرَةُ معناها: الكُومَةُ من
الطعام)، وبيع ثوب من أثواب، وشاة من شياه (أي دون تعيين)، ونظائر ذلك، فكل هذا بيعه
باطل ؛ لأنه غَرَرٌ من غير حاجة، قال: وقد يحتمل (أي يُعفى عن) بعض الغرر تبعًا
إذا دعت إليه حاجة كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل، والتي في ضرعها
اللبن، فإنه يصح البيع ؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه
فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول في حمل الشاة ولبنها، وكذلك أجمع المسلمون على
جواز أشياء فيها غرر حقير ؛ منها أنهم أجمعوا على صحة بيع الجُبَّة المحشوة وإن لم
يُرَ حَشْوُها، ولو بيع حشوها بانفراده لم يجز (وكذا كل لباس له حشو باطني غير
ظاهر يجوز بيعه دون رؤية الحشو)، قال: وأجمعوا على جواز إجارة الدار والدابة
والثوب ونحو ذلك شهرًا، مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعة وعشرين
يومًا، وأجمعوا على جواز دخول الحمام (للاستحمام) بالأجرة مع اختلاف الناس في
استعمالهم الماء، وفي قدر مكثهم، وأجمعوا على بطلان بيع الأجنة في البطون والطير
في الهواء.
ثم قال: قال العلماء: مدار البطلان بسبب وجود الغرر، والصحة مع وجوده
على ما ذكرناه، وهو أنه: إن دعت الحاجة إليه إلى ارتكاب الغرر، ولا يمكن الاحتراز
عنه إلا بمشقة، وكان الغرر حقيرًا جاز البيع، وإلاَّ فلا.
قال: وما وقع في بعض مسائل الباب من اختلاف العلماء في صحة البيع
فيها وفساده ؛ كبيع العين الغائبة مبني على هذه القاعدة، فبعضهم يرى أن الغرر حقير
فيجعله كالمعدوم فيصح البيع، وبعضهم يراه ليس بحقير فيبطل البيع، والله أعلم.
قال الإمام الترمذي عقب هذا الحديث: وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس
وأبي سعيد وأنس. قال المباركفوري في التحفة: أما حديث ابن عمر فأخرجه البيهقي وابن
حبان، قال الحافظ: إسناده حسن، وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجه وأحمد، وأما
حديث أبي سعيد فأخرجه ابن ماجه، وأما حديث أنس فأخرجه أبو يعلى، وفي الباب أيضًا
عن سهل بن سعد عند الدارقطني والطبراني، وعن علي عند أحمد وأبي داود، وفي الباب
أحاديث أخر ذكرها الحافظ في التلخيص الحبير، والعيني في شرح البخاري.
وقال الترمذي أيضًا: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم ؛ كرهوا
بيع الغرر. اهـ.
واعلم أن الكراهة هنا للتحريم وليست للتنزيه. كما مر بك في شرح
النووي الذي سقناه في قوله: وكل هذا بيع باطل. والتحريم يقتضي البطلان، وكذلك
البطلان يقتضي التحريم.
وقد بوب البخاري في الصحيح: باب بيع الغرر وحَبَلَ الحَبَلَةِ.
قال الحافظ في الفتح بعد أن ضبط (حبل الحبلة)، وتكلم عليه من حيث
اللغة، قال: ولم يذكر - أي البخاري - في الباب بيع الغرر صريحًا، وكأنه أشار إلى
ما أخرجه أحمد من طريق ابن إسحاق حدثني نافع، وابن حبان من طريق سليمان التيمي عن
نافع عن ابن عمر قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
عن بيع الغرر، وقد أخرج مسلم النهي عن بيع الغرر من حديث أبي هريرة، وابن
ماجه من حديث ابن عباس، والطبراني من حديث سهل بن سعد، ولأحمد من حديث ابن مسعود
رفعه: (لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر)، وشراء السمك في الماء نوع من أنواع
الغرر، ويلتحق به الطير في الهواء، والمعدوم والمجهول والآبق، ونحو ذلك.
أنواع الغرر
قال النووي: واعلم أن بيع الملامسة وبيع المنابذة وبيع حَبَل
الحَبَلَة وبيع الحصاة وبيع عَسْبِ الفحل وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص
خاصة، هي داخلة في النهي عن بيع الغرر، ولكن أفردت بالذكر ونهي عنها لكونها من
بيوع الجاهلية المشهورة، والله أعلم.
من أنواع
الغرر
أ- بيع الحصاة:
وفيه حديث أبي هريرة وهو حديثنا هذا، ومعنى بيع الحصاة كما قال
الإمام النووي في شرح هذا الحديث؛ قال: فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي
أرميها، أو: بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة. أي ويرمي
الحصاة فتقع في مكان معين فيكون مكان وقوعها حدًا لما يبيعه من الأرض.
والثاني: أن يقول: بعتك على أنك بالخيار إلى أن أرمي بهذه الحصاة. أي
أنت بالخيار في قبول البيع أو رده إلى أن أرمي بهذه الحصاة فيكون رميها نهاية
للخيار وملزمًا بالبيع.
والثالث: أن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعًا فيقول: إذا رميت هذا
الثوب بالحصاة فهو مبيع منك بكذا.
ب- بيع الملامسة:
وفيه حديث أبي سعيد: ونهى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- عن الملامسة. قال: والملامسة لمسُ الثوب لا ينظر إليه، وهو
في الصحيحين جزء من حديث البخاري (2144)، ومسلم حديث (1512). وفيه أيضًا حديث أبي
هريرة في الصحيحين أيضًا برقم (2146) البخاري، وبرقم (1511) في مسلم. والمقصود
بالملامسة أن يلمس المشتري الثوب ونحوه ولا يقلبه ليعرف كنهه، بل يجعل اللمس باليد
قائمًا مقام النظر والرؤية. قال النووي: ولأصحابنا في تفسيره ثلاثة أوجه: أحدها:
تأويل الشافعي رحمه الله وهو أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه المستام فيقول
صاحبه: بعتكه ؛ هو بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك ولا خيار لك إذا رأيته.
والثاني أن يجعلا نفس اللمس بيعًا، فيقول إذا لمسته فهو مبيع لك.
والثالث: أن يبيعه شيئًا على أنه متى لمسه انقطع خيار المجلس وغيره. وهذا البيع
باطل على التأويلات كلها.
جـ- بيع المنابذة:
وفيه حديث أبي هريرة برقمه السابق في الصحيحين وكذا حديث أبي سعيد
بالرقم نفسه في الصحيحين. ونص فيهما: نهى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- عن الملامسة والمنابذة.
وقد مضى تفسير الملامسة، وأما المنابذة فقال النووي: وفي المنابذة
ثلاثة أوجه أيضًا: أحدها أن يجعلا نفس النبذ بيعًا وهو تأويل الشافعي، والثاني: أن
يقول بعتك فإذا نبذته إليك انقطع الخيار ولزم البيع، والثالث: المراد نبذ الحصاة،
كما مر في تفسير بيع الحصاة.
د- بَيْعُ حَبَلِ الحَبَلَةِ:
وفيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع حَبَلِ الحبَلَةِ، وكان
بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية ؛ كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تُنْتَجَ الناقة ثم
تُنْتَجُ التي في بطنها.
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح، والحَبَل أي الحَمْلُ،
والحبلة جمع حابِل مثل ظالم وظلمة وفاجر، وفَجَرَة، وكاتب وكتَبَة، واختلف العلماء
في المراد بالنهي عن بيع حبَل الحبَلَة، فقال جماعة: هو البيع بثمن مؤجل إلى أن
تلد الناقة ويلد ولدها. قال النووي: وقد ذكر مسلم - وكذا البخاري - في هذا الحديث
هذا التفسير عن ابن عمر، وبه قال مالك والشافعي ومن تابعهما، وقال آخرون: هو بيع
ولد الناقة الحامل في الحال، أي بيع الجنين في بطن أمه، وهذا تفسير أبي عبيدة معمر
بن المثنى وصاحبه أبي عبيدة القاسم بن سلام وآخرين من أهل اللغة، وبه قال أحمد
وإسحاق بن راهويه، وهو أقرب إلى اللغة (أي بيع الجنين في بطن أمه)، لكن الراوي وهو
ابن عمر قد فسره بالتفسير الأول، وهو أعرف. ومذهب الشافعي ومحققي الأصوليين أن
تفسير الراوي متقدم إذا لم يخالف الظاهر. وهذا البيع باطل على التفسيرين، أما
الأول فلأنه بيع بثمن إلى أجل مجهول، والأجل يأخذ قسطًا من الثمن، وأما الثاني
فلأنه بيع معدوم ومجهول وغير مملوك للبائع وغير مقدور على تسليمه، والله أعلم.
هـ- بيع المجهولات والمعدومات وغير المقدور على
تسليمها:
وذلك كبيع السمك في الماء، إذا كان الماء كثيرًا غير شفاف لا يرى
مقدار السمك الذي فيه، أو أن يكون المشتري غير قادر على اصطياد هذا السمك والحصول
عليه.
وكذلك بيع الطير في الهواء، وبيع العبد الآبق أو الحيوان الشارد الذي
لا يقدر على تسليمه، وكذلك بيع جزء من كومة طعام دون تعيين أو كيل أو وزن، ومنه
بيع ثوب من ثياب دون تحديد ما يريد شراءه أو بيعه، وبيع حيوان من قطيع دون تعيين
ما يباع، فكل هذا مما فيه جهالة وغرر لا يجوز بيعه، والله أعلم.
4- البيع على بيع أخيه:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: (لا يبيع بعضكم على بيع أخيه). أخرجه البخاري في
الصحيح بأرقام (2139، 2165، 5142)، وأخرجه مسلم برقمي (1412، 1514)، وعن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن
يبيع حاضر لبادٍ، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة
أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها).
وهذا الحديث أخرجه البخاري بأرقام (2140، 2148، 2150، 2151، 2160،
2162، 2723، 2727، 5144، 2152، 6601). كما أخرجه مسلم بأرقام (1413، 1515، 1520).
شرح الحديث
بوب الإمام البخاري لهذين الحديثين: باب لا يبيع على بيع أخيه ولا
يسوم على سوم أخيه حتى يأذن أو يترك.
وقال الحافظ في الفتح: أشار بالتقييد (حتى يأذن أو يترك) إلى ما ورد
في بعض طرقه، وهو ما أخرجه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث
بلفظ: (لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له).
وقوله: (إلا أن يأذن له): يحتمل أن يكون استثناءً من الحكمين كما هو قاعدة
الشافعي، ويحتمل أن يختص بالأخير. ويؤيد الثاني رواية المصنف في النكاح من طريق
ابن جريج عن نافع بلفظ: (نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب الرجل على خطبة
أخيه، حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب)، ومن ثم نشأ خلاف بين الشافعية: هل
يختص ذلك بالنكاح أو يلتحق به البيع في ذلك ؟ والصحيح عدم الفرق. وقد أخرجه
النسائي من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ: (لا يبيع الرجل على بيع أخيه حتى
يبتاع أو يذر).
قال الحافظ: وترجم البخاري أيضًا بالسوم، ولم يقع له ذكر في حديثي
الباب، وكأنه أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه أيضًا، وهو ما أخرجه في الشروط من
حديث أبي هريرة بلفظ: (وأن يستام الرجل على سوم أخيه). وأخرجه مسلم في حديث نافع
عن ابن عمر أيضًا.
وذكر (المسلم) لأنه أقرب إلى امتثال الأمر من غيره، وفي ذكره إيذان
بأنه لا يليق به أن يستأثر على مسلم مثله.
وقوله: (ألا يبيع) قال الحافظ: كذا للأكثر بإثبات الياء على أن (لا)
نافية، ويحتمل أن تكون ناهية وأشبعت الكسرة فتولدت الياء كقراءة من قرأ: (إنه من
يتقي ويصبر) ويؤيده رواية الكشميهني بلفظ: (لا يبع) بصيغة النهي.
وقوله: (بعضكم على بيع أخيه). كذا أخرجه عن إسماعيل عن مالك. وظاهر
التقييد بالأخ أن يختص ذلك بالمسلم، وبه قال الأوزاعي وأبو عبيد بن حربويه من
الشافعية، وأصرح من ذلك رواية مسلم من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: (لا
يسوم المسلم على سوم المسلم). وقال الجمهور: لا فرق في ذلك بين المسلم والذمي.
وذكر الأخ خرج للغالب، فلا مفهوم له.
قال الحافظ: قال العلماء: البيع على البيع حرام، وكذلك الشراء على
الشراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة (في زمن الخيار)، أن يقول له: افسخ البيع
لأبيعك بأنقص من ذلك. أو يقول لمن باع سلعة: افسخ لأشتري منك بأزيد. وهذا مجمع على
تحريمه. أقول: وكثيرًا ما يحدث مثل ذلك في زماننا بل يحدث ذلك بعد إتمام البيع
فيؤدي ذلك إلى إفساد العلاقات بين المسلمين، فتجد التاجر أو غيره يرى في يد الرجل
سلعة قد اشتراها فيسأله: بكم اشتريت هذه السلعة ؟ فإذا أخبره بثمنها قال له: عندي
أرخص من ذلك، لو رددتها إلى البائع لبعتك إياها بأنقص من ذلك، وذلك بعدما تم البيع
وانصرف المشتري من محل البائع وقد تمت الصفقة، وكثيرًا ما يثير هذا من المشاجرات والخلافات
ما يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
قال: وأما السوم فصورته أن يأخذ شيئًا ليشتريه فيقول له: رده لأبيعك
خيرًا منه بثمنه أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك: استَرِدَّهُ لأشتريه منك بأكثر،
ومحله بعد استقرار الثمن وركون أحدهما للآخر فإن كان ذلك صريحًا فلا خلاف في التحريم،
وإن كان ظاهرًا - أي مظنونًا - ففيه وجهان للشافعية. ونقل ابن حزم الركون عن مالك،
وقال: إن لفظ الحديث لا يدل عليه، وتُعقب بأنه لا بد من أمر مبين لموضع التحريم في
السوم، لأن السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد (أي في المزاد) لا يحرم اتفاقًا
كما نقله ابن عبد البر. فتعين أن السوم المحرم هو ما وقع فيه قدر زائد على ذلك.
هذا وقد استثنى بعض الشافعية من تحريم السوم والبيع على الآخر ما إذا
لم يكن المشتري مغبونًا غبنًا فاحشًا، وبه قال ابن حزم، واحتج بحديث: (الدين
النصيحة)، لكن لم تنحصر النصيحة في البيع والسوم، فله أن يعرفه أن قيمتها كذا،
وأنك إن بعتها مغبون من غير أن يزيد فيها، فيجمع بذلك بين المصلحتين. وذهب الجمهور
إلى صحة البيع المذكور مع تأثيم فاعله، وعند المالكية والحنابلة في فساده روايتان،
وبه جزم أهل الظاهر، والله أعلم.
وبعد: فإن كثيرًا من الناس - إلا من رحم الله - لا يبالون في تجارتهم
وبيعهم وشرائهم بحلال أو حرام، فلا يسأل عما نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عما أباحه، غير عابئ بما أحل
الله وما حرم، والواجب على من يعمل في تجارةٍ أن يعرف حكم الله سبحانه وتعالى وحكم
رسوله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يتعامل في
تجارته، ولقد روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يمنع من لا
يعرف أحكام المعاملات من دخول سوق المدينة.
ولقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته
ألا يبالي المرء من حيث كسب المال، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يأتي على الناس
زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام). وأخرجه الإمام أحمد في
المسند وكذا النسائي.
قال الحافظ: قال ابن التين: أخبر النبي -صلى
الله عليه وسلم- بهذا تحذيرًا من فتنة المال، وهو من دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم- لإخباره بالأمور التي لم تكن في
زمنه.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا وجميع المسلمين الحلال الطيب ويبارك لنا فيه،
وأن يجنبنا الحرام ويباعد بيننا وبينه كما باعد بين المشرق والمغرب.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
والحمد لله رب العالمين.