رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة - الحلقة الأخيرة من الحديث عن الشفاعة -

2012-09-02

زكريا حسينى

رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.. وبعد:

فهذا هو المقال الأخير في ما يتعلق بحديث أنس رضي الله عنه في الشفاعة، وهو من الأمور العقدية التي وردت في هذا الحديث، وذلك في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : «فإذا رَأيْتُ ربي وَقَعتُ له سَاجِدًا».

قال الإمام البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه «باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.»، وساق تحت هذا الباب أحد عشر حديثًا عن جرير بن عبد الله، وأبي هريرة حديثين، وأبي سعيد، وعن أنس حديثين، وابن عباس، وعدي بن حاتم، وأبي موسى الأشعري، وابن مسعود، وأبي بكرة.

وقال الآجري في كتاب «الشريعة»: «كتاب التصديق بالنظر إلى وجه الله عز وجل».

أما بعد: فإن الله جل ذكره وتقدست أسماؤه خلق خلقه كما أراد لما أراد، فجعلهم شقيًا وسعيدًا.

فأما أهل الشقوة فكفروا بالله العظيم، وعبدوا غيره، وعصوا رسله، وجحدوا كتبه، فأماتهم على ذلك، فهم في قبورهم يُعَذَّبون، وفي القيامة عن النظر إلى الله تعالى محجوبون، وإلى جهنم واردون، وفي أنواع العذاب يتقلبون، وللشياطين مقاربون، وهم فيها أبدًا خالدون.

وأما أهل السعادة، فهم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، فآمنوا بالله وحده، ولم يشركوا به شيئًا، وصدَّقوا القولَ بالفعل، فأماتهم على ذلك، فهم في قبورهم ينعَّمون، وعند المحشر يبشَّرُون، وفي الموقف إلى الله تعالى بأعينهم ينظرون، وإلى الجنة بعد ذلك وافدون، وفي نعيمها يتفكهون، وللحور العين معانقون، والولدان لهم يخدمون، وفي جوار مولاهم الكريم أبدًا خالدون، ولربهم تعالى في داره زائرون، وبالنظر إلى وجهه الكريم يتلذذون، وله مكلمون، وبالتحية لهم من الله تعالى والسلام منه عليهم يكرمون، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.

فإن اعترض جاهل ممن لا علم معه، أو بعض هؤلاء الجهمية الذين لم يُوفَّقُوا للرشاد، ولعب بهم الشيطان، فقال: المؤمنون يرون ربهم يوم القيامة؟ قيل له: نعم، والحمد لله على ذلك. فإن قال الجهمي: أنا لا أؤمن بذلك. قيل له: كفرت بالله العظيم. فإن قال: وما الحجة؟ قيل: لأنك رددت القرآن والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم، وقول علماء المسلمين، واتبعت غير سبيل المؤمنين، وكنت ممن قال الله تعالى فيهم: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

فأما نص القرآن فقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، وقد أخبرنا الله تعالى عن الكفار أنهم محجوبون عن رؤيته، فقال تعالى ذكره: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ. ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 15 - 17]، فدل بهذه الآية أن المؤمنين ينظرون إلى الله، وأنهم غير محجوبين عن رؤيته، كرامةً منه لهم.

وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، فروي أن «الزيادة» هي النظر إلى وجه الله تعالى، وقال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا}.

واعلم -رحمك الله- أن اللقي هاهنا -عند أهل العلم باللغة- لا يكون إلا معاينة، يراهم الله تعالى ويرونه، ويسلم عليهم ويكلمهم ويكلمونه.

قال: وقد قال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.

وكان مما بيَّنه -صلى الله عليه وسلم- لأمته في هذه الآيات: أنه أعلمهم في غير حديث: «إنكم ترون ربكم تعالى» رواها عنه جماعة من أصحابه رضي الله عنهم، وقَبِلَها العلماء أحسن القبول، كما قبلوا عنهم علم الطهارة والصلاة، والزكاة والصيام، والحج والجهاد، وعلم الحلال والحرام، كذا قبلوا منهم الأخبار: أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، لا يشكون في ذلك، ثم قالوا: من رد هذه الأخبار فقد كفر.

ثم ساق مجموعة من الآثار بأسانيدها قبل أن يسوق الأحاديث المسندة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، فمن هذه الآثار:

1- عن الحسن قال: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم تعالى لذابت نفوسهم في الدنيا.

2- عن الحسن أيضًا قال: إن الله تعالى ليتجلى إلى أهل الجنة، فإذا رآه أهل الجنة نسوا نعيم الجنة.

3- عن كعب الأحبار قال: ما نظر الله تعالى إلى الجنة قط إلا قال: طيبي لأهلك، فزادت ضعفًا على ما كانت حتى يأتيها أهلها، وما من يوم كان لهم عيدًا في الدنيا إلا يخرجون في مقداره في رياض الجنة، فيبرز لهم الرب تعالى فينظرون إليه، وتسفي عليهم الريحُ المسكَ والطيبَ، ولا يسألون ربهم تعالى شيئًا إلا أعطاهم، حتى يرجعوا وقد ازدادوا على ما كانوا من الحسن والجمال سبعين ضعفًا.

4- عن مالك رحمه الله: الناس ينظرون إلى الله تعالى يوم القيامة بأعينهم.

5- عن سفيان بن عيينة وقد قيل له: هذه الأحاديث التي تروى في الرؤية؟ فقال: حق على ما سمعناها ممن نثق به.

6- عن أحمد بن حنبل -وبلغه عن رجل أنه قال: إن الله تعالى لا يُرَى في الآخرة- فغضب غضبًا شديدًا، ثم قال: من قال بأن الله تعالى لا يُرى في الآخرة فقد كفر؛ عليه لعنة الله وغضبه، أليس الله عز وجل يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، هذا دليل على أن المؤمنين يرون الله تعالى.

7- عن عبد الله بن المبارك يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.

8- عن أبي عبيدٍ القاسم بن سلام -وذكرت عنده هذه الأحاديث في الرؤية- فقال: هذه عندنا حق نقلها الناس بعضهم عن بعض.

ثم قال الآجري – رحمه الله –: فمن رغب عما كان عليه هؤلاء الأئمة الذين لا يُستوحش من ذكرهم، وخالف الكتاب والسنة، ورضي بقول جهم وبشر المريسي وأشباههما فهو كافر.

ثم ساق الآجري تفسير بعض الآيات التي ذكرها مما ورد عن السلف في تفسيرها؛ فقال:

1- عن محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. قال: نَضَّرَ الله تلك الوجوه وحَسَّنَها للنظر إليه.

2- عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} يعني حَسَّنها، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. قال: نظرت إلى الله تعالى.

3- عن الحسن في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}. قال: النضرة: الحُسْن: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. قال: نظرت إلى ربها عز وجل فَنَضِرَتْ لنوره.

4- عن عكرمة في قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}، قال: من النعيم: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: تنظر إلى ربها عز وجل نظرًا.

5- عن عكرمة قال: قيل لابن عباس رضي الله عنهما: كل من دخل الجنة يرى الله تعالى؟ قال: نعم.

6- عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. قال: النظر إلى وجه تعالى.

7- عن حذيفة رضي الله عنه في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: النظر إلى وجه الله تعالى.

ثم ساق الآجري الأحاديث في ذلك من رواية كل صحابي على حدته منها:

1- حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: «إنكم ستعرضون على ربكم عز وجل فترونه كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا». [رواه البخاري ومسلم وأحمد، ورواه الآجري بثلاث طرق أخرى].

2- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الناس: يا رسول الله، هل نرى ربنا عز وجل يوم القيامة ؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «نعم، هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «فإنكم ترون ربكم عز وجل يوم القيامة كذلك». [أخرجه البخاري ومسلم وأحمد]، وساق له عدة طرق.

3- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله، أنرى ربنا عز وجل؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «هل تضارون في رؤية الشمس إذا كان يوم صحو؟» قلنا: لا، قال: «هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر -أو قال-: صحو؟» قلنا: لا، قال: «فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم عز وجل يومئذ، إلا كما تضارون في رؤيتهما». متفق عليه. وساقه من طريق أخرى عند الترمذي وابن ماجه وصححها الألباني.

4- حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة نودوا: أن يا أهل الجنة، إن لكم عند الله عز وجل موعدًا لم تروه، قالوا: وما هو؟ ألم تبيضْ وجوهنا؟ وتزحزحنا عن النار؟ وتدخلنا الجنة؟ قال: فيكشف الحجاب وينظرون إليه تبارك وتعالى، فوالله ما أعطاهم الله عز وجل شيئًا أحب إليهم منه، ثم تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي].

5- حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقد قيل له: كيف سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: «يدنو المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل، حتى يضع كنفه عليه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: ربِّ أعْرِف، فيقول: فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها اليوم لك...» الحديث. [متفق عليه].

6- حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه تعالى، ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حاجب يحجبه...». الحديث [متفق عليه]. وساق له عدة طرق.

وقال الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – في كتابه «حادي الأرواح» في باب «رؤيتهم ربهم تبارك وتعالى» قال: هذا الباب أشرف أبواب الكتاب، وأجلها قدرًا وأعلاها خطرًا، وأقرها لعيون أهل السنة والجماعة، وأشدها على أهل البدعة والفرقة، وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا ناله أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم، وحرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم، اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وجميع الصحابة، والتابعون، وأئمة الإسلام على تتابع القرون، وأنكرها أهل البدع المارقون، والجهمية المتهوكون، والفرعونية المعطلون، والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون، ومن حبل الله منقطعون، وعلى مسبة أصحاب رسول الله عاكفون، وللسنة وأهلها محاربون، ولكل عدو لله ورسوله ودينه مسالمون، وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون. أولئك أحزاب الضلال وشيعة اللعين، وأعداء الرسول وحزبه المؤمنين.

وقد أخبر الله سبحانه عن أعلم الخلق في زمانه، وهو كليمه ونجيه وصفيه من أهل الأرض أنه سأل ربه تعالى النظر إليه، فقال له تبارك وتعالى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]، قال: وبيان الدلالة من هذه الآية من وجوه عديدة:

أحدها: أنه لا يُظن بكليم الرحمن ورسوله الكريم أن يسأل ربه ما لا يجوز عليه، بل هو من أبطل الباطل، وأعظم المحال.

الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى لم ينكر عليه سؤاله، ولو كان محالاً لأنكره عليه، كما أنكر على نوح عليه السلام سؤاله عند ما سأل ربه نجاة ابنه، فقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.

الوجه الثالث: أنه أجابه بقوله: {لَنْ تَرَانِي}. ولم يقل: إني لا أُرى، ولا إني لست بِمَرْئيٍّ، أو لا تجوز رؤيتي، والفرق بين الجوابين ظاهر لمن تأمله. وهذا يدل على أنه سبحانه يُرى، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوة البشر فيها عن رؤيته تعالى.

الوجه الرابع: في قوله تعالى لموسى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}، فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت لتجليه سبحانه له في هذه الدار، فكيف بالبشر الضعيف الذي خُلق من ضعف؟

الوجه الخامس: أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقرًّا مكانه، وليس هذا بممتنع في مقدوره، بل هو ممكن وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً في ذاتها لم يعلقها بالممكن في ذاته.

الوجه السادس: قوله سبحانه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا}، وهذا من أبين الأدلة على جواز رؤيته تبارك وتعالى، فإنه إذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع عليه أن يتجلى لأنبيائه ورسله وأوليائه في دار كرامته ويريهم نفسه سبحانه وتعالى ؟!

الوجه السابع: أن الله تعالى كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم، وأن يُسْمِعَ مخاطَبَهُ كلامه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار الرؤية إلا بإنكار التكليم، وقد جمعت هذه الطوائف بين إنكار الأمرين؛ فأنكروا أن يكلم أحدًا أو يراه أحد، ولهذا فإن موسى سأل ربه النظر إليه لما أسمعه كلامه، وعلم من الله جواز رؤيته من وقوع خطابه وتكليمه، فلم يخبره باستحالة ذلك عليه، ولكن أراه أن ما سأله لا يقدر على احتماله في الدنيا.

قال ابن القيم: الدليل الثاني قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ}، وقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ}، وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110]، وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو اللَّهِ}، قال: وأجمع أهل اللسان على أن اللقاء متى نُسب إلى الحي السليم من العمى والمانع اقتضى المعاينة والرؤية.

ثم قال: الدليل الثالث: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 25، 26].

فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم، كذلك فسرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أنزل عليه القرآن، وكذا الصحابة من بعده، كما في حديث صهيب رضي الله عنه عند مسلم. [مسلم 181].

ثم قال: الدليل الرابع: قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]. قال: ووجه الاستدلال بهذه الآية أنه سبحانه وتعالى جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رؤيته واستماع كلامه، فلو لم يره المؤمنون ولو لم يسمعوا كلامه كانوا محجوبين عنه أيضًا.

وقد احتج بهذه الحجة الشافعي نفسه، وغيره من الأئمة، فذكر الطبري وغيره عن المزني قال: سمعت الشافعي يقول في هذه الآية: فيها دلالة على أن أولياء الله يرون ربهم يوم القيامة.

وروى الحاكم عن الربيع بن سليمان قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عز وجل: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ؟ فقال الشافعي: لما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا. قال الربيع: فقلت: يا أبا عبد الله، وبه تقول؟ قال: نعم، وبه أدين، ولو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى الله لما عبد الله عز وجل.

ثم قال ابن القيم: الدليل السادس: قوله عز وجل: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، قال: والاستدلال بهذا أعجب ؛ فإنه من أدلة النفاة، وقد قرر شيخنا وجه الاستدلال به أحسن تقرير وألطفه، وقال لي: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطل إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله: فمنها هذه الآية، وهي على جواز الرؤية أولى منها على امتناعها، فإن الله سبحانه إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يُمدَح به، وإنما يمدح الرب تبارك وتعالى بالعدم إذا تضمن أمرًا وجوديًّا كمدحه بنفي السِّنة والنوم المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة.

وعدَّ منفيات تتضمن كمال ضدها، إلى أن قال: ولهذا لم يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمرًا ثبوتيًّا، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يُوصف الكامل بأمرٍ يشترك فيه هو والمعدوم فيه، فلو كان المراد بقوله: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} أنه لا يُرَى بحال لم يكن في ذلك مدح ولا كمال؛ لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإن العدم الصرف لا يُرى ولا تدركه الأبصار، والرب لا يُرى ولا تدركه الأبصار، والرب جل جلاله يتعالى أن يُمدح بما يشاركه فيه العدم المحض، فإذن المعنى: أنه يُرى ولا يدرك ولا يحاط به كما كان المعنى في قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} أنه كامل القدرة، وفي قوله: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} أنه كامل العدل.

فقوله: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}، يدل على غاية عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لعظمته لا يُدْرك بحيث يُحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية، كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلاَّ}. فلم يَنْفِ موسى الرؤية، ولم يريدوا بقولهم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} إنا لمرئيون.

فالرب تبارك وتعالى يُرَى ولا يُدْرَك، كما يُعْلَمُ ولا يُحاط به، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية. [انتهى بتصرف من حادي الأرواح لابن القيم من ص341، ط دار ابن رجب، سنة 1421هـ -2000م].

وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية: المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من الخوارج والإمامية، وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة. وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنتسبون إلى السنة والجماعة.

وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلّها، وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمرون، وتنافس المتنافسون، وحُرمها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مردودون.

وقد ذكر الشيخ – الطحاوي – رحمه الله، من الأدلة قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. وهي من أظهر الأدلة، وأما من أبى إلا تحريفها بما يسميه تأويلاً؛ فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب، أسهل من تأويلها على أرباب التأويل، ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك السبيل ما وجده متأول هذه النصوص.

وهذا الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية ؟! فهل قُتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد ؟! وكذا ما جرى في يوم الجمل وصفين، ومقتل الحسين، والحَرَّة ؟! وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلا بالتأويل الفاسد ؟!

وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية وتعديته بـ «إلى» الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلاف حقيقته موضوعة صريحة في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله.

فإن النظر له عدة استعمالات؛ بحسب صِلاته وتعديه بنفسه؛ فإن عُدِّي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]، وإن عُدي بـ «في» فمعناه التفكر والاعتبار: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 184]، وإن عُدي بـ «إلى» فمعناه المعاينة بالأبصار: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99]. فكيف إذا أُضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر ؟ اهـ.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم: اعلم أن مذهب أهل السنة بأجمعهم أن رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلاً، وأجمعوا أيضًا على وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرون الله تعالى دون الكافرين، وزعمت طائفة من أهل البدع -الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة- أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلاً، وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فمن بعدهم من سلف الأمة، على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، ورواها نحو من عشرين صحابيًّا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وآيات القرآن فيها مشهورة، واعتراضات المبتدعة عليها لها أجوبة مشهورة.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

عدد المشاهدات 11089