التوحيد حق الله تعالى على العبيد - الحلقة الثانية

2012-08-29

زكريا حسينى

التوحيد حق الله تعالى على العبيد - الحلقة الثانية   

الحمد لله المتفرد بالجلال والعظمة، مسدي الفضل والنعمة، الحي القيوم، الذي بأمره السماوات والأرض تقوم، والصلاة والسلام على خير الورى، سيد ولد آدم نبي الهدى والرحمة، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:

فقد بدأنا الحلقة الماضية الحديث عن توحيد الله تبارك وتعالى، وذلك بشرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما في بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن، وقوله صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ، إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم...» الحديث. [متفق عليه]

وبيَّنَّا مَن خرَّجه من أصحاب الكُتب التسعة، ثم تكلمنا عن أن توحيد الله تعالى هو أول الأمر وآخره، وبعد ذلك كان الكلام على أن التوحيد حق الله على العبيد، وسقنا الحديث الثاني في الباب الذي عقده الإمام البخاري في أول كتاب التوحيد بعنوان: «باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى»، وهو حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلوات الله وسلامه عليه: «يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا...» الحديث. [متفق عليه].

ثم كان الكلام بعد ذلك عن السبيل إلى معرفة التوحيد، وأنه الوحي من كتاب وسنة، وليس عن طريق كلام المتكلمين وفلسفة المتفلسفين.

وفي هذا العدد نكمل الحديث عن التوحيد، فنقول بتوفيق الله من الله جل وعلا:

أنواع التوحيد

توحيد الله تعالى يتضمن ثلاثة أنواع:

الأول: توحيد الربوبية:

وهو توحيد الله تعالى في أفعاله، وبيان أن الله تعالى خالق كل شيء وحده لا شريك له، وأنه ليس للعالِم صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، وهذا التوحيد حق لا ريب فيه، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام، وطائفة من الصوفية، قال شارح الطحاوية – رحمه الله -: وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم: 10].

وأشهر من عُرف تجاهله وادعاؤه إنكار الصانعِ فرعونُ، وقد كان مستيقنًا به في الباطن، قال له موسى عليه السلام: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، وقال الله تعالى عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].

ولما تجاهَل تجاهُلَ العارف فقال لموسى: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}؟ قال له موسى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 24- 28]، وكذا ما كان من أمر نمرود عندما حاجَّ إبراهيم في ربه، لما قال له إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258].

ولا شك أن هذا النوع من التوحيد مهم، وقد جاءت آيات القرآن الكريم المبرهنة عليه في غاية الوضوح؛ قال الله تعالى في سورة البقرة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [آية: 164].

أورد ابن كثير في تفسيره عن أبي الضحى قال: لما نزلت: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، قال المشركون: إن كان هكذا فليأتنا بآية، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}.

والله عز وجل بيَّن أن العوالم العلوية والسفلية لا بد لها من مُوجِد، وهذا مستقر في الفِطَر السليمة والعقول المستقيمة، فإن هذه العوالم لم تخلق نفسها، ولم تُخْلَق من غير خالق، قال رب العزة تبارك وتعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَ يُوقِنُونَ} [الطور: 35 - 36].

وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَ يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ}، كاد قلبي يطير». [متفق عليه، واللفظ للبخاري].

قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: هذا المقام في إثبات الربوبية والألوهية، فقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أي: أوُجدوا من غير موجِد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي أوجدهم، وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئًا مذكورًا. ثم قال تبارك وتعالى: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَ يُوقِنُونَ} أي: أهم خلقوا السماوات والأرض؟!! وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله، وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له، ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك.

وقد سجل القرآن الكريم مناظرات بين الرسل وأقوامهم في ذلك التوحيد؛ فمنها أن أعداء الله لما قالوا لرسله على سبيل المكابرة لما جاءوهم بالبينات {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}. قال صاحب معارج القبول: وهذا يحتمل شيئين:

أحدهما: أفي وجود الله تعالى شك؟! فإن الفِطَر شاهدة بوجوده، ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفِطَر السليمة، ولكن قد يعرض لغيرها شك واضطراب، وأكثر ذلك على سبيل المكابرة والاستهزاء، فيجب إقامة الحجة عليهم للإعذار إليهم، ولهذا قالت لهم رسلهم ترشدهم إلى طريق معرفته، فقالوا: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سابق.

والمعنى الثاني في قولهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} أي: أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك؛ وهو الخالق لجميع الموجودات، ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالخالق، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم، والجواب لهذا الاستفهام على كلا المعنيين: لا، أي: لا شك فيه.

ومن المناظرات التي سجَّلها القرآن أيضًا ما جاء في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[البقرة: 258].

قال ابن كثير في تفسيره: هذا الذي حاج إبراهيم في ربه هو ملك بابل؛ نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، وقال مجاهد: مَلَكَ الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران؛ فالمؤمنان سليمان بن داود، وذو القرنين، والكافران: نمروذ وبختنصر، والله أعلم.

وهو قد حاج إبراهيم في ربه أي في وجود ربه، وذلك أنه أنكر أن يكون ثَمَّ إله غيره، وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبُّره، وطول مدته في الملك، وذلك أنه يقال: إنه مكث في الملك أربعمائة سنة؛ ولهذا قال: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}، وكأنه طلب من إبراهيم دليلاً على وجود الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، أي: إنما الدليل على حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها، وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة؛ لأنها لم تحدث بنفسها، فلا بد من موجد أوجدها، وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له، وعند ذلك قال المحاجّ – وهو النمروذ -: «أنا أحيي وأميت». قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد: وذلك أني أوتى بالرجلين قد استحقا القتل، فآمر بقتل أحدهما فيُقتل، وآمر بالعفو عن الآخر فلا يُقْتَلُ، فذلك معنى الإحياء والإماتة. قال ابن كثير: والظاهر – والله أعلم – أنه ما أراد هذا؛ لأنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم، ولا في معناه؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام؛ عنادًا ومكابرة، ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} أي: إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت، فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الكون في خلق ذراته وتسخير كواكبه وحركاته.. وهو يأتي بالشمس من المشرق، فإن كنت إلهًا كما تدعي، فأت بها من المغرب، فلما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بُهت، أي أُخرس فلا يتكلم، وقامت عليه الحجة. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي: لا يلهمهم حجة ولا برهانًا، بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد.

ومن المناظرات التي سجَّلها القرآن أيضًا ما جاء في قول الله تبارك وتعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 23- 28].

يذكر تعالى ما كان بين موسى وفرعون من المقاولة والمحاجّة والمناظرة، وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية، وذلك أن فرعون – قبَّحه الله- أظهر جحد الخالق تبارك وتعالى، وزعم أنه الإله، {فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، وهو في هذه المقالة معاند يعلم أنه عبد مربوب، وأن الله هو الخالق البارئ المصور الإله الحق، كما قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].

قال صاحب معارج القبول: ومناظرة الرسل لأعداء الله في هذا الباب يطول ذكرها، ومقامات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع هذه الأمة أشهر من أن تُذكر، فمن شاء فليقرأ المصحف من فاتحته إلى خاتمته، إلا أن أمته لم يكن فيهم من يجحد الخالق، بل هم مقرون به وبربوبيته، غير أنهم لم يقدروه حق قدره، بل عبدوا معه غيره، ولهذا قال الله تعالى في شأنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]. إلى غير ذلك من الآيات.

ومع ذلك، فلا بد من معرفة الآيات التي فيها مناقشة الملحدين من الزنادقة والكافرين لإقامة الحجة عليهم.

النوع الثاني من أنواع التوحيد: توحيد الأسماء والصفات:

وهي التي أثبتها الله تعالى لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وآمن بها جميع المؤمنين، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]، وقال تبارك وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8]، وقال سبحانه وتعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22 - 24].

فهذا على الإجمال؛ أن المؤمنين يؤمنون أن الله تعالى موصوف بكل صفةٍ وَصَفَ بها نفسه سبحانه؛ فهو حي قيوم، سميع بصير، عليم حكيم، حليم، رحيم ودود، رحمن، عليٌّ مجيد، حميد شهيد، متكلم محيط بكل شيء علمًا، مستوٍ على عرشه.. إلخ الصفات التي وصف بها رب العزة تبارك وتعالى نفسه، أو وصفه بها رسوله صلوات الله وسلامه عليه.

فأما علوه على خلقه واستواؤه على عرشه؛ فإن فِرَق الإسلام تجادل فيه بين نافٍ ومعطلٍ ومؤول محرِّف للكلم عن مواضعه.

قال صاحب معارج القبول:

الأحد الفرد القدير الأزلي

الصمد البر المهيمن العلي

علو قهرٍ وعلو الشان

جلَّ عن الأضداد والأعوان

كذا له العلو والفوقية

على عباده بلا كيفية

ثم تكلم عن اسم الله «العلي» فقال: فكل معاني العلو ثابتة له: «علو القهر» ؛ فلا مغالب له ولا منازع، بل كل شيء تحت سلطان قهره، قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65]، وقال سبحانه: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4]، وقال جل وعلا: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18].

وكذا له سبحانه وتعالى: «علو الشأن» ؛ فقد تعالى عن جميع النقائص والعيوب المنافية لإلهيته وربوبيته وأسمائه الحسنى وصفاته العلى.

تعالى في أحديته عن الشريك والظهير والولي والنصير، وتعالى في عظمته وكبريائه وجبروته عن الشفيع عنده بدون إذنه والمجير، وتعالى في صمديته عن الصاحبة والولد والوالد والكفء والنظير. وتعالى في كمال حياته وقيوميته وقدرته عن الموت والسِّنَة والنوم والتعب والإعياء، وتعالى في كمال علمه عن الغفلة والنسيان، وعن عزوب مثقال ذرة عن علمه في الأرض أو في السماء، وتعالى في كمال حكمته وحمده عن الخلق عبثًا، وعن ترك الخلق سدًى بلا أمر ولا نهي، ولا بعث ولا جزاء.

وتعالى في كمال عدله أن يظلم أحدًا مثقال ذرة أو أن يهضمه شيئًا من حسناته، وتعالى في كمال غناه عن أن يُطْعَمَ أو يُرزَق، أو أن يفتقر إلى غيره في شيء، وتعالى في صفات كماله ونعوت جلاله عن التعطيل والتمثيل، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران: 62]، وقال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد: 19]، وقال جل ذكره: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4]، وقال جل ثناؤه: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا} [الجن: 3]، وقال تباركت أسماؤه: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]. والآيات في هذا المعنى كثيرة.

المعنى الثالث: «علو الفوقية»:

وهذا المعنى ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الملائكة والأنبياء والمرسلين وأتباعهم على الحقيقة من أهل السنة والجماعة، فهو سبحانه فوق عباده مستوٍ على عرشه بائنٌ من خلقه، يعلم أعمالهم ويسمع أقوالهم، ويرى حركاتهم وسكناتهم، لا تخفى عليه خافية، والأدلة في ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تُحصى، وأجلّ من أن تُستقصى، والفِطَر السليمة والقلوب المستقيمة مجبولة على الإقرار بذلك لا تنكره؛ فمن ذلك:

1- أسماؤه الحسنى الدالة على جميع معاني العلو تبارك وتعالى؛ كاسمه الأعلى، واسمه العلي، واسمه المتعالي، واسمه الظاهر، واسمه القاهر وغيرها؛ قال الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، وقال سبحانه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}، وقال تبارك وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}، وقال جل وعلا: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}، وقال جل شأنه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}.

2- التصريح باستوائه على عرشه سبحانه وتعالى، كما قال جل جلاله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة الرعد، وسورة الفرقان، وسورة السجدة، وسورة الحديد، فهذه ستة مواضع، والموضع السابع في سورة طه قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}. والأحاديث في ذلك والآثار كثيرة.

3- التصريح بالفوقية لله تعالى؛ قال عز من قائل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}، وقال جل جلاله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: كانت زينب رضي الله عنها تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات.[ البخاري 7420]

4- التصريح بأنه سبحانه في السماء، قال الله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في حديث ذي الخويصرة قال صلى الله عليه وسلم: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء». [متفق عليه]، وعن معاوية بن الحكم السلمي في حديث الجارية، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟» قالت: في السماء، قال: «أعتقها فإنها مؤمنة».[مسلم 1227].

5- ومن ذلك الرفع والصعود والعروج إليه، وهو أنواع: منها رفعه عيسى عليه السلام، قال الله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}، وقال تبارك وتعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}. ومنها صعود الأعمال إليه سبحانه، كما قال جل وعلا: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إليه إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه...». إلخ الحديث [البخاري 7430].

ومنها عروج الملائكة والروح إليه، قال تبارك وتعالى: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون». [متفق عليه].

ومن ذلك معراج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى، وإلى حيث شاء الله تعالى، كما ثبتت به الأحاديث الصحيحة المشهورة في الصحيحين وغيرهما.

6- تنزل الملائكة ونزول الأمر من عنده، وتنزيل الكتاب منه تبارك وتعالى، قال الله تبارك وتعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ}، وقال سبحانه: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}، وقال جل وعلا: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ}. إلى غير ذلك من الآيات، والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا.

7- رفع الأيدي إليه والأبصار في الدعاء، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، ويوم بدر، وفي استغفاره لرفيق أبي موسى وغير ذلك من المواقف.

قال صاحب معارج القبول: وقد ورد في رفع اليدين في الدعاء أكثر من مائة حديث في وقائع متفرقة، وذلك معلوم بالفِطَر، فكل من حزَبه أمر من المؤمنين رفع يديه إلى العلو؛ يدعو الله تعالى.

8- إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العلو في خطبته في حجة الوداع بأصبعه؛ كما في حديث جابر الطويل عند مسلم، وفيه: « وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟». قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: «اللَّهُمَّ اشْهَدِ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، وذكر الحديث.[مسلم 3009].

وللحديث بقية، والله من وراء القصد.

 

عدد المشاهدات 9927