من البيوع المنهي عنها - النهي عن تلقي الركبان والنهى عن الاحتكار

2012-08-07

زكريا حسينى

من البيوع المنهي عنها - النهي عن تلقي الركبان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد ولد آدم أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

 فلا يزال الحديث موصولاً عن البيوع المنهي عنها، فنقول مستعينين بالله تعالى وبه الحول والطول:

 11- النهي عن تلقي الركبان :

 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التلقي وأن يبيع حاضر لباد.

 هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب البيوع باب النهي عن تلقي الركبان وأن بيعه مردود، برقم (2162) وأطرافه في (2140- 2148- 2150- 2151- 2160- 2723- 2727- 5144- 5152- 6601)، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب البيوع باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه وتحريم النجش وتحريم التصرية برقم (1515)، وفي باب تحريم تلقي الجَلَب برقم (1519)، وأخرجه الإمام أبو داود في سننه في باب التلقي من كتاب البيوع برقم (3437)، والإمام الترمذي في جامعه في البيوع باب ما جاء في كراهية تلقي البيوع برقم (1221)، والإمام النسائي في البيوع باب التلقي برقم (4505)، والإمام ابن ماجه في التجارات في باب النهي عن تلقي الجلب برقم (2178)، وأخرجه الإمام أحمد في المسند، في مسند أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا رواه الإمام مالك في الموطأ.

 شرح الحديث

 ترجمة الإمام البخاري لهذا الباب هي “النهي عن تلقي الركبان، وأن بيعه مردود ؛ لأن صاحبه عاصٍ آثمٌ إذا كان به عالمًا، وهو خداع في البيوع والخداع لا يجوز”.

 قال الحافظ في الفتح: جزم المصنف (يعني الإمام البخاري) بأن البيع مردود بناء على أن النهي يقتضي الفساد، لكن محل ذلك عند المحققين فيما يرجع إلى ذات المنهي عنه لا ما إذا كان يرجع إلى أمر خارج عنه فيصح البيع ويثبت الخيار بشرطه الآتي ذكره. وأما كون صاحبه عاصيًا آثمًا والاستدلال عليه بكونه خداعًا فصحيح، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون البيع مردودًا ؛ لأن النهي لا يرجع إلى نفس العقد ولا يخل بشيء من أركانه وشرائطه، وإنما هو لدفع الإضرار بالركبان، والقول ببطلان البيع صار إليه بعض المالكية وبعض الحنابلة، ويمكن أن يحمل قول البخاري إن البيع مردود على ما إذا اختار البائع رده فلا يخالف الراجح، وقد تعقبه الإسماعيلي وألزمه التناقض ببيع المصراة- وهي البهيمة التي يحبس اللبن في ضرعها ليظهر أن لبنها كثير عند بيعها- فإن فيه خداعًا ومع ذلك لم يبطل البيع، وبكونه- أي البخاري- فصل في بيع الحاضر للبادي بين أن يبيع له بأجر أو بغير أجر.

 واستدل عليه أيضًا بحديث حكيم بن حزام في بيع الخيار ففيه: “فإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما”. قال: فلم يبطل البيع بالكذب والكتمان للعيب، وقد ورد بإسناد صحيح: “أن صاحب السلعة إذا باعها لمن تلقاه يصير بالخيار إذا دخل السوق”. ثم ساقه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

 ثم قال الحافظ: “قال ابن المنذر: أجاز أبو حنيفة التلقي وكرهه الجمهور. قُلْتُ: الذي في كتب الحنفية: يكره التلقي في حالتين ؛ أن يضر بأهل البلد، وأن يلتبس السعر على الواردين، ثم اختلفوا ؛ فقال الشافعي: من تلقاه فقد أساء، وصاحب السلعة بالخيار، وحجته حديث أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تلقي الجَلَبِ، فإن تلقاه فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق. قلت: وهو حديث أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة من طريق أيوب، وأخرجه مسلم من طريق هشام عن ابن سيرين بلفظ: “لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيدُهُ السوق فهو بالخيار”. وقوله: “فهو بالخيار” أي: إذا قدم السوق وعلم السعر، وهل يثبت له الخيار مطلقًا أو بشرط أن يقع له في البيع غبن؟ وجهان، أصحهما الأول، وبه قال الحنابلة. وظاهره أيضًا أن النهي لأجل منفعة البائع وإزالة الضرر عنه وصيانته ممن يخدعه. قال ابن المنذر: وحمله مالك على نفع أهل السوق لا على نفع رب السلعة، وإلى ذلك جنح الكوفيون والأوزاعي. قال: والحديث حجة للشافعي لأنه أثبت الخيار للبائع لا لأهل السوق. وقد احتج مالك ومن معه بحديث ابن عمر وفيه: النهي عن تلقي السلع حتى يهبط بها إلى السوق.

 قال المباركفوري في شرح الترمذي: وهذا لا يكون دليلاً لمدعاهم ؛ لأنه يمكن أن يكون ذلك رعاية لمنفعة البائع، لأنها إذا هبطت إلى الأسواق عرف مقدار السعر فلا يخدع، قال: ولا مانع من أن يقال: العلة في النهي مراعاة نفع البائع ونفع أهل السوق.

 وقد ساق الإمام البخاري في هذا الباب أربعة أحاديث وهي: حديث أبي هريرة هذا، وثانيها حديث ابن عباس رضي الله عنهما، واقتصر فيه الإمام البخاري على قول طاوس: سألت ابن عباس عن معنى قوله: “لا يَبِيعَنَّ حاضرٌ لبادٍ؟ فقال: لا يكن له سِمْسَارًا”. قال الحافظ في الفتح: وكأنه أشار إلى أصل الحديث. فقد سبق قبل بابين من وجه آخر عن معمر وفي أوله: “لا تلقوا الركبان”. وكذا أخرجه مسلم.

 قال: وقوله: “لا تلقوا الركبان”. خرج مخرج الغالب في أن من يجلب الطعام يكونون عددًا ركبانًا. ولا مفهوم له، بل لو كان الجالب عددًا مشاةً، أو واحدًا راكبًا، أو واحدًا ماشيًا لم يختلف الحكم.

 وقوله: “للبيع” يشمل البيع لهم والبيع منهم، ويفهم منه اشتراط قصد ذلك بالتلقي.

 فلو تلقى الركبانَ أحدٌ للسلام أو الفرجة أو خرج لحاجة له فوجدهم فبايعهم فهل يتناوله النهي ؟ فيه احتمال ؛ فمن نظر إلى المعنى لم يفترق عنده الحكم بذلك، وهو الأصح عند الشافعية وشرط بعض الشافعية في النهي: أن يبتدئ المتلقي فيطلب من الجالب البيع، فلو ابتدأ الجالب بطلب البيع فاشترى منه المتلقي لم يدخل في النهي.

 من صور التلقي المحرم

 قال الحافظ في الفتح:

 1- ذكر إمام الحرمين في صورة التلقي المحرم أن يكذب في سعر البلد ويشتري منهم بأقل من ثمن المثل.

 2- وذكر المتولي فيها أن يخبرهم بكثرة المؤنة عليهم في الدخول.

 3- وذكر أبو إسحاق الشيرازي: أن يخبرهم بكساد ما معهم ليغبنهم.

 قال الحافظ بعد أن ساق هذه الصور: وقد يؤخذ من هذه التقييدات إثبات الخيار لمن وقعت له ولو لم يكن هناك تلقٍ.

 فائدة لغوية

 في قوله: “لا تلقوا” بفتح التاء واللام وتشديد القاف المفتوحة وضم الواو، أصله: تتلقوا حذفت منه إحدى التاءين تخفيفًا، كما في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}، وهذا الحذف جائز، وذلك لثبوت التاءين في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ}.

 ومطلق النهي عن التلقي يشمل طول المسافة وقصرها وهو ظاهر إطلاق الشافعية.

 12- النهي عن الاحتكار

 عن معمر بن عبد الله أحد بني عدي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لا يحتكر إلا خاطئ”.

 هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب المساقاة باب تحريم الاحتكار في الأقوات برقم (1605)، كما أخرجه أبو داود في سننه في البيوع باب النهي عن الحُكْرَة برقم (3447)، والترمذي في البيوع باب ما جاء في الاحتكار برقم (1267)، وابن ماجه في التجارات باب الحُكْرَةِ والجلب برقم (2154)، كما أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/453، 454)، وذكره ابن عبد البر في باب الحكرة والتربص من كتابه الاستذكار.

 شرح الحديث

 قال الإمام النووي: قال أهل اللغة: الخاطئ بالهمز هو العاصي الآثم، وهذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار، قال أصحابنا: الاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة ولا يبيعه في الحال، بل يدخره ليغلو ثمنه. فأما إذا جاءه من قريته، أو اشتراه في وقت الرخص وادخره، أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في وقته فليس باحتكار ولا تحريم فيه. وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال، هذا تفصيل مذهبنا. اهـ.

 وأما الاحتكار عند المالكية فهو الادخار من أجل البيع وطلب الربح بتقلب الأسواق، وأما الادخار للقوت أي من أجل طعامه وعياله فليس من الاحتكار، واتفق المالكية مع الشافعية في أن الاحتكار في الأقوات خاصة.

 وأما الأحناف فالاحتكار عندهم من حيث اللغة هو احتباس الشيء انتظارًا لغلائه، والمراد به شرعًا: حبس الأقوات متربصًا للغلاء، أو هو: اشتراء طعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء أربعين يومًا مستدلين بحديث: “من احتكر طعامًا أربعين ليلة فقد بريء من الله، وبريء الله منه، وأيما أهل عَرْصَةٍ بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله”.

 والحنابلة عندهم الاحتكار ما اجتمع فيه ثلاثة أمور:

 1- أن يكون قد حَصَّلَ السلعة بطريق الشراء وليس بطريق الجَلَب، فلو جلب شيئًا، أو أدخل من غلته شيئًا فادخره لا يكون محتكرًا، وذلك لحديث: “الجالب مرزوق، والمحتكر معلون”.

 2- أن تكون السلعة المشتراة قوتًا من الحبوب المقتاتة ونحوها، لأنه ما تعم الحاجة إليه، أما الإدام والحلواء والعسل والزيت وأعلاف البهائم فليس فيها احتكار محرم.

 3- أن يُضَيِّقَ على الناس في شرائه بأمرين: أحدهما: أن يكون في بلد يضيق بأهله الاحتكار كالثغور، وأما البلاد الواسعة كثيرة المرافق والجلب كالأمصار التي لا يؤثر فيها الاحتكار فلا يحرم.

 وثانيهما: أن يكون في حال الضيق والشدة، كأن تدخل البلدَ قافلةٌ فيبادر ذوو الأموال بشرائها ويضيقون على الناس، وعلى هذا لا فرق بين البلد الصغير والكبير. أما الشراء في حال السَّعةِ والرخص بوجه لا يضيق على أحد فليس بمحرم.

 هذا، وقد اتفق الفقهاء على تحريم الاحتكار في كل وقت في الأقوات أو طعام الإنسان؛ مثل الحنطة والشعير والذرة والأرز، والتين والعنب والتمر والزبيب ونحوها مما يقوم به البدن.

 وكذلك اتفق الأحناف والشافعية والحنابلة على تحريم الاحتكار في طعام البهائم، وعند المالكية وأبي يوسف من الأحناف يحرم الاحتكار في غير الطعام في وقت الضرورة، لا في وقت السَّعَة، فلا يجوز عندهم الاحتكار في الطعام وغيره من الكتان والقطن وجميع ما يحتاج إليه الإنسان، أو كل ما أَضر بالناس حبسه قوتًا كان أو ثيابًا أو نقودًا.

 وقال السبكي من الشافعية: إذا كان الاحتكار في وقت قحط كان في ادخار العسل والسمن والشيرج- زيت السمسم- وأمثالها إضرار، فينبغي أن يقضى بتحريمه، وإذا لم يكن إضرار فلا يخلو احتكار من كراهة.

 قال الإمام النووي: قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس. كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام، واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه دفعًا للضرر عن الناس. قال: وأما ما ورد في الكتاب- صحيح مسلم- وغيره عن سعيد بن المسيب راوي الحديث عن معمر بن عبد الله، وكذلك عن معمر أنهما كانا يحتكران فقال ابن عبد البر وآخرون: إنما كانا يحتكران الزيت، وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه والغلاء.

 وقد قال الترمذي عقب حديث معمر بن عبد الله ؛ قال أبو عيسى: وفي الباب عن عمر وعلي وأبي أمامة وابن عمر، وحديث معمر حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم ؛ كرهوا احتكار الطعام. ورخص بعضهم في الاحتكار في غير الطعام.

 قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: قوله: “وفي الباب عن عمر” مرفوعًا: “ومن احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس”. أخرجه ابن ماجه، وحَسَّنَ الحافظ في الفتح إسناده. وعنه مرفوعًا بلفظ: “الجالب مرزوق والمحتكر ملعون” أخرجه ابن ماجه وإسناده ضعيف، وعن “علي” قال في تحفة الأحوذي: لم أقف على حديثه، وعن “أبي أمامة” مرفوعًا: “ومن احتكر طعامًا أربعين يومًا ثم تصدق به، لم يكن له كفارة”. أخرجه رزين. وعن “ابن عمر” مرفوعًا: “من احتكر طعامًا أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه”. أخرجه أحمد والحاكم، قال الحافظ في الفتح: في إسناده مقال، قال المباركفوري: وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: “من احتكر حُكْرَةً يريد أن يغالي بها على المسلمين فهو خاطئ”. أخرجه الحاكم، ذكره الحافظ وسكت عنه، وعن معاذ مرفوعًا: “من احتكر طعامًا على أمتي أربعين يومًا، وتصدق به لم يقبل منه”. أخرجه ابن عساكر.

 ثم قال المباركفوري: قوله: “ورخص بعضهم في الاحتكار في غير الطعام”، واحتجوا بالروايات التي فيها التصريح بلفظ الطعام. قال الشوكاني في نيل الأوطار: وظاهر أحاديث الباب أن الاحتكار محرم من غير فرق بين قوت الآدمي والدواب وبين غيره، والتصريح بلفظ الطعام في بعض الروايات لا يصلح لتقييد باقي الروايات المطلقة، بل هو من التنصيص على فرد من الأفراد التي يطلق عليها المطلق؛ وذلك لأن نفي الحكم عن غير الطعام إنما هو لمفهوم اللفظ، وهو غير معمول به عند الجمهور، وما كان كذلك لا يصلح للتقييد على ما تقرر في الأصول. اهـ.

 والحق الذي يجب أن يصار إليه أن الاحتكار إذا كانت علة التحريم فيه هي الإضرار بعامة الناس فينبغي أن يُحَرَّمَ احتكار القوت وغيره من السلع إذا كان احتكارها يلحق الضرر بهم.

 نسأل الله أن يهدي تجار المسلمين إلى تقوى الله في بيعهم وشرائهم، وأن يخافوا ربهم في تعاملاتهم، وأن يرعوا فيها ما حرم الله، وأن يعلموا أن الذي حرمه الله تعالى من المعاملات إنما هو لمصلحة عموم المسلمين، والمسلم إذا كان يتقي ربه سبحانه فإنه لا يقدم مصلحته الخاصة على مصالح المسلمين العامة.

 وفقنا الله وجميع المسلمين إلى محبته ومرضاته، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

عدد المشاهدات 15147