في أنواع من الطلاق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْ لُهُنَّ جِدٌّ: النكاحُ والطَّلاقُ والرَّجْعَةُ).
هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطلاق باب (في الطلاق على الهزل) برقم (2194)، وأخرجه الترمذي في سننه كتاب الطلاق باب (ما جاء في الجدِّ والهزل في الطلاق، برقم (1184)، وكذا أخرجه ابن ماجه في سننه كتاب الطلاق باب (من طلق أو نكح أو راجع لاعبا) برقم (2039)، وحَسَّنَهُ الألباني في صحيح الجامع برقم (3027).
2 ـ وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله تَجَاوَزَ لي عَن أُمَّتِي الخَطَأ والنِّسْيَانَ وما اسْتَكْرِهُوا عَلَيه). أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب الطلاق باب (طلاق المكره والناسي) برقم (2043)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1731).
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: (إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب (طلاق المكره والناسي) برقم (2045)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1836).
3 ـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/276، وأبو داود (2193) في باب الطلاق على غلط، وابن ماجه في طلاق المكره والناسي برقم (2046) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (7525).
4 ـ وذكر البخاري في صحيحه تعليقا؛ عن علي رضي الله عنه أنه قال لعمر رضي الله عنه: ألم تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عن ثَلاثٍ: عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يدرك وعن النائم حتى يستيقظ).
5 ـ وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم).
(شرح الأحاديث)
تضمنت هذه النصوص مجموعة من أنواع الطلاق التي يوقعها الناس، وقد ابتلي بها كثير من المسلمين ولا سيما في هذا الزمان الذي كثر فيه استعمال الطلاق؛ حتى إن كثيرًا من المسلمين يَحُلُّون مشاكلهم بالطلاق فيقعون في مشكلة قد لا يكون لها حل، فيعالج مشكلة بمشكلة هي أكبر منها، فحينئذ يكون (كالمستجير من الرمضاء بالنار).
فلنعش مع هذه النصوص واحدًا واحدًا لنعرف النوع الذي تضمنه أو الأنواع، وحكم الطلاق فيه:
النوع الأول: طلاق الهازل
وهو المستفاد من حديث أبي هريرة (ثلاثٌ جِدُّهُن جِدٌّ وهزلهنَّ جدٌّ؛ النكاح والطلاق والرجعة) وفي رواية: (والعتاق) بدل (الرجعة) وفي رواية (واليمين) بدل الرجعة أيضا، وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ثلاثة لا لعب فيها: الطلاق والعتاق والنكاح).
والهازل: هو المازح، الذي يلعب، فيتلفظ بالطلاق لاعبا أو مستهزئا ولا يقصد المعنى، ومثل له بعض العلماء بأن تقول الزوجة لزوجها في معرض دلالٍ أو ملاعبةٍ أو استهزاءٍ: طلقني، فيقول لها لاعبًا أو مستهزئًا: طلقتك، أو أنت طالق، أو قال لها طلقتك مائة تطليقة أو نحو ذلك.
حكم وقوعه:
الجمهور من فقهاء الأمة ومحدثيها على وقوع طلاق الهازل؛ قال ابن قدامة في المغني: إن صريح الطلاق لا يحتاج إلى نية، بل يقع من غير قصد، ولا خلاف في ذلك سواء قصد المزح أو الجِد. قال ابن المنذر: أجمع من أحفظ عنه من أهل العلم على أن جد الطلاق وهزله سواء. اهـ وقال الخطابي في معالم السنن: اتفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان البالغ العاقل فإنه مؤآخذ به، ولا ينفعه أن يقول: كنت لاعبًا أو هازلا، أو لم أنو به طلاقًا أو ما أشبه ذلك من الأمور. اهـ.
وأدلة الجمهور في ذلك:
(أ) الحديث الذي معنا: ثلاث جدهن جد وهزلن جد؛ النكاح والطلاق والرجعة).
(ب) وكذلك قالوا: إن الهازل يكفر لو نطق بالكفر قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66065].
النوع الثاني: طلاق المُكْرَهِ:
والمُكْرَهُ هو الذي يحمله غيره على فعلٍ أو قولٍ مهدِّدًا إياه إن لم يفعل أو يقل بقتل أو بإلحاق ضررٍ محقق، مع قدرة المكْرِهِ على تنفيذ ما هَدَّدَ به، ومع عدم قدرة المكرَه على دفع ما هُدِّدَ به بهرب أو استغاثة أو مقاومة.
حكم طلاق المكره:
اختلف الفقهاء في طلاق المكره؛ فجمهور فقهاء الأمة على أنه لا يقع، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وداود بن علي، وقد استدل القائلون بعدم وقوع طلاق المكره بما يلي:
1 ـ حديث أبي ذر الذي معنا، وكذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
2 ـ كذا استدلوا بالحديث الثالث الذي معنا وهو حديث عائشة رضي الله عنها: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) وفي رواية (في غِلاق) قال أبو داود بعد أن ساق الحديث: الغلاق أظنه الغضب، وفسره أبو عبيد وغيره بأنه الإكراه. وفسره غيرهما بالجنون، وقيل: هو نهي عن إيقاع الطلقات الثلاث دفعة واحدة، فيغلق عليه الطلاق حتى لا يبقى منه شيء. كغلق الرهن. حكاه أبو عبيد الهروي. قاله ابن القيم في زاد المعاد، ثم قال: قال شيخنا [يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله]: وحقيقة الإغلاق: أن يغلق على الرجل قلبه، فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته، قال: ويدخل في ذلك طلاق المكره والمجنون ومن زال عقله بسكر أو غضب، وكل من لا قصد له ولا معرفة له بما قال. اهـ
[زاد المعاد 5/215]
3 ـ كذا استدلوا بما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم في عدم وقوع طلاق المكره، فمن ذلك:
(أ) ما ورد عن عمر: أن رجلا تدلى بحبل ليشتار عسلا (أي ليخرجه من خليته) فجاءت امرأته فقالت: لأقطعن الحبل أو لتطلقني، فناشدها الله فأبت، فطلقها، فلما ظهر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له، فقال له: ارجع إلى امرأتك فإن هذا ليس بطلاق.
[أورد هذا الأثر ابن حزم في المحلي]
(ب) ما روي عن عمر أنه قال: ليس الرجل بأمين على نفسه إذا أخفته أو ضربته أو أوثقته.
(جـ) ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: طلاق السكران والمستكره غير جائز.
4 ـ أن المكره على النطق بالكفر لا يكفر بذلك لقوله تعالى: {.. إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ..} [النحل: 106]، فكذلك لا يقع طلاقه، ما دام مكرها على ذلك.
5 ـ أن المكره على الإسلام لا يصح منه الإسلام، فكذلك لا يصح طلاقه بجامع عدم الاختيار في كل.
ويرى الحنفية وهو قول أبي قلابة والشعبي والنخعي والزهري والثوري أن طلاق المكره يقع، واستدلوا بأدلة هي:
1 ـ روى الغازي بن جبلة عن صفوان بن عمران الأصم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا جلست امرأته على صدره وجعلت السكين على حلقه وقالت له: طلقني أو لأذبحنك فناشدها فأبت فطلقها ثلاثا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا قيلولة في الطلاق). [رواه سعيد بن منصور في سننه]. والقيلولة هنا بمعنى الرفع والنسخ، وقد نفي رفع الطلاق ونسخه إذا كان واقعا عن إكراه فدل ذلك على وقوع طلاق المكره.
2 ـ روى عطاء بن عجلا عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله).
[ذكره ابن القيم في زاد المعاد ولم يعزه لأحد من أصحاب الكتب]
3 ـ روى سعيد بن منصور في سننه عن عمرو بن شراحيل المعافري أن امرأة استلت سيفا فوضعته على بطن زوجها وقالت له: والله لأُنْفِذَنَّك أولَتُطَلِّقَنِّي، فطلقها ثلاثا، فرفع ذلك إلي عمر بن الخطاب فأمضى طلاقها.
4 ـ روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه.
5 ـ وقالوا: إن المكره بالغ عاقل وقد تلفظ بالطلاق عالما بما يقول مُؤْثِرًا له على ما هدد به، وهذا علامة على اختياره، وبناء على ذلك يقع طلاقه.
ولقد أجاب الجمهور على أدلة أصحاب القول الثاني وفندوها على النحو التالي:
أولا: حديث الغازي بن جبلة فيه ثلاث علل ـ كما قال ابن القيم ـ ضعف صفوان ابن عمرو، ولين الغازي بن جبلة، وتدليس بقية الراوي عنه، فمثل هذا لا يحتج به.
قال ابن حزم: وهذا خبر في غاية السقوط.
ثانيا: حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال ابن القيم: هو من رواية عطاء بن عجلان وضعفه مشهور، وقد رمي بالكذب، قال ابن حزم: وهذا الخبر شر من الأول.
ثالثا: أثر عمر: قال عنه ابن القيم: الصحيح عنه خلافه كما تقدم (أي في أدلة الجمهور) ولا يعلم معاصرة المعافري لعمر، وفرج بن فضالة فيه ضعف فلا حجة فيه.
رابعًا: أثر على: قال ابن القيم: الذي رواه الناس عن علي خلاف ذلك، فعن الحسن أن علي بن أبي طالب كان لا يجيز طلاق المكره.
النوع الثالث: طلاق الغضبان
وهو مستفاد من الحديث الثالث، حديث عائشة رضي الله عنها (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) وفي رواية (في غِلاق) وقد فسر الإغلاق بالغضب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وذكر أبو داود رحمه الله بعد أن ساق الحديث أنه يظن أنه الغضب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ـ كما نقله عنه ابن القيم في زاد المعاد ـ: حقيقة الإغلاق أن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به، كأنه انغلق عليه قصده وإرادته، ويدخل في ذلك طلاق المكره والمجنون، ومن زال عقله بسكر أو غضب، وكلُّ من لا قصد له ولا معرفة له بما قال.
ولقد ذكر ابن القيم أن الغضب على ثلاثة أقسام:
الأول: الغضب الشديد الذي يزول معه العقل فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع.
الثاني: الغضب الخفيف الذي يكون في مبادئه بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول ولا يمنعه من قصده، فهذا يقع طلاقه.
الثالث: الغضب المتوسط الذي يستحكم به ويشتد، ولكن لا يزيل عقله بالكلية بل يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال عنه الغضب، فهذا محل نظر، قال: وعدم الوقوع في هذه الحال قوي متجه.
النوع الرابع: طلاق السكران
السكر على نوعين:
أولهما: ما كان بغير إرادة من صاحبه ـ كأن يشرب شيئا لا يظن أنه مسكر فإذا به يسكره، أو أن يُكْرَه على الشرب من مسكر.
وهذا طلاقه لا يقع باتفاق العلماء.
والثاني: المتعدي بسكره ـ أي أنه شرب المسكر بعلمه وبإرادته من غير إكراه من أحد، وهذا فيه خلاف بين العلماء على قولين:
الأول: قول جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة وهو قول سعيد ابن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن وابن سيرين وغيرهم، وروي عن علي وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم.
واستدل هؤلاء على وقوع طلاق السكران المتعدي بسكره بما يلي:
1 ـ أن السكران هو الذي تسبب في ذهاب عقله بتناول المسكر عمدًا فوجب أن يتحمل وزر سكره وعلى ذلك يقع طلاقه.
2 ـ أنه اختار تناول المسكر عمدًا، وهذا يقوم مقام إرادته لفظ الطلاق، فيجب زجره بإيقاع الطلاق عليه عقوبة له.
3 ـ أن الصحابة أقاموه مقام الصاحي في كلامه، فإنهم قالوا: إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون، فجعلوه كالصاحي عقوبة له.
4 ـ كذلك استدلوا بحديث: (لا قيلولة في الطلاق) وقد تقدم أنه لا حجة فيه.
5 ـ واستدلوا أيضا بحديث: (كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه) وقد تقدم أيضا أنه ضعيف، إلى غير ذلك من الأدلة، وقد ساقها ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ وعقب عليها بقوله: وليس في شيء منها حجة أصلا. ثم فندها واحدًا واحدًا.
القول الثاني:
أن طلاق السكران الذي تعمد شرب المسكر لا يقع؛ وبهذا القول قال الطحاوي وزفر من الأحناف، وهو قول للشافعي والمزني، ورواية عن مالك، وأحمد في رواية عنه، كما أنه اختيار ابن تيمية وابن القيم وابن حزم، وصح عن عثمان رضي الله عنه.
وقد استدل أصحاب هذا القول بعدم وقوع الطلاق بما يلي:
1 ـ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فجعل سبحانه قول السكران غير معتبر.
2 ـ ما صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمقر بالزنا أن يستنكه (أي تشم رائحة فمه) ليعتبر قوله أو يلغى.
3 ـ ما جاء في صحيح البخاري في قصة حمزة بن عبد المطلب لما عقر بعيرَيْ عليٍّ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ووقف عليه يلومه. فَصَعَّدَ فيه النظر وصوَّبه وهو سكران، ثم قال هل أنتم إلا عبيد لأبي، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا القول لو قاله غير سكران لكان ردة وكفرًا، ولم يؤاخذ بذلك حمزة فدل على أن طلاق السكران لا يقع.
4 ـ أن السكران كالمجنون، كل منهما فاقد العقل الذي هو مناط التكليف، وفاقد العقل لا طلاق له.
5 ـ أن السكران قدَّرَ له الشرعُ عقوبةً محددة، وهي جلده أربعين أو ثمانين جلدة، فيجب الاقتصار عليها ولا تجوز الزيادة عنها بإيقاع الطلاق عليه، لأن هذا يكون زيادة في التشريع أولا، ثم إنه قد يتسبب في إيقاع عقوبة على من لا ذنب له من زوجة وأولاد، والله عز وجل يقول: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38].
إلى غير ذلك من الأدلة العقلية التي ترجح هذا القول. ولا شك أن هذا هو القول الراجح. والله أعلم.
النوع الخامس: طلاق من يحدث نفسه بالطلاق
وهو مستفاد من الحديث الخامس، حديث أبي هريرة: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم).
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: تضمنت هذه السنة أن ما لم ينطق به اللسان من طلاق أو عتاق أو يمين أو نذر عفوٌ غير لازم بالنية والقصد، قال: وهذا قول الجمهور، وفي المسألة قولان آخران:
أحدهما: التوقف فيها، قال عبد الرزاق عن معمر: سئل ابن سيريرن عمن طلق في نفسه، فقال: أليس قد علم الله ما في نفسك؟ قال: بلى، قال: فلا أقول فيها شيئًا.
الثاني: وقوعه إذا جزم عليه، وهذا رواية أشهب عن مالك، وروي عن الزهري، وحجة هذا القول:
1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).
2 ـ أن من كفر في نفسه فهو كفر.
3 ـ قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}.
4 ـ أن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها.
5 ـ أن أعمال القلوب في الثواب والعقاب كأعمال الجوارح، ولهذا يثاب على الحب والبغض والموالاة والمعاداة في الله، وعلى التوكل والرضى والعزم على الطاعة، ويعاقب على الكبر والحسد والعُعجبِ والشك والرياء وظن السوء بالأبرياء.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ ولا حجة في شيء من هذا على وقوع الطلاق والعتاق بمجرد النية من غير تلفظ، ثم فند حجج القائلين بوقوع الطلاق حجة حجة فيما ملخصه:
1 ـ حديث الأعمال بالنيَّات حجة عليهم؛ لأنه أخبر أن العمل مع النية هو المعتبر، لا النية وحدها.
2 ـ أما من اعتقد الكفر بقلبه أو شك فهو كافر لزوال الإيمان الذي هو عقد القلب مع الإقرار، فإذا زال العقد الجازم كان نفس زواله كفرًا، كالعلم والجهل وكل نقيضين إذا زال أحدهما حل محله الآخر، ولا يجتمعان.
3 ـ وأما الآية فليس فيها أن المحاسبة بما يخفيه العبد إلزامه بأحكامه بالشرع، وإنما فيها محاسبته بما يبديه أو يخفيه من أعمال، ثم هو مغفور له أو معذب. فأين هذا من وقوع الطلاق بالنية؟
4 ـ وأما أنَّ المصر على المعصية فاسق مؤاخذ، فهذا إنما هو فيمن فعل المعصية ثم أصر عليها، فهذا عمل اتصل به العزم على معاودته، فهذا هو المصر، وأما من عزم على المعصية ولم يعملها، فهو بين أمرين؛ إما أن لا تكتب عليه، وإما أن تكتب له حسنة إذا تركها لله عز وجل.
5 ـ وأما الثواب والعقاب على أعمال القلوب فحق، والقرآن والسنة مملوآن به، ولكن وقوع الطلاق والعتاق بالنية من غير تلفظ أمر خارج عن الثواب والعقاب، ولا تلازم بين الأمرين، فإن ما يعاقب عليه من أعمال القلوب هو معاصٍ قلبية يستحق العقوبة عليها، إذ هي منافية لعبودية القلب، وهي أمور اختيارية يمكن اجتنابها فيستحق العقوبة على فعلها، وهي أسماء لمعاني مسمياتها قائمة بالقلب، وأما الطلاق والعتاق فاسمان قائمان باللسان أو ما ناب عنه من إشارة أو كتابة، وليسا اسمين لما في القلب مجردًا عن النطق.
نسأل الله تعالى أن يلهمنا الرشد، وأن يفقهنا في الدين، وأن يرزقنا وجميع المسلمين العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.