صدقة المرأة على زوجها وولده
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
عن زينب امرأة عبد الله قالت: كنت في المسجد فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تصدقن ولو من حليكن». وكانت زينب تنفق على عبد الله وأيتام في حجرها، فقالت لعبد الله: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيجزئ عني أن أنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟ فقال: سلي أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت امرأة من الأنصار على الباب حاجتها مثل حاجتي، فمر علينا بلال وقلنا: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيجزئ عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري؟ فقلنا: لا تخبر بنا. فدخل بلال فسأله فقال: من هما؟ قال: زينب. قال: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله، فقال: نعم، لها أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة.
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة باب: “الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر” رقم (1466)، كما أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري في باب الزكاة على الأقارب برقم (1462)، وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد برقم (1000) كما أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد في المسند والدارمي في سننه.
شرح الحديث
قوله: “عن زينب امراة عبد الله” أما زينب فهي بنت معاوية - ويقال بنت عبد الله بن معاوية - بن عتاب بن الأسعد الثقفية، وقيل: اسمها رائطة.
قولها: “كنت في المسجد” في حديث أبي سعيد: كان ذلك في مصلى العيد في أَضْحَى أو فطرٍ أي في عيد الأضحى أو عيد الفطر بعدما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد وخطب الناس، بعد ذلك وعظ الرجال وحثهم على الصدقة ثم تحول إلى النساء فوعظهن وحثهن على الصدقة، فقال صلى الله عليه وسلم : “يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار”. فقلن: بم ذلك يا رسول الله؟ قال: “تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء “.
قولها: “فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت امرأة من الأنصار على الباب حاجتها جاتي”.
قال الحافظ في الفتح: في رواية الطيالسي: “فإذا امرأة من الأنصار يقال لها: زينب” وكذا أخرجه النسائي من طريق أبي معاوية عن الأعمش، وزاد من وجه آخر عن علقمة عن عبد الله قال: “انطلقت امرأة عبد الله يعني ابن مسعود وامرأة أبي مسعود يعني عقبة بن عمرو الأنصاري”. ثم قال ابن حجر: قلت: لم يذكر ابن سعد لأبي مسعود امرأة أنصارية سوى هزيلة بنت ثابت بن ثعلبة الخزرجية فلعل لها اسمين، وأوهم من سماها زينب انتقالاً من اسم امرأة عبد الله إلى اسمها.
قولها: “حاجتها حاجتي” أي جاءت تسأل عن مسألتي نفسها فإن لها نفس المسألة.
قولها: “فمر علينا بلال”. وفي رواية مسلم: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة، قالت: فخرج علينا بلال، فكأنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فمر بها.
قوله: “فقلنا: سَلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أيجزئ عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري؟” وفي رواية مسلم: “فقلنا له- أي لبلال- ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما”؟ أما الأيتام الذين لهما أو في حجورهما فقد بينت رواية الطيالسي أنهم بنو أخيها وبنو أختها، وفي رواية للنسائي: “لإحداهما فضل مال وفي حجرها بنو أخ لها أيتام وللأخرى فضل مال وزوج خفيف ذات اليد (أي وزوج فقير”).
قوله: “ولا تخبر بنا” وفي رواية مسلم: “ولا تخبره من نحن”. وفي هذا من الأدب الرفيع والخلق الفاضل للمرأتين إذا كانتا حريصتين على شعور زوجيهما وعدم جرح أحساسيسهما، لأن هذا قد يؤذي الزوج، وتأمل قول ابن مسعود لامرأته لما طلبت منه أن يسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع أنها تريد أن تعرف حكم الشرع في أعمالها لكن قد يفهم منه التعريض بالزوج، فقد قال لها: سليه أنت، وقارن هذا بما يحدث من بعض النساء اليوم من قولها إن زوجي لا ينفق عليَّ وإنه يبخل بماله أو إنه جالس في البيت لا يعمل وأنا التي أنفق على البيت مع أنه قد يكون معذورًا في عدم وجود عمل يكتسب منه معيشة حلالاً أو كسبًا طيبًا.
قوله: “فقال: من هنا؟ قال: زينب”. وفي رواية مسلم: “قال: امرأة من الأنصار وزينب” وهذه الرواية أوضح في جواب بلال لأنه سأله: “من هما؟” فالجواب في رواية مسلم عن اثنتين، وفي رواية البخاري عن واحدة، ولعل جواب بلال في رواية البخاري عن واحدة، ولعل جواب بلال في رواية البخاري يراد بها: إحداهما زينب، وكأنه لا يعرف الأخرى، ولعله عرف امرأة ابن مسعود من صوتها.
قوله: “أي الزيانب؟” يسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأن الأمر لا يزال مبهمًا، ففي قول بلال: امرأة من الأنصار وزينب إبهام لكل منهما وكأنه لم يخبر عنهما بناء على توصيتهما.
وقوله: “امرأة عبد الله” أي ابن مسعود، قال النووي: قد يقال في هذا: إنه إخلاف للوعد وإفشاء للسر، وجوابه أنه عارض ذلك جواب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وجوابه صلوات الله وسلامه عليه واجب محتم لا يجوز تأخيره، ولا يقدم عليه غيره، وقد تقرر أنه إذا تعارضت المصالح بدئ بأهمها. اهـ.
قوله: “لها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة” أي أجر صلة الرحم وأجر منفعة الصدقة وظاهر هذا القول عدم مشافهة امرأة عبد الله رسول الله بالسؤال وعدم مشافهته إياها بالجواب، لكن حديث أبي سعيد يدل على أنها شافهته بالسؤال وشافهها بالجواب؛ فقالت: يا نبي الله إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : “صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم”. وهنا يتبين أن في رواية زينب أنها طلبت من ابن مسعود زوجها أن يسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال لها: سليه أنت، وفي رواية أبي سعيد أن ابن مسعود أخبرها بالحكم فذهبت تستوثق من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتسأله عما قال لها زوجها فأخبرها صلى الله عليه وسلم : أنه صدق، وفي هذه الرواية إشارة إلى علم ابن مسعود وأنه كان من أفقه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، كيف وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم عندما أسلم وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتعلم وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصه على العلم قال له: “إنك عليم معلم”. [أخرجه أحمد في المسند والفسوي في المعرفة، وقال الذهبي صحيح الإسناد ولكن محقق سير أعلام النبلاء قال: بل حسن].
قال الشوكاني في نيل الأوطار: استدل بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها إلى زوجها، وبه قال الشافعي والثوري وصاحبا أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وعن أحمد- زاد صاحب الفتح الرباني: أبا ثور وابن المنذر وأهل الظاهر- قال الشوكاني: وهذا إنما يتم دليلاً بعد تسليم أن هذه الصدقة صدقة واجبة، وبذلك جزم المازري، ويؤيد ذلك قولها: “أيجزئ عني”، وتعقبه القاضي عياض بأن قوله: “ولو من حليكن”، وكون صدقتها كانت من صناعتها يدلان على التطوع، وبه جزم النووي، وتأولوا قولها: “أيجزئ عني” أي في الوقاية من النار كأنها خافت أن صدقتها على زوجها لا يحصل لها المقصود بها، وما أشار إليه من الصناعة احتج به الطحاوي لقول أبي حنيفة: إنها لا تجزئ زكاة المرأة في زوجها. فأخرج- أي الطحاوي- من طريق رائطة امرأة ابن مسعود أنها كانت امرأة صنعاء اليدين، فكانت تنفق عليه وعلى ولده، فهذا يدل على أنها صدقة تطوع، واحتجوا أيضًا على أنها صدقة تطوع بما في البخاري من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: “زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم”. قالوا: لأن الولد لا يُعْطَى من الزكاة الواجبة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره، وتعقب هذا بأن الذي يمتنع إعطاؤه من الصدقة الواجبة من تلزم المعطي نفقته والأم لا يلزمها نفقة ابنها مع وجود أبيه. ثم قال الشوكاني رحمه الله: والظاهر أنه يجوز للزوجة صرف زكاتها إلى زوجها، أما أولاً فلعدم المانع من ذلك، ومن قال إنه لا يجوز فعليه الدليل، وأما ثانيًا فلأنَّ ترك استفصالِه صلى الله عليه وسلم لها ينزل منزلة العموم، فلما لم يستفصلها عن الصدقة أتطوع هي أم واجب، فكأنه قال: يجزئ عنك فرضًا كان أم تطوعًا. اهـ.
وقد اختلف في الزوج، هل يجوز له أن يدفع زكاته إلى زوجته؟ فقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة شيئًا لأن نفقتها واجبة عليه، قال العلماء: لأنه إن أعطاها زكاة ماله رجعت إليه فكأنه لم يخرج الزكاة، وكذلك أولاده، فكل من تلزمه نفقتهم من الأصول والفروع فإن في إعطائهم الزكاة إما ردًا على نفسه وتخفيف النفقة الواجبة عليه وهذه التي قال العلماء: كأنه لم يخرجها أو أعطاها لنفسه، وإما إغناءً لهم ومعلوم أن الصدقة لا تحل لغني. والله أعلم.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم:
1- الحث على صلة الرحم وأن أحق الناس بالمعروف هم القرابة وذوو الرحم قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}.
2- جواز تبرع المرأة بمالها بغير إذن زوجها، فإن امرأة ابن مسعود أرادت أن تتصدق بحليها كماجاء في الحديث، ولم ينكر عليها زوجها عدم استئذانه في ذلك، ولم يبين لها الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز لها أن تتصدق إلا بإذن زوجها.
3- عظة النساء وحثهن على الصدقة تخصيصًا لهن بموعظة بعد موعظة الرجال.
4- ترغيب ولي الأمر للرجال والنساء في فعل الخير ودعوة الجميع إلى ذلك.
5- التحدث مع النساء عند أمن الفتنة، فإن لم تؤمن الفتنة فلا يجوز ذلك.
6- التخويف من المؤاخذة بالذنوب وما يتوقع بسببها من العذاب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حث النساء على الصدقة خوفهن من النار وبين لهن سبب دخولها بل سبب أنهن أكثر أهل النار من كثرة اللعن والسب، فإن المسلم عمومًا رجلاً كان أم امرأة منهي عن أن يكون سبابًا ولا لعانًا ولا طعانًا بل يجب أن يكون عفيف اللسان يربأ بنفسه عن السفه في القول فضلاً عن الفحش، وكذلك كفران العشير وهو نوع من كفران النعم، وقد جاء مفسرًا في حديث آخر: “إذا أحسن إليها الدهر ثم أساء إليها مرة لقالت ما رأيت منك خيرًا قط”، وهو ما نسميه بنكران الجميل وإظهار القبيح، والله المستعان.
7- فتيا العالم مع وجود من هو أعلم منه، إذ أن ابن مسعود أصدر الفتوى لزوجته مع وجود رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري “زعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم”، ثم أقر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ابن مسعود على فتواه.
8- طلب الترقي في تحمل العلم: لأن امرأة ابن مسعود لم تقنع بقول ابن مسعود، وذهبت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يُشْبِهُهُ ما يطلق عليه الآن “طلب علو الإسناد”.
9- الحرص على الأيتام وحسن تربيتهم والإنفاق عليهم، وأن الإنفاق عليهم من الأعمال التي يثاب عليها الإنسان ولو كان الأيتام أولادًا للمنفق وذلك واضح في حديث زينب امرأة ابن مسعود، وحديث أبي سعيد، وكذلك في حديث أم سلمة عندما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنفاقها على أولاد أبي سلمة فقالت: “قلت: يا رسول الله، هل لي أجر في بني أبي سلمة أنفق عليهم ولست بتاركتهم هكذا وهكذا إنما هم بني؟” فقال: نعم لك فيهم أجر ما أنفقت عليهم. فهم أبناؤنا وهم أيتام أبي سلمة رضي الله عنه، ولها أجر في إنفاقها عليهم.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن ينفعنا والمسلمين بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.