تكفير المسلمين من معتقد فرقة الخوارج
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعث علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبية في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن بدر وأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة وإما عامر الطفيل ، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء؟ قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً؟ قال: فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس مشمر الأزار، فقال: يا رسول الله، اتق الله، قال: ويلك، أولست أحق أهل الأرض بتقى الله؟ قال: ثم ولى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، لعله أن يكون يصلي. فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم. قال: ثم نظر إليه وهو مُقف، وقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. وأظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود.
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في عدة مواضع أولها في كتاب أحاديث الأنبياء باب (قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} برقم (3344)، وثانيها في كتاب المناقب باب “علامات النبوة” برقم (3610) وثالثها في كتاب المغازي باب (بعث علي وخالد بن الوليد إلى اليمن) برقم (4351)، ورابعها في كتاب التفسير باب (قوله تعالى: “والمؤلفة قلوبهم” برقم (4667) وخامسها في كتاب فضائل القرآن باب (إثم من راءى بقراءة القرآن) برقم (5058) وسادسها في كتاب الأدب باب (ما جاء في قول الرجل ويلك) برقم (6163)، وسابعها في كتاب استتابة المرتدين باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم برقمي (6931، 6933)، وثامنها في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} برقم (7432)، وتاسعها في كتاب التوحيد أيضًا باب (قراءة الفاجر والمنافق وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم) برقم (7562)، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة باب (ذكر الخوارج وصفاتهم) برقم (1064) (143، 144، 145، 146، 147، 148)، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة باب (قتال الخوارج) برقم (4764)، والنسائي في كتاب الزكاة باب (المؤلفة قلوبهم) برقم (2759)، وفي كتاب المحاربة باب (من شهر سيفه ثم وضعه في الناس) برقم (4106).
شرح الحديث
قوله: “بذهيبة” تصغير ذهَبَةٍ، وفي معظم النسخ من صحيح مسلم بذهَبَةٍ بدون تصغير.
وقوله: “في أديم مقروظ” أي في جلد مدبوغ.
وقوله: “لم تحصل من ترابها” أي: لم تخلص من تراب المعدن فكان تبرًا لم تسبك، وتخليصها بالسبك.
وقوله: “بين عيينة بن بدر” نسب لجده الأعلى، وإنما هو عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري.
وقوله: “وأقرع بن حابس” هكذا في هذه الرواية، وجاء في غيرها على الأصل بالألف واللام، “الأقرع بن حابس” وقد استشهد به ابن مالك على أن الأعلام ذوات الالف واللام قد تحذف منها في غير نداء ولا إضافة ولا ضرورة.
وقوله: “وزيد الخيل” هو زيد بن مهلهل الطائي، وقيل له: زيد الخيل لكرائم الخيل التي كانت له، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم : زيد الخير بالراء بدل اللام وأثنى عليه، وأسلم وحسن إسلامه ومات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله: “والرابع إما علقمة” يعني ابن عُلاثة العامري، و”إما عامر بن الطفيل” وهو العامري قال الحافظ في الفتح: وجزم في رواية سعيد بن مسروق بأنه علقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب، وهو من أكابر بني عامر، وأسلم علقمة وحسن إسلامه، قال الحافظ: وذكر عامر بن الطفيل غلط من عبد الواحد (أي في هذه الرواية) فإنه كان مات قبل ذلك.
قوله: “وقال رجل من أصحابه” هكذا في الرواية، وفي رواية أخرى “فغضبت قريش والأنصار”. وقالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا، فقال صلى الله عليه وسلم : “إنما أتألفهم” والصناديد جمع صنديد وهو الرئيس، وفي رواية أخرى: “فتغيظت قريش والأنصار”، وفي رواية رابعة: “فتغضبت قريش والأنصار”.
قوله: “فقال ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً”. وفي الرواية الأخرى أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك عقب قول الخارجي الذي يذكر بعد هذا، قال الحافظ: وهو المحفوظ.
قال الحافظ في الفتح: واختلف في هذه الذهيبة فقيل: كانت أخمس الخمس، وفيه نظر، وقيل من الخمس، وكان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم لم يضعه في صنف دون الأصناف للمصلحة، وقيل من أصل الغنيمة وهو بعيد.
قوله: “فقام رجل غائر العينين” أي عيناه داخلتان في محاجرها للصفنين بقعر الحدقة.
قوله: “مشرف الوجنتين” أي بارزهما، والوجنتان العظمان المشرفان على الخدين.
وقوله: “ناشز الجبين” أي: مرتفع الجبين، وفي رواية: “ناتئ” من النتوء وهو الارتفاع عما حوله.
وقوله: “محلوق الرأس”، وفي رواية ابن سيرين قيل ما سيماهم؟ قال: “سيماهم التحليق أو التسبيد” شك من الراوي، والتسبيد بمعنى التحليق، وقيل إنَّ التسبيد أبلغ من التحليق وقيل: هو ترك دهن الشعر وغسله، والأولى أولى، قال الحافظ: وكان السلف يوفرون شعورهم لا يحلقونها، وكانت طريقة الخوارج حلق جميع الرأس.
قوله: “يا رسول الله، اتق الله” وفي رواية أخرى: “فقال: اعدل يا رسول الله”. وفي رواية ثالثة: “فقال: اتق الله يا محمد”. وفي حديث عبد الله بن عمرو فقال: “اعدل يا محمد”. وفي لفظ له عند البزار والحاكم: “فقال: يا محمد: والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما أراك تعدل”. وفي رواية مقسم التي أشرت إليها: “فقال يا محمد قد رأيت الذي صنعت، قال: وكيف رأيت؟ قال: لم أرك عدلت”. وفي حديث أبي بكرة: فقال: يا محمد، والله ما تعدل، وفي لفظ: “ما أراك عدلت في القسمة”، ونحوه في حديث أبي برزة. اهـ في الفتح.
وهذا الرجل هو ذو الخويصرة التميمي كما صرح به في بعض الروايات وعند أبي داود أن اسمه: نافع، قال الحافظ: ورجحه السهيلي، وقيل: اسمه جُرقوص بن زهير السعدي، وقيل حرقوس هو ذو الثدية الذي جاء في رواية أبي سلمة بن عبد الله عن أبي سعيد: “آيتهم رجل إحدى يديه - أو قال ثدي مثل ثدي المرأة، أو قال مثل البضعة يدردر يخرجون على حين فُرقة من الناس، قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم أن عليًا قتلهم وأنا معه، مجيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: فنزلت فيه: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}.
وقوله صلى الله عليه وسلم : “أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله”. وفي رواية: “فقال: ومن يطع الله إذا عصيته”. وفي رواية ثالثة: “ومن يعدل إذا لم أعدل”. وزاد في رابعة: “قد خبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدل”.
قوله: “قال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟” في رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن: “قال عمر بن الخطاب دعني أضرب عنقه” ولا منافاة في ذلك ولا تضاد ولا جدال أن يكون كلّ منهما سأل في ذلك، وقد صُرِّح بذلك عند مسلم من طريق جرير عن عمارة بن القعقاع: “فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه، قال: لا، ثم أدبر فقام إليه خالد بن الوليد سيف الله فقال: يا رسول الله، أضرب عنقه؟ قال: لا”.
وقوله: “ولعله أن يكون يصلي” قال الحافظ: قيل فيه دلالة بطريق المفهوم أن تارك الصلاة يقتل، وفيه نظر.
وقوله: “أن أنقب قلوب الناس” أي: إنما أمرت أن آخذ بظواهر أمور الناس ولم أؤمر بالتنقيب عن قلوبهم، أو أن أشق صدورهم لأطلع على ما فيها، ونقل الحافظ عن القرطبي قوله: إنما منع قتله وإن كان قد استوجب القتل لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ولا سيما من صلى كما ورد نظيره في قصة عبد الله بن أُبي.
وقوله: “يخرج من ضئضئ هذا” بالضاد المعجمة، وفي رواية بالضاد المهملة والمراد النسل والعقب، وقد جاء في رواية أخرى: من ضئضئ هذا أتوا من عقب هذا. وفي رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن: “دعه فإن له أصحابًا” فهم أتباع لهذا الرجل سواء كانوا أصحابًا له على طريقته أم كانوا من عقبه، وعلى كل فقد ظهروا وخرجوا في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد قاتلهم.
وقوله: “يتلون كتاب الله رطبًا” وفي رواية: “يقرءون القرآن” أي: يتلون كتاب الله تلاوة حسنة كما أنزل، وقوله: “لا يجاوز حناجرهم”، وفي رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن: “لا يجاوز تراقيهم” أي أن إيمانهم لا يجاوز حناجرهم [جمع حنجرة] أو لا يجاوز تراقيهم [جمع ترقوة]، ويجوز أن يكون المعنى قراءتهم للقرآن قراءة بالأفواه والألسن لا تتجاوزها إلى القلب، ويحتمل أنه لكونه لا تفقه قلوبهم ويحملونه على غير المراد به، ويحتمل أن تلاوتهم لا ترتفع إلى الله تعالى.
وقوله: “يمرقون من الدين”. وفي رواية سعيد بن مسروق: “يمرقون من الإسلام”، وقد أَوَّل الخطابي الدين بالطاعة أي طاعة الإمام، وفي رواية سعيد “من الإسلام”، رد على تأول الخطابي، قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام كما فسرته الرواية الأخرى، وخرج الكلام مخرج الزجر، وأنهم بفعلهم هذا يخرجون من الإسلام الكامل، وزاد سعيد بن مسروق في روايته: “يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان” وهو مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من المغيبات فوقع كما قال صلى الله عليه وسلم .
قوله: “وأظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود”. وفي رواية سعيد بن مسروق: “لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد” بالجزم بلا تردد، وهو الراجح.
وقد استشكل قوله صلى الله عليه وسلم : “لئن أدركتهم لأقتلنهم” مع أنه نهى عمر وخالدًا عن قتل أصلهم، وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم أراد إدراكهم عند خروجهم على المسلمين بالسيف، ولم يكن ظهر ذلك في زمانه، بل إنهم خرجوا في عهد عليّ رضي الله عنه كما هو مشهور، واستدل به على تكفير الخوارج وهي مسألة مشهورة والخلاف بين علماء الأمة فيها مشهور معلوم.
وقوله: “كما يمرق السهم من الرمية”: الرمية على وزن فعيلة وهي الصيد المرميُّ، شبه النبي صلى الله عليه وسلم خروج الخوارج من الدين بخروج السهم من جسم الصيد بسرعة حتى إنه لا يعلق منه شيء بالسهم من شدة سرعته، فكذلك الخوارج يمرقون من الدين لم يبق في قلوبهم منه شيء على الرغم من صلاتهم والمبالغة فيها وفي العبادات، وذلك كما جاء في رواية أبي سلمة: “يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وصيامه مع صيامهم”. وفي رواية: “تحقرون أعمالكم مع أعمالهم”. وقد وصفوا بأنهم يصومون النهار ويقومون الليل ويأخذون الصدقات على السنة، وعن ابن عباس في قصة مناظرته للخوارج قال: فأتيتهم فدخلتُ على قوم لم أر أشد اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود.
وقوله في رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن: “جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم “ وهم الذين قتلهم علي، قال: إن عليًا لما كاتب معاوية وحكما الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة وعتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله ومن اسم سماك الله به، ثم حكمت الرجال في دين الله ولا حكم إلا لله، فبلغ ذلك عليًا فجمع الناس فقال: كتاب الله بيني وبين هؤلاء، يقول الله في امرأة رجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} الآية، وأمة محمد أعظم من امرأة رجل، ونقموا عليّ أن كاتبت معاوية، وقد كاتب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سهل بن عمرو، ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، ثم بعث إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع منهم أربعة آلاف فيهم عبد الله بن الكواء، فبعث عليّ إلى الآخرين أن يرجعوا فأبوا، فأرسل إليهم: كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم ألا تسفكوا دمًا حرامًا، ولا تقطعوا سبيلاً ولا تظلموا أحدًا، فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب، قال عبد الله بن شداد: فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرام. الحديث.
ولابن أبي شيبة من طريق أبي مجلز قال: قال علي لأصحابه: لا تبدءوهم بقتال حتى يحدثوا حدثًا، قال: فمر بهم عبد الله بن خباب، قالوا له: حدثنا عن أبيك فحدثهم بحديث، فقدموه فضربوا عنقه، ثم دعر سريته وهي حبلى فبقروا بطنها، وكانوا مروا على ساقته فأخذ واحد منهم تمرة فوضعها في فيه، فقالوا له تمرة معاهد فيم استحللتها؟ فقال لهم عبد الله بن خباب: أنا أعظم حرمة من هذه التمرة، فأخذوه فذبحوه، فبلغ ذلك عليًا فأرسل إليهم: أفهدونا بقاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتلة، فأذن حينئذ في قتالهم، وقد التمس الرجل ذو الثديَّة فلم يجدوه إلا في خربة فأتوا به فوضعوه بين يديه، فلما رآه علي على النعت الذي نعته رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هلل وكبر وقال: صدق الله وبلغ رسوله.
هذا، وقد اختلف علماء الأمة في تكفير الخوارج، فممن قال بتكفيرهم بعد إقامة الحجة عليهم الطبري والبخاري كما قال الحافظ يفهم ذلك من صنيع البخاري في تراجمه، وأبو بكر بن العربي، فقال الحافظ ومن المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي وكذلك الإمام القرطبي، وصاحب الشفاء وصاحب الروضة واحتج القائلون بتكفير الخوارج بقول النبي صلى الله عليه وسلم : “يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية”. وبقوله صلى الله عليه وسلم : “لأقتلنهم قتل عاد”. ولفظ: “ثمود” وكل منهما إنما هلك بالكفر، وبقوله صلى الله عليه وسلم : “هم شر الخلق” ولا يوصف بذلك إلا الكفار، ولقوله: “إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى”، ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار فكانوا هم أحق بالاسم منهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار فكانوا هم أحق بالاسم منهم.
قال السبكي: احتج من كفر الخوارج وغلاة الروافض ( الشيعة ) بتكفيرهم أعلام الصحابة لتضمنه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شهادته لهم بالجنة، قال: وهو عندي احتجاج صحيح.
قال الحافظ في الفتح: ويؤيد القول المذكور الأمر بقتلهم مع ما تقدم من حديث ابن مسعود: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث- وفيه-: التارك لدينه المفارق للجماعة”.
قال الحافظ: وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام.
وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك، وممن ذهب إلى ذلك الخطابي والقاضي عياض وأبو المعالي الجويني وأبو بكر الباقلاني والغزالي، وقد قال الغزالي في كتابه التفرقة بين الإيمان والزندقة: والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير مما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلمٍ واحد.
قال ابن بطال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين لقوله: “يتمارى في الفوقة” أو هل علق شيء من الصيد؛ لأن التماري من الشك. وإذا وقع الشك في ذلك لم يقطع عليهم بالخروج من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين، قال: وقد سُئل عليٌّ عن أهل النهر: هل كفروا؟ قال: من الكفر فروا، وقد قال الحافظ إلى القول بتكفيرهم ونقل قول القرطبي فيهم والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث.
قال القرطبي: فعلى القول بكفرهم يقاتلون ويقتلون وتُسبى ذراريهم وتغنم أموالهم وهو قول طائفة من أهل الحديث في الخوارج، وعلى القول بعدم تكفيرهم يسلك بهم مسلك أهل البغي إذا شقوا عصا الطاعة، فأما من استتر منهم ببدعة فإذا ظهر عليه هل يقتل بعد الاستتابة أو لا يقتل مجتهد في رد بدعته؟ اختلف فيه بحسب الاختلاف في تكفيرهم.
قال: وباب التكفير باب خطر ولا نعدلُ بالسلام شيئًا. قال: وفي الحديث علم من أعلام النبوة حيث أخبر بما وقع قبل أن يقع، وذلك أن الخوارج لما حكموا بكفر من خالفهم استباحوا دماءهم وتركوا أهل الذمة فقالوا: نفي لهم بعهدهم، وتركوا قتال المشركين واشتغلوا بقتال المسلمين، وهذا كله من آثار عبادة الجهال الذين لم تنشرح صدورهم بنور العلم، وكفى أن رأسهم رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ونسبه إلى الجور. نسأل الله السلامة.
قال ابن هبيرة: وفي الحديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين، والحكمة في ذلك أن في قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظ رأس المال أولى، وفيه الزجر عن الأخذ بظواهر جميع الآيات القابلة للتأويل التي يفضي بظواهرها إلى مخالفة إجماع السلف، وفيه التحذير من الغلو في الديانة والتنطع في العبادة بما لم يأذن به الشرع، وإنما ندب الشرع إلى الشدة على الكفار وإلى الرأفة بالمؤمنين فعكس الخوارج ذلك، وفيه جواز قتال من خرج عن طاعة الإمام العادل، ومن نصب الحرب فقاتل عن اعتقاد فاسد، ومن خرج يقطع الطريق ويخيف السبيل ويسعى في الأرض بالفساد، وفيه إباحة قتال الخوارج بالشروط المتقدمة وقتلهم في الحرب وثبوت الأجر لمن قتلهم، وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه ومن غير أن يختار دينًا على دين الإسلام، وفيه أن الخوارج شر الفرق المبتدعة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، بل من اليهود والنصارى، وفيه منقبة عظيمة لعمر وكذلك لخالد بن الوليد لشدتهما في الدين، وفيه أنه لا يكفي في التعديل بظاهر الحال ولو بلغ المشهود بتعديله الغاية في العبادة والتقشف والورع.
وبعد، فهذا خبر فرقة من الفرق يبين هذا الحديث وغيره من الأحاديث عن علي وجابر بن عبد الله وجندب بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عمر وغيرهم تبين الأحاديث حالهم وحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، تساق ليكون المسلم على حذر شديد من الوقوع في مثل ما وقع فيه هؤلاء فإن من رد حكم الله تعالى أو حكم رسوله صلى الله عليه وسلم أو ظن أن حكم الرسول يستوي مع حكم غيره من البشر، أو خرج على إمامه وولي أمره الذي بايعه أو تسبب في الفتن بين المسلمين تحت أي مسمى من المسميات فإنه على خطر عظيم يوشك أن يخرج من الإسلام وهو لا يدري ويظن أنه على شيء، ويحسب أنه يحسن صنعًا، فأما أولياء الأمور وإنه لهم على رعاياهم وخاصة العلماء منهم النصيحة بالحكمة واللين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك عنده أي عند ولي الأمر وجهًا لوجه فيما بينه وبينه وليس على الملأ فإن النصيحة على الملأ فضيحة، بل ليس على المنابر ولا على صفحات الصحف ولا وسائل الإعلام، بل على العلماء ألا يتشبهوا بأهل الأحزاب المعارضة الذين لا يقيمون لدينهم وزنًا ولا لأمتهم نصحًا بل همهم تجريح الحكومات القائمة كزرع العداوة بينها وبين شعوبها، وذلك مخطط صهيوني يسعى إليه وإلى تنفيذه من يجهلون حقائق الأمور، وهم يحسبون أنهم أفهم الأمة بمصالح الأمة، والحق أن كل واحد يزين نفسه في عيون الشعب ولا يكون ذلك إلا بذم الآخرين وتقبيحهم وما أسلوب الانتخابات عنا ببعيد.
نسأل الله تعالى أن يلهم
الأمة الإسلامية رشدها، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.