الاعتكاف والعشر الأواخر

2012-07-17

زكريا حسينى

الاعتكاف والعشر الأواخر

 الحمد لله رب العالمين، له الحمد في الأولى وفي الآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة نبينا محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه واتباعه إلى يوم الدين، وبعد..

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأَوَّل من رمضان، واعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط فاعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا صبيحة عشرين من رمضان، فقال: “من كان اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم فليرجع فإني أُرِيتُ ليلة القدر وإني نُسِّيتها، وإنها في العشر الأواخر في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء”، وكان سقف المسجد جريد النخل، وما نرى في السماء شيئا، فجاءت قزعة فأمطرنا، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرنبته، تصديق رؤياه.

هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في ثمانية مواضع من صحيحه، مختصرًا في بعضها، وبطوله في البعض الآخر، وهي في كتاب الأذان؛ ثلاثة منها بالأرقام (966، 318، 638) وموضعان في كتاب فضل ليلة القدر برقمي (6102، 8102) وثلاثة مواضع في كتاب الاعتكاف بالأرقام (7202، 6302، 0402)، وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر برقم (7611)، وأخرجه الإمام أبو داود في كتاب الصلاة باب فيمن قال ليلة إحدى وعشرين برقم (2831) والإمام النسائي في كتاب الصلاة باب ترك مسح الجبهة بعد التسليم برقم (7531)، والإمام ابن ماجة في كتاب الصيام باب في ليلة القدر برقم (6671) مختصرًا.

شرح الحديث

الاعتكاف: هو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى بنية مخصوصة على صفة مخصوصة، وهو عبارة عن التفرغ للعبادة والتجرد لها من شواغل الدنيا وأعمالها، وتصفية القلب مراقبة لله تعالى، والانقطاع للعبادة.

وهو من أشرف الأعمال وأحبها إلى الله تعالى إذا كان عن إخلاص، فإذا انضم إليه الصوم ازداد المؤمن قربا من الله تعالى لما يحدثه الصوم ابتغاء وجه الله تعالى من طهارة القلوب وصفاء النفوس، ولذا كان أفضل الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان ليتعرض المؤمن لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

قال أبو عمر بن عبد البر: فما أجمع عليه العلماء من ذلك: أن الاعتكاف جائز الدهر كله (أي في كل وقت) إلا الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها، فإنها موضع اختلاف، لاختلافهم في جواز الاعتكاف بغير صوم، كما أجمعوا أن سنة الاعتكاف المندوب إليها شهر رمضان كله أو بعضه، وأجمعوا كذلك أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد، لقول الله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:781] ا.هـ الاستذكار (01/372).

ثم إن العلماء اختلفوا في المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، روى ذلك عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب، ومن حجتهما في ذلك: أن الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في مسجده، فكان القصد والإشارة إلى نوع ذلك المسجد مما بناه نبي، وكذلك استدل لهما بحديث “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد...”.

القول الثاني: لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة؛ لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد، قال ابن عبد البر: روى هذا القول عن علي بن أبي طالب وابن مسعود، وبه قال عروة بن الزبير والحكم بن عيينة وحماد والزهري أبو جعفر محمد بن علي.

القول الثالث: الاعتكاف في كل مسجد جائز، قال ابن عبد البر: روى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وإبراهيم النخعي وهمام بن الحارث وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي الأحوص والشعبي. ثم قال: وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والثوري وهو أحد قولي مالك، وبه يقول ابن علية، وداود والطبري. قال: وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد.

قال النووي في المجموع: ووجه الدلالة من الآية لاشتراط المسجد أنه لو صح الاعتكاف في غير المسجد لم يخص تحريم المباشرة بالاعتكاف في المسجد لأنها منافية للاعتكاف، فعلم أن المعنى بيان أن الاعتكاف إنما يكون في المساجد، وإذا ثبت جوازه في المساجد صح في كل مسجد، ولا يقبل تخصيص من خصصه ببعضها بلا دليل، ولم يصح في التخصيص شيء صريح.

الاعتكاف في المساجد الثلاثة

من نذر الاعتكاف في أحد المساجد الثلاثة (المسجد الحرام ـ ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ـ والمسجد الأقصى) لم يجزئه في غيرها، وذلك لفضل العبادة فيها على غيرها فتتعين بالتعيين، وله شد الرحال إلى المسجد الذي عينه من الثلاثة. وأما من نذر أن يعتكف أو يصلي في مسجد معين من غير الثلاثة، فإنه يجزئه الاعتكاف أو الصلاة في أي مسجد، ولا يلزمه أن يعتكف أو يصلي في المسجد الذي عينه.

ما يشترط للاعتكاف

قال العلماء: يشترط للاعتكاف: الإسلام والعقل والبلوغ أو التمييز، وكونه في المسجد ونية الاعتكاف، وهذه الشروط متفق عليها، والصوم والطهارة من الجنابة والحيض والنفاس، وإذن الزوج لزوجته.

ويستحب للمعتكف التشاغل على قدر الاستطاعة ليلا ونهارًا بالصلاة وتلاوة القرآن والاستغفار وسائر أنواع العبادات.

ما يفسد الاعتكاف

ويفسد الاعتكاف بالجماع، والحيض والنفاس، كما يفسد بالخروج من المسجد بغير عذر شرعي، والأعذار المبيحة لخروج المعتكف من المسجد هي: الخروج لصلاة الجمعة، ولحاجة طبيعية كالبول والغائط، ولضرورة كانهدام المسجد، كما يفسد الاعتكاف بذهاب العقل بجنون أو سكر.

ما يباح للمعتكف

1 ـ خروجه لتوديع أهله إذا زاروه في معتكفه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من معتكفه ليقلب صفية بنت حيي رضي الله عنها عند ما زارته في معتكفه. [الحديث بطوله في البخاري ومسلم وأبي داود]

2 ـ ترجيل شعره وحلق رأسه وتقليم أظفاره وتنظيف البدن، ولبس أحسن الثياب والتطيب بالطيب. كما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجله في حجرتها وهو في معتكفه (كان صلى الله عليه وسلم يدني لها رأسه فتغسله وترجل شعره وهي حائض وهو في معتكفه) كما في البخاري ومسلم.

وقت دخول المعتكف والخروج منه

الاعتكاف المطلق يدخل فيه المعتكف بحسب ما ينوي ويخرج منه عند انتهاء المدة، أما من نوى اعتكاف العشر الأواخر من رمضان فإنه يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين أو ليلة عشرين. ويخرج من معتكفه بعد غروب الشمس آخر يوم من رمضان، وقد استحب بعض العلماء ومنهم الإمام مالك بن أنس أن يخرج من معتكفه إلى صلاة العيد؛ ليصل عبادة بعبادة.

وقوله: “اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأول واعتكفنا معه” هكذا في هذه الرواية بزيادة العشر الأول، وفي أكثر الروايات بدأ بالعشر الأوسط، كما زيد في هذه الرواية أن جبريل أتاه في المرتين أي بعد العشر الأول، ثم بعد العشر الأوسط فقال له: “إن الذي تطلب أمامك”. أي قدامك. والعشر المراد بها الليالي وحقها أن توصف بمؤنث، لكنها وصفت بمذكر على إرادة الوقت أو الزمان، أو التقدير الثلث كأنه قال: الليالي التي هي الثلث الأول، والثلث الأوسط من الشهر، وفي رواية محمد بن إبراهيم: كان يجاوز، والمجاورة: المقصود بها الاعتكاف، وفي رواية لمسلم: “اعتكف العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تُبَانَ له، فلما انقضين أمر بالبناء فقوض، ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر فأمر بالبناء فأعيد”.

قوله: “فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا صبيحة عشرين من رمضان”. وفي رواية مالك في أبواب الاعتكاف: “حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه”. قال الحافظ في الفتح: وظاهره يخالف رواية الباب (أي روايتنا هذه) ومقتضاه أن خطبته وقعت في أول اليوم الحادي والعشرين، وعلى هذا يكون أول ليالي اعتكافه الأخير ليلة اثنتين وعشرين، وهو مغاير لقوله في آخر الحديث في رواية أخرى: “فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيح إحدى وعشرين” فإنه ظاهر في أن الخطبة كانت في صبيح اليوم العشرين، ووقوع المطر كان في ليلة إحدى وعشرين وهو الموافق لبقية الطرق، وعلى هذا فكأن قوله في رواية مالك المشار إليها: “وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها” أي من الصبح الذي قبلها، ويكون إضافة الصبح إليها تجوز، ويؤيد هذا التأويل ما جاء في رواية أخرى: “فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه” وهذا في غاية الإيضاح، كما يؤيده أيضا قوله صلى الله عليه وسلم : “من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر” لأنه لا يتم ذلك إلا بإدخال الليلة الأولى. والله أعلم.

قوله: “فإني أريت ليلة القدر”: أُريتُ بضم أوله على البناء للمفعول، وهي من رأى العلمية القلبية أي أُعْلِمْتُ بها، أو من الرؤية البصرية، أي أُرِيَ علامتها فعرفها.

قوله: “وإني نسيتها”: أي نَسِيها هو صلى الله عليه وسلم من غير واسطة، وفي روايةٌ “أُنْسِيتُها” وفي أخرى “نُسِّيتها” وهي بمعنى “أنسيتها” أي أنساه غيره إياها. ولقد بين حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في الصحيح قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: “خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلانٌ وفلانٌ فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة”.

قوله: “وإنها في العشر الأواخر في وتر”: وفي روياة أخرى: “فابتغوها في العشر الأواخر، وابتغوها في كل وتر”، وفي رواية ثالثة: “فالتمسوها” وذلك يفيد البحث والتحري عنها في العشر الأواخر وأنها في أوتار العشر الأواخر. وفي حديث ابن عباس: “التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى”. قال الحافظ في الفتح: وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافا كثيرًا، وتحصل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولا، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة يوم الجمعة، وقد اشتركنا في إخفاء كل منهما ليقع الجد في طلبهما، ثم قال بعد أن ساق سبعة وأربعين قولا: وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل كما يفهم من الأحاديث، وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين على ما في حديث أبي سعيد وعبد الله بن أنيس، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين، وقد تقدمت أدلة ذلك، قال العلماء: الحكمة في إخفائها ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها كما تقدم نحوه في ساعة الجمعة، واختلفوا: ألها علامة تظهر لمن وفق لها أم لا؟ فقيل: يرى كل شيء ساجدًا، وقيل: الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة، وقيل: يسمع سلاما أو خطابا من الملائكة، وقيل: علامتها استجابة دعاء من وفق لها. واختار الطبري أن جميع ذلك غير لازم.

قوله: “وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء” وفي رواية الكشميهني “أن أسجد” أي رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه (ورؤيا الأنبياء حق) رأى أنه يسجد في ماء وطين.

قوله: “قزعة” بفتح القاف والزاي أي قطعة رقيقة من سحاب.

قوله: “فَأُفْطِرْنَا” وفي رواية “فَمَطَرَت” بفتح الميم والطاء، وفي رواية “فاستهلت السماء فَأَمْطَرَت”. حتى سال سقف المسجد وفي رواية “فوكف المسجد” أي نزل الماء من سقفه.

قوله: “فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرنبته تصديق رؤياهُ”. أي صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة الذين كانوا معه صبيح اليوم الحادي والعشرين وقد نزل المطر فسجد صلوات الله وسلامه عليه في الطين فيقول أبو سعيد رضي الله عنه حتى رأيت أثر الطين على جبهة رسول الله وأرنبته أي أرنبة أنفه والأرنبة الجزء الأعلى من الأنف. وقول أبي سعيد رضي الله عنه: “تصديق رؤياه” أي أن أبا سعيد رأى أثر الطين على حبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنفه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمسح أثر الطين الذي على وجهه، بل أبقاه حتى يراه الناس، ولذلك لتصديق رؤياه، ولاشك أن ذلك من أعلام نبوته صلوات الله وسلامه عليه.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها، وذلك واضح من الأحاديث التي تضمنت ذلك ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيي ليله وأيقظ أهله”. أي أنه صلى الله عليه وسلم كان يسهر الليل فيحييه بالطاعة ويحيي بنفسه بسهره فيه لأن النوم أخو الموْت. وقوله: “أيقظ أهله” أي للصلاة، وقد روى الترمذي من حديث زينب بنت أم سلمة “لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام بدع أحدًا من أهله يطيق القيام إلا أقامه”، وهذا يشعر باهتمام النبي عليه الصلاة والسلام بالعبادة والاجتهاد فيها ولا سيما في العشر الأواخر، بل كان يوقظ أهله ويقيمهم حتى يجتهدوا في العبادة، وذلك كله ليتحروا جميعا ليلة القدر ويلتمسوها لعلهم يوافقونها أو يوفقون لها فيغتنمون فضلها؛ ذلك الفضل المبين في قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:3-5]، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان:3]، وكذلك ورد في فضلها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من صام رمضان إيمانا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”، وتحري هذه الليلة في الوتر من العشر الأواخر عبادة كما بوب به الإمام البخاري في صحيحه، وقد قال الحافظ في الفتح: في هذه الترجمة إشارة إلى رجحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان ثم في العشر الأخير منه ثم في أوتاره لا في ليلة معينة منه بعينها، وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها.

علامات ليلة القدر

قال الحافظ في الفتح: وقد ورد لليلة القدر علامات أكثرها لا تُطهر إلا بعد أن تمضي، منها في صحيح مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها”، وفي رواية أحمد من حديثه: “مثل الطست” ونحوه لأحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه وزاد: “صافية” ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما نحوه، ولابن خزيمة من حديثه مرفوعا: “ليلة القدر طلقة لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة”، ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعا: “إنها صافية بلجة كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة صاحية لا حر فيها ولا برد، ولا يحل لكوكب يرمي به فيها، ومن أماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ”. قال: ولابن أبي حاتم من طريق الضحاك: “يقبل الله التوبة فيها من كل تائب، وتفتح فيها أبواب السماء، وهي من غروب الشمس إلى طلوعها”.

وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم:

1 ـ حرص النبي صلى الله عليه وسلم على العبادة وتحري ليلة القدر.

2 ـ اجتهاده صلوات الله وسلامه عليه من أول رمضان واعتكافه العشر الأول لالتماس ليلة القدر.

3 ـ شده حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم ومتابعتهم له، فإنهم قد اعتكفوا معه من أول الشهر.

4 ـ سرعة استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه لما جاءه جبريل وأخبره أن الذي يطلب (وهو ليلة القدر) أمامه اعتكف العشر الأوسط ولم يسأل جبريل عن موعد ما أمامه ولكنه بادر باستئناف الاعتكاف.

5 ـ الصبر على الطاعة كان ديدن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأنه لما قال له جبريل: “إن الذي تطلب أمامك”، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن استأنف اعتكافه، ومعه الصحابة رضي الله عنهم.

6 ـ حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أمته الخير؛ وذلك يتمثل في قيامه خطيبا في أصحابه صبيحة اليوم العشرين ليبين لهم ما أخبره به جبريل من تحري ليلة القدر في العشر الأواخر.

7 ـ أن النسيان جائز في حقه صلى الله عليه وسلم ، ولا نقص عليه في ذلك لا سيما فيما لم يؤذن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحة شرعية كما في السهو في الصلاة.

8 ـ أن من الرؤيا ما يقع تعبيره مطابقا في الواقع لما رآه النائم.

9 ـ أن رؤيا الأنبياء حق، وأن الأحكام الشرعية ترتب عليها، بخلاف غيرهم.

10 ـ جواز السجود في الطين، وذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم .

11 ـ تواضع النبي صلى الله عليه وسلم ، وتحقيقه لعبودية ربه عز وجل.

12 ـ وقوع علامة من علامات النبوة ودلائلها، وذلك أن السماء لم يكن فيها سحاب عندما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن جاءت قزعة أي قطعة من السحاب فأمطرت فصدقت رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

إلى غير ذلك من الفوائد الجمة والعلم الغزير الذي يؤخذ من مجموع روايات هذا الحديث الذي هو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم .

ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومن المسلمين جميعا الصيام والقيام والاعتكاف، وأن يوفقنا لقيام ليلة القدر، وأن يجعل كل أعمالنا إيمانا واحتسابا، وأن يخلص له سبحانه أعمالنا وأقوالنا وتروكنا وصمتنا، وأن يثبت قلوبنا على الحق وعلى الصراط المستقيم حتى نلقاه وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

عدد المشاهدات 10901