صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته

2012-07-17

زكريا حسينى

الحمد لله رب العالمين مولج الليل في النهار ومولج النهار في الليل، يقلب الليل والنهار، بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على نبي الهدى محمد بن عبد الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان، فقال: (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له). [متفق عليه: البخاري 1906، ومسلم: 1080].

2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِيَ عليكم فأكملوا عدة شبعان ثلاثين). [متفق عليه: البخاري: 1909، ومسلم: 1081].

3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكلموا العدة ثلاثين). [متفق عليه: البخاري: 1907، ومسلم: 1080].

4- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين، ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً). [رواه أحمد والنسائي والترمذي بمعناه، وصححه].

وفي لفظ للنسائي: (فأكلموا العدة؛ عدة شعبان). وفي لفظ: (لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين، إلا أن يكون شيئًا يصومه أحدكم، ولا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حتى تروه، فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا). [رواه أبو داود].

5- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظه من غيره، يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عدَّ ثلاثين يومًا، ثم صام. [رواه أحمد وأبو داود والدارقطني، وقال: إسناده حسن صحيح].

6- عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة). [رواه أبو داود والنسائي].

الصوم برؤية الهلال

قال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد): (وكان من هدية صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل في صوم رمضان غلا برؤية محققة، أو بشهادة شاهد، كما صام بشهادة ابن عمر، وصام مرة بشهادة أعرابي، واعتمد على خبرهما، ولم يكلفهما لفظ الشهادة).

قُلْتُ: قال محقق (زاد المعاد) بخصوص صومه صلى الله عليه وسلم بشهادة ابن عمر: أخرج أبو داود في الصوم باب شهادة الواحد، والدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصامه وأمر الناس بصيامه. قال: وسنده قوي، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.

وقال عن شهادة الأعرابي: أخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وابن خزيمة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال، فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ أتشهد أن محمدًا رسول الله؟) قال: نعم، قال: (يا بلال، أذن في الناس أن يصوموا غدًا).

قال ابن القيم: فإن كان ذلك إخبارًا فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد، وإن كان شهادة فلم يكلف الشاهد لفظ الشهادة، فإن لم تكن رؤية ولا شهادة أكمل عدة شعبان ثلاثين يومًا.

وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيم أو سحاب، أكمل عدة شعبان ثلاثين يومًا، ثم صامه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الإغمام، ولا أمر به، بل أمر بأن تكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غُمَّ، وكان يفعل كذلك، فهذا فعله وهذا أمره، ولا يناقض هذا قولُه صلى الله عليه وسلم: (فإن غم عليكم فاقدروا له)، فإن القدر هو الحساب المقدر، والمراد به هو الإكمال؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (فأكملوا العدة)، إكمال عدة الشهر الذي غم، كما قال في الصحيح الذي رواه البخاري: (فأكلموا عدة شعبان). وقال: (لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة). والذي أمر بإكمال عدته هو الشهر الذي يُغَمَّ، وهو عند صيامه وعند الفطر منه، وأصرح من هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غُم عليكم فأكملوا العدة).

وهذا راجع إلى أول الشهر بلفظه وإلى آخره بمعناه، فلا يجوز إلغاء ما دل عليه لفظه، واعتبار ما دل عليه من جهة المعنى. وقال: (الشهر ثلاثون، والشهر تسعة وعشرون، فإن غُم عليكم فعدوا ثلاثين). وساق ابن القيم رحمه الله تعالى كثيرًا من النصوص في هذا المعنى، وهي تدل دلالة واضحة على اعتبار رؤية الهلال لدخول رمضان والخروج منه، وأن ما يفهمه البعض من قوله صلى الله عليه وسلم: (فاقدروا له) أنه العمل بالحساب الفلكي فهم غير مستقيم، وإنما النصوص يفسر بعضها بعضًا.

حكم صيام يوم الشك

قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرحه لهذه الأحاديث: وقد بوب البخاري لها بقوله: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الهلال فصُوموا)، قال: هذه الترجمة لفظ مسلم من رواية إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة، وقد سبق للمصنف في أول الصيام من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبيه بلفظ: (إذا رأيتموه). وذكر البخاري في الباب أحاديث تدل على نفي صوم يوم الشك رتبها ترتيبًا حسنًا، فصدرها بحديث عمار المصرح بعصيان من صامه- وقد علقه البخاري عقب الترجمة- ثم بحديث ابن عمر من وجهين؛ أحدهما بلفظ: (فإن غُم عليكم فاقدروا له). والآخر بلفظ: (فأكملوا العدة ثلاثين)، وقصد بذلك بيان المراد من قوله: (فاقدروا له)، ثم استظهر بحديث ابن عمر أيضًا: (الشهر هكذا وهكذا حبس الإبهام في الثالثة)، ثم ذكر شاهدًا من حديث أبي هريرة لحديث ابن عمر مصرحًا بأن عدة الثلاثين المأمور بها تكون من شعبان.

ثم قال ابن حجر رحمه الله: قوله: (فقد عصى أبا القاسم) استدل به على تحريم صوم يوم الشك؛ لأن الصحابي لا يقول ذلك من قِبل رأيه فيكون من قبيل المرفوع. قال ابن عبد البر: هو مسند عندهم لا يختلفون في ذلك. وخالفهم الجوهري المالكي فقال: هو موقوف. والجواب أنه موقوف لفظًا مرفوع حكمًا.

قال الطيبي: إنما أتى بالموصول ولم يقل يوم الشك مبالغة في أن صوم يوم فيه أدنى شك سبب لعصيان صاحب الشرع، فكيف بمن صام يومًا الشك فيه قائم ثابت، قال: وقوله: (أبا القاسم). قيل: فائدة تخصيص ذكر هذه الكنية الإشارة إلى أنه هو الذي يقسم بين عباد الله أحكامه زمانًا ومكانًا وغير ذلك.

وجوب الصوم بالرؤية

قال ابن حجر: قوله: (لا تصوموا حتى تروا الهلال) ظاهره إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت ليلاً أو نهارًا، لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل، وبعض العلماء فرق بين ما قبل الزوال أو بعده، وهو ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال، فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها، ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفي ذلك لمن تمسك به، لكن اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة وهو قوله: (فإن غم عليكم فاقدروا له). فاحتمل أن يكون المراد التفرقة بين حكم الصحو وحكم الغيم، فيكون التعليق على الرؤية متعلقًا بالصحو، وأما الغيم فله حكم آخر، ويحتمل أن يكون الثاني مؤكدًا للأول، وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة، وإلى الثاني ذهب الجمهور، فقالوا: المراد بقوله: (فاقدروا له) أي: انظروا في أول الشهر واحبسوا تمام الثلاثين، ويرجح هذا التأويل الروايات الأخر المصرحة بالمراد وهي ما تقدم من قوله: (فأكملوا العدة ثلاثين) ونحوها. وأولى ما فسر الحديث بالحديث.

هل يُصام بناء على الحساب؟

قال الحافظ ابن حجر: قوله: (فاقدروا له). تقدم أن للعلماء فيه تأويلين، وذهب آخرون إلى تأويل ثالث، قالوا: معناه فاقدروه بحساب المنازل، قاله أبو العباس بن سريج من الشافعية، ومطرف بن عبد الله من التابعين وابن قتيبةُ من المحدثين. قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأما ابن قتيبة فهو مما يعرج عليه في مثل هذا، قال: ونقل ابن خويز منداد عن الشافعي مسألة ابن سريج، والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور، ونقل ابن العربي عن ابن سريج أن قوله: (فاقدروا له) خطاب لمن خصصه الله بهذا العلم، وأن قوله: (فأكلموا العدة) خطاب للعامة، فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر، وعلى آخرين بحساب العدد، قال: وهذا بعيد عن النبلاء.

وقال ابن الصلاح: معرفة منازل القمر هي معرفة سير الأهلة، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد، قال: فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم، وهذا هو الذي أراه ابن سريج وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه، ونقل الروياني عنه أنه لم يقل بوجوب ذلك عليه، وإنما قال بجوازه، وهو اختيار القفال وأبي الطيب، وأما أبو إسحاق في (المهذب) فنقل عن ابن سريج لزوم الصوم في هذه الصورة، فتعددت الآراء في هذه المسألة بالنسبة إلى خصوص النظر في الحساب والمنازل:

أحدها: الجواز ولا يجزئ عن الفرض.

ثانيها: يجوز ويجزئ.

ثالثها: يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجم.

رابعها: يجوز لهما، ولغيرهما تقليد الحساب دون المنجم.

خامسها: يجوز لهما ولغيرهما مطلقًا.

وقال ابن الصباغ: أما الحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا.

قُلْتُ: ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك ؛ فقال في الإشراف: صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلا مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة. وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته، هكذا أطلق، ولم يفصل بين حاسب وغيره، فمن فرق بينهم كان محجوجًا بالإجماع قبله.

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز في (اختياراته الفقهية): لا عبرة شرعًا بمجرد ولادة القمر في إثبات الشهر القمري بدءًا وانتهاءً بإجماع أهل العلم المعتد بهم ما لم تثبت رؤيته شرعًا، وهذا بالنسبة لتوقيت العبادات، ومن خالف في ذلك من المعاصرين فمسبوق بإجماع من قبله، وقوله: مردود ؛ لأنه لا كلام لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مع إجماع السلف، أما حساب سير الشمس والقمر فلا يعتب رفي هذا المقام لما ذكرنا آنفًا ولما يآتي:

أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم لرؤية الهلال والإفطار لها في قوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، وحصر ذلك فيها بقوله: (لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه)، وأمر المسلمين إذا كان غيم ليلة الثلاثين أن يكملوا العدة، ولم يأمر بالرجوع إلى علماء النجوم، ولو كان قولهم هو الأصل وحده أو أصلاً آخر مع الرؤية في إثبات الشهر لبين ذلك، فلما لم ينقل ذلك، بل نقل ما يخالفه دَلَّ على أنه لا اعتبار شرعًا لما سوى الرؤية، أو إكمال العدة ثلاثين في إثبات الشهر، وأن هذا شرع مستمر إلى يوم القيامة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}.

ودعوى أن الروية في الحديث يراد بها العلم، أو غلبة الظن بوجود الهلال، أو إمكان رؤيته لا التعبد بنفس الرؤية بنفس الرؤية مردودة؛ لأن الرؤية في الحديث متعدية إلى مفعول واحد، فكانت بصرية لا علمية، ولأن الصحابة فهموا أنها رؤية بالعين، وهم أعلم باللغة ومقاصد الشريعة من غيرهم.

ب- أن تعليق إثبات الشهر القمري بالرؤية يتفق مع مقاصد الشريعة السمحة ؛ لأن رؤية الهلال أمرها عام يتيسر لأكثر الناس من الخاصة والعامة في الصحاري والبنيان، بخلاف ما لو علق الحكم بالحساب فإنه يحصل به الحرج ويتنافى في مقاصد الشريعة ؛ لأن أغلب الأمة لا يعرف الحساب.

ودعوى زوال وصف الأمية بعلم النجوم عن الأمة غير مسلمة، ولو سلمت فذلك لا يغير حكم الله تعالى؛ لأن التشريع عام للأمة في جميع الأزمنة.

جـ- أن علماء الأمة في صدر الإسلام أجمعوا على اعتبار الرؤية في إثبات الشهور القمرية دون الحساب، فلم يعرف أن أحدًا منهم رجع إلى الحساب في ذلك عند الغيم ونحوه، أما عند الصحو فمن باب أولى.

د- تقدير المدة التي يمكن معها رؤية الهلال بعد غروب الشمس لولا المانع من الأمور الاعتبارية الاجتهادية التي تختلف فيها أنظار أهل الحساب، وكذا تقدير المانع، فالاعتماد على ذلك في توقيت العبادات لا يحقق الوحدة المنشودة، ولهذا جاء الشرع باعتبار الرؤية فقط دون الحساب رحمة للأمة، وحسمًا لمادة الاختلاف، وردًا لهم إلى أمر يعرفونه جميعًا أينما كانوا.

هـ- لا يجوز لأحد أن يحتج على إبطال الرؤية بمجرد دعوى أصحاب المراصد أو بعضهم مخالفة الرؤية لحسابهم، كما لا يجوز لأحد أن يشترط لصحة الرؤية أن توافق ما يقوله أصحاب المراصد، لأن ذلك تشريع في الدين لم يأذن به الله.

و- لا يخفى على كل من له معرفة بأحوال الحاسبين من أهل الفلك، ما يقع بينهم من الاختلاف في كثير من الأحيان في إثبات ولاة الهلال أو عدمها، وفي إمكان رؤيته أو عدمه، ولو فرضنا اجتماعهم في وقت من الأوقات على ولادته أو عدم ولادته لم يكن إجماعهم حجة، لأنهم ليسوا معصومين بل يجوز عليهم الخطأ جميعًا، وإنما الإجماع المعصوم الذي يحتج به هو إجماع سلف الأمة في المسائل الشرعية.

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وكلها تبين للأمة أنه لا اعتبار في الشرع المطهر للحساب، ولا لضعف منازل القمر، ولا لكبر الأهلة وضعفها، ولا لرؤية الهلال قبل طلوع الشمس من اليوم التاسع والعشرين، سواءً كان منخفضًا أو مرتفعًا، وإنما الاعتبار شرعًا بالرؤية الشرعية بعد المغرب أو إكمال العدة.

اختلاف المطالع

قال الحافظ في الفتح: (قوله: فلا تصوموا حتى تروه) ليس المراد تعليق الصوم بالرؤية لكل أحد، بل المراد بذلك رؤية بعضهم وهو من يثبت به ذلك.

قال: وقد اختلف العلماء في المطالع على مذاهب:

أحدها: لكل أهل بلد رؤيتهم، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يشهد لذلك- ومراده بحديث ابن عباس الذي في مسلم هو: عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة. ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه يوم الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية. فقال: لكنا رأينه ليلة السبت. فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ في الفتح: وحكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وإسحاق، وحكاه الترمذي عن أهل العلم، ولم يحك سواه، وحكاه الماوردي وجهًا للشافعية.

ثانيها: مقابله وهو إذا رؤي ببلدة لزم أهل البلاد كلها، وهو المشهور عند المالكية، لكن حكى ابن عبد البر الإجماع على خلافه، وقال: أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلاد كخراسان والأندلس.

وقال ابن الماجشون: لا يلزمهم بالشهادة إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة، إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم ؛ لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في الجميع.

وقال بعض الشافعية: إن تقاربت البلاد كان الحكم واحدًا، وإن تباعدت فوجهان لا يجب عند الأكثر، واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب، وحكاه البغوي عن الشافعي.

ضابط البعد

وفي ضبط البعد أوجه:

أحدها: اختلاف المطالع، قطع به العراقيون والصيدلاني، وصححه النووي في الروضة وشرح المهذب.

ثانيها: مسافة القصر قطع به الإمام والبغوي. وصححه الرافعي في الصغير والنووي في شرح مسلم.

ثالثها: اختلاف الأقاليم.

رابعها: حكاه السرخي، فقال: يلزم كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض دون غيرهم.

خامسها: قول ابن الماجشون المتقدم، واستدل به على وجوب الصوم والفطر على من رأى الهلال وحده وإن لم يثبت بقوله. وهو قول الأئمة الأربعة ف يالصوم، واختلفوا في الفطر، فقال الشافعي: يفطر ويخفيه، وقال الأكثر: يستمر صائمًا احتياطًا.

توحيد الصوم

لا شك أن توحد المسلمين في صومهم كما يتوحدون في حجهم أمرٌ محبب للنفس يدعو إلى القوة والوحدة والألفة وعدم الاختلاف ونبذ الخلاف، ولكن إذا حدث واختلفت البلاد في الرؤية فقال الشيخ ابن باز رحمه الله: فعلى المسلمين في كل بلد أن يصوموا مع قادتهم درءًا للفتنة ودفعًا للخلاف.

وكذا قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، إلى أن ييسر الله للمسلمين توحدهم، فأرى أن على المسلمين في كل بلد أن يصوموا ويفطر مع مفتيهم، حسمًا لمادة الخلاف ومنعًا للنزاع.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يرد المسلمين إلى دينهم ردًا جميلاً، وأن يتقبل منا الصيام، والقيام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

عدد المشاهدات 14860