آية العظمة

2010-09-28

جمال المراكبى

الله سبحانه وتعالى هو العظيم، جلت عظمته عن الوصف، ولا فلا طريق لمعرفة الله والإقرار بعظمته وجلاله إلا بالنظر في آيات الله المتلوة والتدبر في معاني هذه الآيات، أو النظر في آيات الله الكونية والتأمل في عظيم صنع الله تعالى، وقد حثنا القرآن الكريم على الأمرين، فقال المولى تبارك وتعالى في تدبر آيات القرآن العظيم: [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] [محمد: 24]، [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] [ق: 37]، وقال سبحانه في الحث على التفكر في آيات الكون: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]  [آل عمران: 190، 191]، وقال: [وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ] [الذاريات: 20، 21].

ففي الأرض من الآيات الدالة على عظمة الخالق وقدرته الباهرة مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوان والجبال والقفار والأنهار والبحار، وما دق وما عظم من المخلوقات ما يدل على عظيم قدرة الله تعالى وبديع صنعه الذي تحار فيه العقول. وما في السماء من آيات أعظم مما في الأرض، فقد بناها الخلاق العظيم بقوة وأوسع خلقها، وبغير عمد رفعها وأقامها، وزينها بالنجوم والكواكب، حتى إن الناظر إليها بأعظم وسائل التقنية من تلسكوب أو أقمار صناعية ليحار من عظمتها وسعتها: [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ] [الذاريات: 47].

وإذا كان العلماء قد استطاعوا تقدير المسافة بين الأرض وبين القمر، وبين الأرض وبين الشمس، مستخدمين في ذلك سرعة الضوء كوحدة للقياس، فإنهم لا يزالون يعلنون عن عجزهم عن مجرد رؤية أبعاد السماء أو تصور سعتها، ولهذا يعبرون عنها بأنها فضاء لا نهائي. وقد اهتم أهل السنة بما يثير في النفوس كوامن التعظيم لله عز وجل، فكتبوا في ذلك وصنفوا، ويندر أن تجد كتابًا من كتب الاعتقاد على طريقة السلف الصالح إلا وتجد فيه أبوابًا في عظمة الله تعالى، وعظمة بعض مخلوقاته الدالة على عظمته سبحانه كالحديث عن الملائكة ومنهم حملة العرش ومن حوله، والحديث عن الكرسي والعرش وعظم خلقهما.

ومن علماء السلف من صنف في موضوع العظمة ذاته فكتبوا في دلائل عظمة الله تعالى في آياته المنظورة وآياته المتلوة المسموعة، ومن أشهر من كتب في موضوع العظمة أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر الأصبهاني المعروف بأبي الشيخ الأصبهاني المتوفى سنة 369هـ، ومن قبله أبو أحمد العسال المتوفى سنة 349هـ.

ومن الآيات القرآنية التي تثير في نفوس المؤمنين دلائل العظمة التي تليق بذي الجلال والإكرام آية الكرسي.

لذا وصفها النبي -صلي الله عليه وسلم- بأنها أعظم آية في كتاب الله عز وجل، وكل القرآن عظيم.

ففي الصحيح أن رسول -صلي الله عليه وسلم- سأل أبي بن كعب قائلاً: يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ فقال أبي بن كعب: الله ورسوله أعلم. فأعاد عليه النبي -صلي الله عليه وسلم- السؤال، فقال أبي: آية الكرسي: [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...]، فضرب النبي -صلي الله عليه وسلم- في صدره وقال: "ليهنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إن لها لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش". [مسلم (ح810)، وأحمد مسند الأنصار (20318)].

وهذه الآية الكريمة تتكون من خمسين كلمة في عشر جمل تضمنت التوحيد، فإنها جمعت أصول الأسماء الحسنى والصفات العليا من التفرد بالإلهية والوحدانية، ومن كمال الحياة والعلم والقيومية والملك والقدرة والإرادة، فدلت على توحيد الإلهية في قوله تعالى: [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ]، ودلت على توحيد الربوبية في قوله تعالى: [الْحَيُّ الْقَيُّومُ]، وفي قوله تعالى: [لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]، ودلت على توحيد الأسماء والصفات بما ورد فيها من أسماء وأوصاف لله عز وجل تدل على كماله وجلاله وعظمته، وقد ورد فيها اسم الله ما بين ظاهر ومضمر ثماني عشرة مرة، فالظاهر من الأسماء الحسنى في الآية الكريمة الله الحي القيوم العلي العظيم، وباقي الأسماء ورد في صيغة الضمير، ودلت على صفات الذات وصفات الفعل كالحي والقيوم، ودلت على صفات السلب- النفي- بمعنى نفي النقائص والعيوب عن الله عز وجل كما في قوله تعالى: [لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ]، وفي قوله تعالى: [وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا].

كما دلت على الصفات الثبوتية التي تثبت لله كل كمال كما في قوله: [الْحَيُّ الْقَيُّومُ]، [الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ]، وأثبتت لله تعالى الملك والقدرة والقوة والإحاطة والعلم والعلو والعظمة... إلخ.

وسميت هذه الآية آية الكرسي لأنه ورد فيها ذكر الكرسي وأنه وسع السماوات والأرض، فدل على أنه أعظم خلقًا من السماوات والأرض ومن الكون المنظور.

روى الترمذي في جامعه- باب فضائل القرآن (ح2884) حدثنا محمد بن إسماعيل- البخاري- قال حدثنا الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة في تفسير حديث عبد الله بن مسعود قال: ما خلق الله من سماءٍ ولا أرضٍ أعظم من آية الكرسي.

قال سفيان: لأن آية الكرسي هي كلام الله، وكلام الله أعظم من خلق الله ومن السماء والأرض.

قال في تحفة الأحوذي: فإنها جمعت أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والقيومية والملك والقدرة والإرادة، فهذه أصول الأسماء والصفات.

وعلق على كلام سفيان بقوله: وفي قول سفيان هذا نظر، فإنه يلزم على هذا أن لا تكون هذه الفضيلة مختصة بآية الكرسي، بل تعم كل آية من القرآن لأن كلا منها كلام الله تعالى.

قلت: وهو استدراك صحيح، فإن أية آيةٍ من القرآن من كلام الله تعالى، صفة من صفات الله تعالى، وصفةُ الله أعظم من كل مخلوق، فلا يكون هذا خاصًا بآية الكرسي.

والمعنى عندي والله أعلم أن المراد بآيةِ الكرسي في هذا الخبر ليس الآية من القرآن من سورة البقرة كما يتبادر إلى الذهن، وإنما المراد من آية الكرسي، الكرسي الذي خلقه الله تعالى دون العرش، وهو آية من آيات الله سبحانه في خلقه، وهو أعظم من السماء والأرض، كما في قوله تعالى: [وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ] [البقرة: 255

وفي الأثر: "ما السماوات السبع والأرضون في الكرسي إلا كحلقة في فلاة من الأرض".

والعرش أعظم من الكرسي.

[اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ] أي: لا معبود بحق سواه، وهو معنى كلمة التوحيد.

[الْحَيُّ الْقَيُّومُ] هذا نعت- وصف- لله تعالى يتضمن اسمين من أجل الأسماء الحسنى ورد في الحديث أنهما اسم الله الأعظم.

ورد اسم الحي مقرونًا بالقيوم في ثلاثة مواضع: البقرة- آل عمران- طه: [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ] [البقرة: 255، آل عمران: 2]، [وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ] [طه: 111]. وورد منفردًا في موضعين: [وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا] [الفرقان: 58]. [هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] [غافر: 65].

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس (2717) أن رسول الله كان يقول: "اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون". [حم 2612].

وفي "سنن الترمذي" (3524) عن أنس قال: كان النبي -صلي الله عليه وسلم- إذا كربه أمر قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث".

وفيه أيضًا: "من قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غُفر له وإن كان فر من الزحف". [(ت3577)].

ولما مات النبي -صلي الله عليه وسلم- قال الصديق رضي الله عنه: "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت".

[لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ]، وهذا لكمال حياته وقيوميته، وفي هذا المعنى

يقول النبي -صلي الله عليه وسلم- : "إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".

[لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]: خلقًا وملكًا وعبودية، فهو سبحانه المالك، وما سواه مملوك، وهو الخالق الرازق المدبر، وغيره مخلوق مرزوق لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولهذا قال سبحانه: [مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ]، فلا يملك الشفاعة إلا الله، ولا يشفع عنده أحد إلا من بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع فيه، فإذا أراد سبحانه أن يرحم من يشاء من عباده، أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه قال تعالى: [قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا]، وقال: [وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى]، وقال: [وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى] [النجم: 26].

[قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ] [سبأ: 22، 23]. [يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ] فهو سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، وبكل شيء محيط، وسع كل شيء علمًا، يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، أما الخلق فقد وصفهم الله سبحانه: [وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ]، فلا يطلعون على شيء من ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم عليه، ولا يحيطون به علمًا، ولا يعلمون من أمر الكون أو الشرع إلا بما أعلمهم الله عز وجل.

وعلم الخلائق جميعًا لا يساوي قطرة في بحر علم الله عز وجل كما قال الخضر لموسى عليهما السلام، ولهذا قال الله تعالى: [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً]. [وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ] هذه هي الآية التي لا تدانيها السماوات والأرض عظمة، مع أن الكرسي دون العرش، والعرش أعظم منه، ولقد صح عن النبي -صلي الله عليه وسلم-: "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقةٍ ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة". [السلسلة الصحيحة (حديث رقم109)].

قال الشيخ الألباني رحمه الله: والحديث خرج مخرج التفسير لقوله تعالى: [وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ]، وهو صريح في كون الكرسي أعظم المخلوقات بعد العرش، وأنه جرم قائم بنفسه وليس شيئًا معنويًا، ففيه رد على من يتأوله بمعنى الملك وسعة السلطان. اهـ. [وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ]، فالله سبحانه هو الحي القيوم، لايثقله ولا يُتعبه حفظ السماوات والأرض وما فيهن، وهو القائم بتدبير هذه المخلوقات على عظمتها، وهو القائم على كل نفس بما كسبت الرقيب على كل شيء، والأشياء كلها محتاجة إليه وهو الغني الحميد الفعَّال لما يريد، وهو القاهر لكل شيء وهو العلي العظيم الكبير المتعال، وحملة العرش بين يديه يسبحونه ويمجدونه، كما قال تعالى: [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] [غافر: 7- 9].

مع أن الواحد من هؤلاء الملائكة أعظم خلقًا من السماء والأرض، كما قال النبي -صلي الله عليه وسلم-: "أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام".

فسبحان من هذا ملكه، ومن هذا تدبيره، ومن هؤلاء خلقه وعبيده، ومن جلت عظمته عما يشرك به المشركون، ويصفه به الجاحدون: [سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ].

عدد المشاهدات 10421