الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فمنذ أخرج الله آدم من الجنة، والإنسان في سعي دائم وبحث مستمر عن هذه الجنة.
لقد أُخرج آدم من الجنة بسبب ذنب واحد، لتتعلم الذرية أن المعاصي والذنوب تحول بين الإنسان وبين ما يؤمله ويرجوه من الخير، لقد خرج آدم من الجنة وأُهبط إلى الأرض على وعد وأمل أن يعود إليها بعد أن تاب الله عليه وأسكنه دار البلاء والاختبار إلى حين.
قال الله تعالى: [وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (36) فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (37) قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون] [البقرة: 35- 39].
ولا شك أن آدم كان يحن إلى الجنة ويتشوق إليها، فتلقى منهج الهداية وعض عليه بالنواجد ودعا إليه ذريته، ولكن الشيطان قعد لهم على الصراط المستقيم، فأضل منهم خلقًا كثيرًا.
قال الله تعالى:[ قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين] [الحجرات: 39- 40]، [فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم (16) ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ] [الأعراف: 16- 17]
وكل إنسان فيه ذرة من أبيه آدم، فهو يحن إلى المنزل الذي عرفه أبوه ويتشوق إليه.
ولكن بعض الناس ينسون هذا كله ويعرضون عن منهج الهداية ويعتقدون أنهم يستطيعون تحقيق هذه الأمنية على الأرض، فكان حلم الفلاسفة بالمدينة الفاضلة، وأحلام الماديين بتحقيق الرفاهية، ولا شك أن الإنسان قد وصل في تقدمه إلى تحقيق ما لم يكن يحلم به من الرفاهية ولكنه مع ذلك ظل متطلعًا إلى المزيد، ولا يجد راحة ولا سعادة في هذه الحياة الدنيا.
والإنسان في منهجه هذا يتغافل عن حقائق هامة؛ فالجنة من صنع الله الخلاق العظيم، وليست من صنع الإنسان، والجنة هدف لا يمكن الوصول إليه إلا بسلوك طريق واحد واضح المعالم هو عبادة الله وحده لا شريك له وفق ما شرع. والدنيا دار بلاء واختبار، لذا فهي ليست جنة، ولا يمكن أن تكون جنة.
قال تعالى: [إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (7) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا] [الكهف]، [الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور] [الملك: 2].
الدنيا متاع قليل زائل، فنعيم الدنيا زينة غير دائمة وقد كتب الله عليها الفناء، ومع هذا يغتر بها أكثر الناس، قال تعالى: [أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل] [التوبة].
وقال تعالى: [إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون (24) والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم] [يونس: 24- 25].
وقال تعالى: [واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا (45) المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ][الكهف: 45- 46].
فالحياة الدنيا وزينتها وما فيها من النعيم لا تعدو أن تكون إلا مرحلة تنتهي بالزوال والفناء كزرع نما واستوى ثم زال وانتهى وأصبح هشيمًا تذروه الرباح.
قال تعالى: [اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور] [الحديد: 20].
ولهذا أمرنا ربنا أن نسابق إلى ما يضمن لنا حياة السعادة والنعيم المقيم، فقال سبحانه:[ سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم] [الحديد: 21].
لقد جعل الله نعيم الدنيا زينة وشهوة ولكنه رغب فيما هو أبقى، وقال تعالى: [زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد] [آل عمران: 14- 15].
ذكر البخاري أن عمر كان إذا قرأ هذه الآية يقول: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه.[ذكره البخاري في كتاب الرقاق معلقًا]
ووصله الدارقطني في غرائب مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر أُتي بمال من المشرق يقال له نفل كسرى، فأمر به فصُب وغُطي ثم دعا الناس فاجتمعوا، ثم أمر به فكشف عنه، فإذا حليٌ كثير وجوهر ومتاع، فبكى عمر وحمد الله عز وجل. فقالوا له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ هذه غنائم غنمها الله لنا، ونزعها من أهلها. فقال: ما فتح من هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم واستحلوا حرمتهم.
ثم قال: اللهم إنك قلت: زين للناس حب الشهوات فتلا الآية حتى فرغ منها ثم قال: اللهم لا نستطيع إلا أن نحب ما زينت لنا، اللهم فقني شره، وارزقني أن أنفقه في حقه، فما قام حتى ما بقي منه شيء.
ونعيم الدنيا لا يُشْبِعُ، فالإنسان يتطلع فيها دائمًا إلى المزيد قال رسول اللَّه صلي الله عليه وسلم : "لو أن لابن آدم واديًا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولا يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب". [البخاري كتاب الرقاق]
فالإنسان إذا لم يستغن بالله، فلن يغنيه نعيم الدنيا وإن حازه بل يشعر بالهم ويرى الفقر ملازمًا له كما روي في الأثر: "من كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه، جمع الله عليه شمله وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".
ونعيم الدنيا لا يصفو، فكله تعب وكدر، لا يرى الإنسان فيها راحة، فالغني والفقير، والملك والسوقة، والطائع والعاصي، كل يرى الدنيا دار تعب ونصب وكدر.
وصدق حافظ المغرب ابن عبد البر إذ يقول:
من ذا الذي قد نال راحة فكره
في عمره من عسره أو يسره
يلق الغني لحفظه ما قد حوى
أضعاف ما يلقى الفقير لفقره
فيظل هذا ساخطًا في قله
ويظل هذا تاعبًا في كُره
عم البلاء لكل شمل فرقة
يرمي بها في يومه أو شهره
والجن مثل الإنس يجري فيهمُ
حكم الفضاء بحلوه وبمره
ونبي صدق لا يزال مكذبا
يُرمى بباطل قولهم وبسحره
ومحقق في دينه لم يخل من
ضدٍ يواجهه بتهمة كفره
والعالم المفتي يظل منازعًا
بالمشكلات لدى مجالس ذكره
والويل إن زَلَّ اللسان فلا يرى
أحدٌ يساعد في إقامة عذره
أو ما ترى الملك العزيز بجنده
رهن الهموم على جلالة قدره
فيسره خبرٌ وفي أعقابه
شر تضيق به جوانب مصره
وأخو العبادة دهره متنغص
يبغي التخلص من مخاوف قبره
وأخو التجارة حائر متفكر
مما يلاقي من خسارة سعره
وأبو العيال أبو الهموم وحسرة
الرجل العقيم كمينة في صدره
وكل قرين مُضمر لقرينه
حسدًا وحقدًا في غناه وفقره
ولرُب طالب راحةِ في نومه
جاءته أحلامٌ فهام بأمره
والطفل في بطن أمه يخرج إلى
غصص الفطام تروعه في صغره
والوحش يأتيه الردى في بره
والحوت يأتي حتفه في بحره
ولقد حسدت الطير في أوكارها
فوجدتُ منها ما يُصاد بوكره
كيف التلذذ في الحياة بعيش من
لا زال وهو قُروعٌ في أسره
والله لو عاش الفتى في أهله
ألفًا من الأعوام مالك أمره
متنعمًا معهم بكل لذيذةٍ
متلذذًا بالعيش طيلة عمره
لا يعتريه النقص في أحواله
كلا ولا تجري الهموم بفكره
وما كان ذلك كله مما يفي
بنزول أول ليلة في قبره
كيف التخلص يا أخي مما ترى
صبرًا على حلو القضاء ومره(1)
إن نعيم الدنيا لا يقارن بنعيم أعده الله للمؤمنين في الجنة "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، "ينادي منادٍ إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبئسوا أبدًا". فذلك قوله سبحانه وتعالى وتقدس: [ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون] [رواه مسلم].
فانظر رحمك الله إلى حالك، هل أنت من أبناء الدنيا أم من أبناء الآخرة، واعلم أن حديثي هذا لا يعني ترك الدنيا وإعمارها، ولا يعني الزهد فيها على طريقة أهل البدع، وإنما أن تكون الآخرة في قلوب المؤمنين، ولا يغتروا بما في الدنيا من نعيم زائل وفتنة وشهوة.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل. [ذكره البخاري معلقًا في كتاب الرقاق من صحيحه]
والحمد لله رب العالمين
---------------------------
(1) وقفت على هذه القصيدة في لقاء مع الشاعر الكبير الرويشد حفظه الله تعالى بالملحقية الثقافية السعودية .