من فضائل الصوم

2010-09-27

جمال المراكبى

الحمد لله رب العالمين، جعل الصيام جُنَّة وخصص للصائمين بابًا في الجنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وبعد:

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللَّه صلي الله عليه وسلم : "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحدٌ أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم ، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، للصائم فرحتان يفرحهما؛ إذا أفطر فرح ، وإذا لقي ربه فرح بصومه".

الصيام جُنَّة

أي وقاية وسترة، وقد ورد في كثير من الروايات ما يفيد أنه وقاية من النار، مثل: "الصيام جُنة وحصن حصين من النار". رواه أحمد، وعنه: "الصيام جُنة ما لم يخرقها". زاد الدرامي : "يخرقها بالغيبة". قال القرطبي: الصيام جنة بحسب مشروعيته ، فينبغي للصائم أن يصونه مما يفسده وينقص ثوابه وإليه الإشارة بقوله : "فلا يرفث ولا يجهل" ، ويصح أن يقال هو سترة بحسب فائدته وهو إضعاف شهوات النفس وإليه الإشارة بقوله : "يدع شهوته من أجلي". وفي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول اللَّه صلي الله عليه وسلم : "من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا" أي سبعين عامًا ، وهذا يبين كيف أن الصوم جنة من النار .

وفي زيادة الدرامي عن أبي عبيدة : "يخرقها بالغيبة" إشارة إلى أن الغيبة تضر بالصيام ، وقد حكي عن عائشة ، وبه قال الأوزاعي: إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء اليوم .

وأفرط ابن حزم فقال: يبطله كل معصية من تعمد لها ذاكرًا لصومه سواء كانت فعلاً أو قولاً لعموم قوله: "فلا يرفث ولا يجهل". وعبارة ابن حزم : ويبطل الصوم تعمد كل معصية إذا فعلها عمدًا ذاكرًا لصومه كمباشرة من لا يحل له من أنثى أو ذكر أو إتيان في دبر امرأته أو أمته أو كذب أو غيبة أو نميمة أو تعمد ترك الصلاة أو ظلم أو غير ذلك مما حرم فعله ، وبرهان ذلك قوله صلي الله عليه وسلم : "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". وما روي أن النبي صلي الله عليه وسلم أتى على امرأتين صائمتين تغتابان الناس ، فقال لهما : قيئا فقاءتا قيحًا ودمًا ولحمًا عبيطًا ، ثم قال صلي الله عليه وسلم : "إن هاتين صامتا عن الحلال وأفطرتا على الحرام".

ويؤيد هذا ما روي عن بعض السلف الصالح، فعن عمر رضي الله عنه : "ليس الصيام من الشراب والطعام وحده ولكنه من الكذب والباطل واللغو". وعن علي رضي الله عنه مثل ذلك .

وعن جابر رضي الله عنه : "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم ودع أذى الخادم وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء". وعن أبي ذر رضي الله عنه: "إذا صمت فتحفظ ما استطعت". وكان طليق بن قيس إذا كان يوم صيامه دخل فلم يخرج إلا إلى صلاة، وكان أبو هريرة وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد وقالوا: نطهر صيامنا.

فهؤلاء من الصحابة يرون بطلان الصوم بالمعاصي لأنهم خصوا الصوم باجتنابها وإن كانت حرامًا على المفطر أيضًا، فلو كان الصيام تامًا بها ما كان لتخصيصهم الصوم بالنهي عنها معنى ولا يُعرَف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم.

عن ميمون بن مهران: "إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب". وعن النخعي : "كانوا يقولون : الكذب يفطر الصائم".

وقد روى الدارمي مثله عن أبي عبيدة رضي الله عنه ، فمن تعمد شيئًا من هذه المعاصي ذاكرًا لصومه بطل صومه، وقال البعض : إنما يبطل أجره لا صومه .

والحق أن كل عمل أحبط الله أجر عامله، فإنه تعالى لم يحتسب له بذلك العمل شيئًا، وهذا البطلان بعينه . اه بتصرف "المحلى" (ج6 ص177) وما بعدها .

وخلاصة كلام ابن حزم أن المتلبس بالطاعة لا يحل له أن يتلبس في نفس الوقت بالمعصية فإذا تعمد فعل المعصية بطلت الطاعة ولك أن تتصور إنسان يصلي ويقترف أثناء صلاته معصية عمدًا كسرقة أو نظر إلى محرم أو غيبة أو نميمة ... إلخ هل تصح صلاته وكذلك معتكف في مسجد أو محرم في حج أو عمرة يتعمد أن يفعل مثل هذه المعصية فهل تصح طاعته.

إذا كانت الطاعة لا تصح إذا تعمد فيها فعل المعصية فإن هذا يتضح في الصوم أكثر من غيره من الطاعات.

وهنا نتساءل: ما حكم الذي يصوم ولا يصلي؟ إنه يتعمد ترك الصلاة عالمًا بالحكم ذاكرًا لصومه ، قد اقترف كبيرة من الكبائر كالزنى وغيره ، وهذه الكبيرة كافية لإبطال صومه.

وفي قول النبي صلي الله عليه وسلم جُنّة - أي من النار - بيان لفضل الصوم على سائر العبادات والطاعات.

قال ابن عبد البر : كفى الصوم فضلاً أن يكون جنة من النار وكفى الصوم فضلاً أن يقول الله فيه : "فإنه لي"، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم لأبي أمامة : عليك بالصوم فإنه لا مثل له ، وفي رواية : لا عِدل له . رواه النسائي بسند صحيح .

وتكمن فضيلة الصوم في أنه امتناع عن المباحات والحلال بعكس سائر العبادات والأوامر والنواهي التي تتضمن فعل المباح والحلال واجتناب المحرمات .

فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل : إني صائم. أي لا يجاريه في سبابه وقتاله وفحشه لأنه قد حرم عليه فعل القبائح فلا يرفث ولا يجهل حتى وإن جُهل عليه بل يتذكر دائمًا أن صومه أفضل عنده من كل شيء ، فلا يدفع عن نفسه السباب والقتال بمثله وإنما يُذكر نفسه ويُذكر خصمه بربه ، وبصومه فيقول : إني صائم .

وقد اختلف العلماء هل يرددها في نفسه أم يتكلم بها يُسمع بها خصمه والراجح أنه يقولها في نفسه إن كان صومه تطوعًا خوفًا من الرياء- ويقولها بلسانه يزجر بها خصمه إن كان صومه فرضًا ، وزعم ابن عبد البر أن الخلاف في التطوع دون الفرض لأنه في الفرض يقولها بلسانه بلا خلاف .

خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك:

الخلوف بضم الخاء واللام وهو الصحيح وينطقها الكثيرون بفتح الخاء وهو خطأ ، نص على ذلك عياض والخطابي والنووي وحكى القابسي الوجهين.

واتفقوا على أنه تغير رائحة فم الصائم بسبب الصيام ومعلوم أن هذه الرائحة تكون مكروهة عند الآدميين ولكنها عند الله أطيب من ريح المسك عند بني آدم ، وهي عند الملائكة أيضًا أطيب من ريح المسك عند بني آدم وذهب البعض إلى أن رائحة الخلوف أكثر ثوابًا من المسك المندوب إليه في الجمع ومجالس الذكر ، ورجحه النووي ، وذهب آخرون إلى أن رائحة الخلوف تكون يوم القيامة أفضل من ريح المسك، فالله تعالى يجزي الصائم في الآخرة فتكون نكهته أطيب من ريح المسك كما يأتي الشهيد وريح جرحه تفوح مسكًا يوم القيامة ، ويؤيد ذلك ما جاء في رواية مسلم وأحمد والنسائي: "أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك" . وذهب غيرهم إلى أن ذلك في الدنيا كابن الصلاح ، وطيب رائحة فم الصائم دليل على رضا الله عنه وثناؤه عليه ، وأصل أفضلية الخلوف ثابت في الدنيا والآخرة بالنصوص ويترتب على الخلاف السابق وهو كَوْن الخلوف في الدنيا أو في الآخرة - خلاف آخر بين العلماء حول استعمال السواك بعد الزوال للصائم، فأباحه البعض وكرهه الآخرون لأنه يزيل رائحة الخلوف.

قال النووي : واحتج أصحابنا بهذا الحديث على كراهة السواك للصائم بعد الزوال لأنه يزيل رائحة الخلوف التي هي صفته وفضيلته وإن كان السواك فيه فضل أيضًا إلا أن فضيلة الخلوف أعظم ، وقالوا : كما أن دم الشهداء مشهود له بالطيب ويترك له غسل الشهيد مع أن غسل الميت واجب فإذا ترك الواجب للمحافظة على بقاء الدم المشهود له بالطيب فترك السواك الذي ليس بواجب للمحافظة على بقاء الخلوف المشهود له بذلك أولى .

"يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي" . وفي رواية الموطأ : "إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه" . ولم يصرح بنسبته إلى الله للعلم به .

وقد روى أحمد هذا الحديث من طريق مالك أيضًا ، وجاء في آخره : يقول الله عز وجل : "إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي". ورواه البخاري في الرواية الثانية ، وفي أوله: "قال الله : كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".

في قوله : "إنما يذر طعامه وشرابه وشهوته من أجلي" تنبيه على الجهة التي بها يستحق الصائم ذلك الفضل وهو الإخلاص ، فمن يترك طعامه وشرابه طلبًا للصحة لما يفعل الكثير اليوم "الريجيم" أو لفقر وقلة حاجة ، وغير ذلك لا يكون صائمًا لله ولا تحصل له فضيلة الصوم وثوابه، لذلك قال الله سبحانه وتعالى "من أجلي" ليحرص العبد على تحصيل الإخلاص من صومه فيكون تركه للطعام والشراب والشهوة مع وجود الداعي إليها والرغبة فيها لأجل الله عز وجل وطلبًا لمثوبته .

ومن هنا استنبط العلماء أن الذي جاهد نفسه وشهوته أثناء صومه أفضل من الذي لم يتعرض لهذه الشهوات أصلاً ، فعلى قدر المشقة وجهاد النفس يكون الأجر ، فصوم المتيقظ الذي يجاهد شهواته أفضل من صوم النائم وإن كان صوم هذا الأخير صحيحًا أيضًا .

"كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به". اختلف العلماء في ذلك ، أليست كل الأعمال - الطاعات - لله تعالى وهو يجزي بها؟ فلم اختص الصيام بذلك ؟

1- اختص الله تعالى الصيام بذلك لأنه لا يقع فيه الرياء كغيره من الأعمال وأعمال البر كلها لله وهو الذي يجزي بها وهو إنما اختص الصوم بذلك لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب ، ويؤيد ذلك ما روي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : "ليس في الصوم رياء".

قال القرطبي : لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه ، فجميع أفعال العباد يمكن دخول الرياء فيها ، وقلما تسلم منه ، فأضيفت إليهم بخلاف الصوم فهو إمساك وامتناع وحال الممسك شبعًا مثل حال الممسك تقربًا لا يميز ذلك إلا الله عز وجل .

وإذا كان الرياء لا يدخل الصوم بمجرد فعله فإنه قد يدخله بالقول، لذلك استحب البعض للصائم تطوعًا ألا يتلفظ بلسانه بقوله: "إني صائم" كما بيناه من قبل.

2- وقد يراد بقول الله: "الصيام لي وأنا أجزي به". أي : أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس ، فالأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإن الله يثيب عليه بغير حساب ، قال تعالى : إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ، والصابرون : هم الصائمون ، والصوم هو الصبر في أكثر الأقوال، فثواب الصوم لا يعلمه إلا الله ، وهذا واضح من قوله : "كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" . والكريم إذا قال : أنا أتولى الإعطاء بنفسي كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء .

ولكن يضعف هذا الوجه قول النبي صلي الله عليه وسلم: "من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا". ولكن قد يكون الإبعاد - عن النار سبعين خريفًا هو أحد وجهي الثواب أما الوجه الآخر للثواب وهو الإعطاء فلا يعلمه ولا يقدره إلا الله.

الصوم من أحب العبادات إلى الله تعالى

ويستفاد من قوله تعالى : "الصوم لي" أنه أحب العبادات إلى الله وقد تقدم الحديث : "عليك بالصوم فإنه لا عدل له أو لا مثل له"، وتقدم قول ابن عبد البر : كفى بقوله الصوم لي فضلاً على سائر العبادات ولكن يعكر على ذلك قول النبي صلي الله عليه وسلم : "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة" .

ولا يغيب أن إضافة الصوم إلى الله فيها من التشريف والتعظيم كما يقال عن المسجد الحرام بيت الله وإن كانت المساجد كلها بيوت لله.

وقول الله : "الصوم لي" لأن العبد الصائم يتقرب إلى الله تعالى بصفة من صفات الملائكة - لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون ، وكذلك بصفة من صفات الله تعالى فهو تعالى لا يحتاج لأكل أو نحوه بل هو قيوم السماوات والأرض ليس كمثله شيء .

وسبب إضافة الصيام إلى الله أنه لم يُعبد به غير الله تعالى، وكل إله باطل يتقرب إليه عابدوه بالصلاة والقرابين وغير ذلك ، ولكن لا يتقربون إليه إلا أمامه وبحضرته ولا يتقربون إليه بصوم.

وللصوم خصوصية أخرى أن جميع العبادات تُوَفَّى منها مظالم العباد إلا الصيام. قال سفيان بن عيينة : إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله حتى لا يبقى له إلا الصوم فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله الجنة بالصوم، ولكن يعكر على ذلك حديث : أتدرون من المفلس ؟ ففيه أن الصوم كغيره من العبادات والطاعات يؤدي منها مظالم العباد.

قال ابن حجر : إن ثبت قول ابن عيينة أمكن تخصيص الصيام من ذلك .

وأخيرًا فالصيام قد لا يظهر فتكتبه الحفظة كما تكتب سائر الأعمال، لذا قال الله : "الصوم لي وأنا أجزي به".

واتفق العلماء على أن المراد بالصوم هنا هو الصوم الصحيح السالم من المعاصي قولاً وفعلاً.

للصائم فرحتان: "إذا أفطر فرح" أي: بزوال تعبه وجوعه وعطشه وبتمام عبادته، "وإذا لقي ربه فرح بصومه" أي: لما يجده من ثواب عند الله.

الريان للصائمين: وقد اختص الله الصائمين بباب من أبواب الجنة هو الريان، قال صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه غيرهم يقال: أين الصائمون ؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد".

فهلم - أيها المسلم الكريم - إلى باب الصلاة وباب الصيام وباب الصدقة وباب الجهاد وغيرها من الأبواب قد فتحها الله في رمضان وغلق أبواب النار وصفد مردة الشياطين، فليس لك من عذر.

ويا من اتبعت غير سبيل المؤمنين فليس لك إلا النار ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا وبَعُدَ عن الله من أدرك رمضان ولم يغفر له.

عدد المشاهدات 11014