- تكلمنا في هذه السلسلة عن الدولة الإسلامية . تلك التي تقوم على الدين الإسلامي الخاتم تطبيقاً وتنفيذاً وحكماً، ودعوة وإرشاداً وجهاداً ، وبينا خصائص هذه الدولة . وكونها دولة شرعية عقدية ، ثم ذكرنا أسس ودعائم الحكم فيها ، وهو الحكم الإسلامي القائم على الشرعية الربانية الخالدة ، التي ترسى مبادئ العدل والمساواة ، وتكفل حقوق الأفراد وحرياتهم وترسى مبدأ الشورى في الحكم وفى الحياة كلها " لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ " ( الشورى 36 – 39 ) والتي تقيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أسس متينة قوامها الطاعة في المعروف ، والمناصحة ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهى العلاقة التي تفرز خير أمة أخرجت للناس ، يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ، دينهم النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .
- وقد تعرضنا لمقارنة هذا النظام بالأنظمة المعاصرة التي لا يعرف البشر غيرها في هذا الزمان ، وأمطنا عن هذا النظام رجس الديمقراطية والدكتاتورية المستبدة والثيوقراطية المتألهة ، حتى تزول عن أعيننا هذه الغشاوة التي تحجب عنا ضياءه ، وتتركنا في الظلمات تائهين " وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ".
- هذا النظام الذي نتحدث عنه هو الذي حكم المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وزمن خلفائه الراشدين المهديين ، ولا نجاة لنا إلا بالعض عليه بالنواجذ " إنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة " (1) .
هذا النظام هو خلافة النبوة في إمامة الأمة وإذا كان القرآن الكريم قد وصف الأنبياء والهداة المتقين بأنهم أئمة يهدون بأمر الله، فلعل إطلاق اسم الإمامة على نظام الحكم الإسلامي يتضمن الإشارة إلى أن هذا النظام نظام هداية ورشاد.
إن لفظ الإمامة يعنى الاقتداء والاتباع الواجب على الأمة للإمام القائد الذي يمسك بزمام الأمور ، فهو إمام الصلاة وإمام الحجيج وإمام الدعوة وإمام الجهاد .
ولفظ الخلافة يعنى حلول الإمام – الخليفة – محل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيادة الأمة، إنه يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في كل مهامه ما عدا تلقى الوحي الذي هو من خصائص النبوة.
إن بين اللفظين صلة وثيقة ، إنهما يرميان في الاصطلاح الشرعي إلى معنى واحد هو :
قيادة الأمة الإسلامية بشرع الله تعالى تأسياً واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخلافة عنه ، أو بمعنى آخر : خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا .
- وواضح من هذا التعريف أن هناك أموراً هامة تميز هذا النظام عن غيره من الأنظمة، من هذه الأمور :
1. عموم الولاية، وفى هذا العموم إشارة إلى وحدة الخلافة فهي ولاية عامة على المسلمين وغيرهم في ديار الإسلام.
2. عموم الغاية ، فغاية الخلافة حفظ الدين – حراسة الدين – وسياسة الدنيا به
3. القيام في مقام صاحب الشرع – النبي صلى الله عليه وسلم – في قيادة الأمة بهذا الشرع ، لأنه خلافة نبوة .
4. تنفيذ وتطبيق أحكام الشرع الإسلامي الصالح لكل زمان ومكان والذي يصلح فساد كل زمان ومكان، فهو نظام يحكم بشرع الله ويُحكم به، ولا يجوز الخروج عنه بحال.
وعلى هذا فالخلافة هي الحكومة الإسلامية الشرعية التي تكون الشريعة الإسلامية دستورها وقوانينها، والتي يخضع لسلطانها كل المسلمين على الإقليم الإسلامي الكبير.
والخلافة التي نعنيها هي الخلافة الراشدة ، خلافة النبوة التي عرفها المسلمون لفترة قصيرة ، ثم انقلبوا عليها فصارت ملكاً عضوضاً ، ثم ملكاً جبرياً ، ونحن على وعد لن يتخلف تعود فيه خلافة النبوة ، كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً جبرياُ فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة " (2) .
ولا نعنى بغياب الخلافة الراشدة أن يغيب الإسلام من حياة المسلمين ، أو أن يتخلى عن مهمته في حكم المسلمين فهذا ما لا يقول به أحد ، بل علمنا الإسلام كيف نتعامل مع الملك العضوض ، أو مع الملك الجبري ، بصورة لا تسمح بغياب الإسلام عن واقع المسلمين ، ومن هنا كانت أحاديث الفتن ، والتي تنبأ فيها النبي صلى الله عليه وسلم بما يصيب الأمة من ضعف ووهن ، وكانت أحاديث المناصحة ، والطاعة في غير معصية ، والصبر على ظلم الظالم كوسيلة لتحجيم هذا الظالم ، والسيطرة عليه ، وعدم الخروج الذي يفتح باب الفتنة ما لم يظهر الكفر البواح – هي الأصل في التعامل مع الواقع الذي يعيشه المسلمون منذ غابت الخلافة الراشدة .
وإذا غابت الخلافة الراشدة ، فكل نظام يحكم المسلمين بعدها فهو ناقص ، ولهذا كانت خلافة الملك خلافة ناقصة ، يقبلها المسلمون حين يعجزون عن تحقيق الخلافة الراشدة ، وهذا يكون لنقص في الراعي ونقص في الرعية أيضاً . فإنه كما تكونون يُولى عليكم.
وقد استفاض وتقرر ما قد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من طاعة الأمراء في غير معصية ، ومناصحتهم ، والصبر على جورهم ونحو ذلك من متابعتهم في الحسنات التي لا يقوم بها غيرهم فإنه من باب التعاون على البر والتقوى ، وما نهى عنه من تصديقهم بكذبهم وإعانتهم على ظلمهم ، وطاعتهم في معصية الله ونحو ذلك مما هو من باب التعاون على الإثم والعدوان وهذا هو سبيل التعايش مع نظام ناقص يسعى المسلمون لتغييره ، أو قل : لتكميله ، حتى نضع الأمور في نصابها ، ونستقيم على منهاج العدل والحق .
سأل عمر بن الخطاب: أمَلِكٌ أنا أم خليفة ؟ فقالوا له: إن الخليفة لا يأخذ إلا حقاُ، ولا يضعه إلا في حق، فإن أخذت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة.
والله يهدى إلى سواء السبيل .
والله المستعان وعليه التكلان .
والله من وراء القصد .
---------------------------
(1) صحيح . أخرجه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه وغيرهم من حديث العرباض بن سارية رضى الله عنه، وانظر تقريب التدمرية ( ص 9- 10 ) .
(2) حسن . أخرجه الطيالسى وأحمد والبزار وغيرهم من حديث حذيفة مرفوعاً ، ولبعضه شواهد ، وانظر الصحيحة ( رقم 5 ، 460 ) ، والسنة لابن أبى عاصم ( رقم 1181 ، 1052 ) .