ثانيا : كفالة الحقوق والحريات
وإذا كانت الأنظمة المتقدمة في عالم اليوم قد اهتمت بهذا الأساس ، بدءاً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وانتهاءً بإنشاء المنظمات ، بل والمحاكم التي تعنى بحقوق الإنسان ، فإن الشريعة الإسلامية ومنذ أربعة عشر قرناً، قد بلغت فى ذلك إلى الحد الذي اعتبرت معه هذه الحقوق بمثابة ضرورات وواجبات لا ينبغي التفريط فيها بحال .
وإذا كانت دول العالم الثالث ، ومنها بلاد المسلمين تعانى من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان ، فإن ذلك يرجع إلى بعد هذه البلاد عن التطبيق الأمثل لشريعة الله عز وجل .
(1) المساواة:
لقد قررت الشريعة الإسلامية المساواة بين بنى الإنسان ، فلم تعترف بفروق مصطنعة على أساس الجنس أو اللون أو اللغة فالناس فى أصل الخلقة سواء " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً " . ( النساء: 1 ).
إن الأساس الذي يتفاضل به الناس عند خالقهم هو التقوى وهو أمر قلبي لا يعرف حقيقته إلا رب العالمين " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " . ( الحجرات: 13 ).
وفى حجة الوداع يقول النبى صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربى فضل على عجمى ، ولا لعجمى فضل على عربى ، ولا لأحمر فضل على أبيض ، ولا لأبيض فضل على أحمر إلا بالتقوى . ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد " (1) .
ويربى الإسلام في الإنسان هذا المبدأ وينميه ، ويحوله إلى واقع عملي ، ففي الصلاة يصطف الناس خلف إمامهم بلا تمايز ، وفى الصوم يمتنع الجميع عن الطعام والشراب طوال النهار ، ويجتمعون عليه في وقت واحد ، وفى الحج يلتقي المسلمون وقد نزعوا ثيابهم وزينتهم ، ولبسوا جميعاً ثياباً أشبه ما تكون بأكفان الموتى ، فلا تمايز بينهم وكلهم فى هذا الموقف سواء.
المساواة أمام القانون :
والمساواة أمام أحكام الشريعة أصل من أصول الإسلام يتساوى فيه الحاكم والمحكوم، والشريف والوضيع. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " (2) .
وتسوى الشريعة بين الولاة والرعية ، وقد كان عمر يحذر ولاته من أن تأخذهم نشوة السلطة فتنسيهم هذا الأصل وكان يخطب الناس فيقول : أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم ، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم ، وليقسموا فيئكم بينكم ، فمن فُعل به غير ذلك فليقم ، من ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علىّ ، ليرفعها إلىّ حتى أقصه منه ، فيقول أحد الولاة : أرأيت إن أدب أميرٌ رجلاً من رعيته ، أتقصه منه ؟
فيقول عمر : وما لى لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه (3) .
المساواة أمام القضاء :
والمساواة أمام القضاء من المظاهر التي لم تعرفها كثير من دول العالم على النحو الذي عرفه المسلمون الأوائل حين التزموا شريعة الله ، وقد تخاصم أمير المؤمنين علىّ مع رجل من أهل الذمة إلى شريح القاضي ، فقضى للذمي على أمير المؤمنين ، وهذا في زمن فتنة وحرب أهلية تبيح للحاكم فرض حالة الطوارئ وقوانين الضرورة في أرقى دول العالم اليوم (4) .
المساواة بين المسلم والذمى :
وتقرر الشريعة الإسلامية المساواة بين المسلم والذمي إلا فيما يتعلق بأمر العقيدة والعبادة.
قال على بن أبى طالب : إنما قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا ، ودماؤهم كدمائنا .
والأصل الفقهى أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا .
المساواة بين الرجل والمرأة :
وتسوى الشريعة بين الرجل والمرأة ، ولكنها لا تغفل أن لكل منهما دوره ووظيفته ، فالمرأة مكلفة بكل أركان الإيمان والإسلام ، وبكل أحكام الشرع وآدابه وأخلاقه إلا ما استثنى كترك الصلاة والصوم حال الحيض ، وعدم وجوب الجهاد على المرأة ، وكذلك أحكام العدة والنفقة وغير ذلك . والنظام الإسلامي يجعل للمرأة وظيفتها كما أن للرجل وظيفته ولكن الوظيفة الرئيسية للمرأة تتعلق ببيتها وأولادها ، وليس معنى هذا أن عمل المرأة خارج البيت حرام ، فللمرأة أن تعمل بشرط مراعاة الآداب والأخلاق والضوابط الشرعية في تعاملها مع غير محارمها ، وليس العمل خارج البيت بضرورة بالنسبة للمرأة لما لها من حق النفقة والكفالة على الرجل ، ولما يؤدى من نتائج سلبية سيئة تنعكس على الأسرة وعلى المجتمع .
والإسلام يصون المرأة عن كل ما يؤذيها ويشينها ، ولهذا فقد منع النبي صلى الله عليه وسلم المرأة من كل عمل يؤدى إلى تبذلها وينافى ما يجب لها من صيانة وستر ، فقال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " (5) .
وأجمع أهل العلم على أن المرأة لا تلي منصب الخلافة والرئاسة وذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز توليها القضاء .
(2) العدالة :
والعدالة من الأسس التي عليها عمار الكون وصلاح العباد ، لذا حث عليها الإسلام فى شتى المواطن حتى مع العدو ، وفى زمن الفتنة " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ " ( النساء : 58 ) .
" فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا " ( الحجرات : 9 ) .
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " ( المائدة : 8 ) .
والنبى صلى الله عليه وسلم يرسى دعائم العدل قولاً وعملاً " والمقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ، هم الذين يعدلون فى حكمهم وأهلهم وما ولوا " (6) .
" وإن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل " ( 7 ).
وحين دخل عبد الله بن رواحة على يهود خيبر ليخرص عليهم ثمارهم ، عرضوا عليه الرشوة ، فقال لهم : لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلىّ ، ولأنتم أبغض إلىّ من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم . قالوا : بهذا قامت السماوات والأرض . (8) .
وتقوم فلسفة الإسلام على أن فساد الرعية لا ينصلح إلا بالعدل ، وشريعة الله تعالى هي العدل المطلق ، والإمام العادل هو الذي يتبع أمر الله تعالى بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط .
شكى بعض الولاة إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز سوء حال رعيته ، وسأله : آخذ الناس بالظنة وأضربهم على التهمة ، أو آخذهم بالبينة وما جرت عليه السنة ؟ فكتب إليه عمر : خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله .
يقول الوالى : ففعلت ، فصارت من أصلح البلاد وأقلها سرقة (9) .
والعدالة فى الإسلام تعم العدل الاجتماعي والتكافل الاجتماعي ولهذا جعل الله تعالى فريضة الزكاة حقاً للفقراء ولبنة فى بناء العدل الاجتماعي ، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم يجعل بيت المال – خزانة الدولة – وارثاً لمن لا وارث له وعائلاً لكل فقير أو ضعيف .
" من ترك مالاً فلورثته ، ومن ترك ضياعاً فإلىّ وعلىّ " (10) حتى إن بيت المال ليقوم بسداد ديون المدينين ، وتجهيز الفنادق لاستضافة المسافرين فى عهد عمر بن عبد العزيز (11) .
(3) كفالة الحقوق والحريات :
قال تعالى : " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ " ( الإسراء : 70 )
ولاشك أن الحرية والمساواة هي أعظم تكريم لهذا الإنسان ولقد جعل الله تعالى حرية الإرادة مناطاً للتكليف ، فمن سُلبت إرادته سقط عنه التكليف وأصبح عالة على غيره .
وقد كفل الشرع للإنسان حريته كاملة ولكنه ضبطها بمجموعة من الضوابط حتى لا تصطدم حريات الأفراد بعضهم ببعض ، ولا يطغى بعضهم على بعض ويستعبد بعضهم بعضاً وحتى لا يسير الإنسان وراء شهواته ونزواته فتنحط ذاته ويفقد أساس كرامته وتفضيله على سائر المخلوقات .
الحرية الدينية:
وهى كون الشخص أهلاً لإبرام العقود والتصرفات ، وهى ما تعرف بالأهلية ، أهلية الوجوب وأهلية الأداء .
أما أهلية الوجوب وهى التى تجعل الشخص صالحاً للتملك فقد قررها الشرع لكل إنسان بغير قيد ، حتى الجنين فى بطن أمه جعل له نوعاً من هذه الأهلية .
أما أهلية الأداء ، وهى كون الشخص أهلاً للتصرف فى ماله فهى مكفولة لكل أحد ، إلا من ساء تصرفه فكان وبالاً على نفسه وعلى المجتمع كالسفية والمجنون فقد قرر الشرع ضوابط لحمايته " وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا .. " الآية ( النساء : 5 ) .
ولا يفرق الشرع بين الناس على أساس الدين أو الجنس، بل المسلم وغيره سواء، والرجل والمرأة في ذلك سواء.
الحرية الدينية :
يكفل الشرع الإسلامي حرية الاعتقاد " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ " ( البقرة: 256 )
" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ " . ( يونس: 99 ).
فالإسلام لا يعرف الإكراه ولا يعترف به، بل يرفع معه التكليف، والدعوة إلى الله لا تكون إلا بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولكن حين يقوم كبراء الناس ليصدوا عن سبيل الله ويمنعوا من وصول الدعوة إلى غيرهم فهنا يتعين على المسلمين جهادهم " فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ " ( التوبة: 12 ).
لقد راسل النبى صلى الله عليه وسلم الملوك ودعاهم إلى الإسلام فلم يستجب أكثرهم ، أما من استجاب منهم فلم يطلب منه أن يجبر الناس على دخول الإسلام ، بل كل المطلوب منه أن يتحرك الإسلام كعقيدة يتحاور مع غيره من العقائد ، والغلبة دائماً للحق ، وأما من أعرض وأبى فلم يقاتل إلا حين منع الدعوة وصد عن سبيل الله .
وبهذا الفهم نجد أن المسلمين الأوائل لم يفكروا فى لحظة أن يفتحوا بلاد الحبشة كما فتحوا بلاد الفرس والروم رغم أن سكان الحبشة لم يدخلوا جميعاً فى الإسلام ، وكذلك اليمن ، وذلك لأن طريق الدعوة مفتوح ، ولهذا كانت وصية النبى صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن " إنك تأتى قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً فإن هم أطاعوا لذلك . وفى رواية – فإذا عرفوا الله – فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات .." الحديث (12) .
ودلالة الحديث واضحة، فإن هم أطاعوا، أما إذا لم يطيعوا فالأصل الثابت " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ".
ولو كان الإكراه جائزا أو معمولاً به ، لما وجدنا لغير المسلمين وجود في بلاد المسلمين ، فالواقع خير شاهد على نفى الإكراه وقد كان لعمر بن الخطاب غلاماً نصرانياً ، فكان عمر يعرض عليه الإسلام فيأبى ، فيقول عمر " لا إكراه في الدين " .
وليس معنى الحرية هنا أن يتمرد المسلم على دينه وشريعته ولهذا جعل الإسلام للارتداد حداً شرعياً " من بدل دينه فاقتلوه " (13) .
الحرية الفكرية:
الإسلام دين يحترم العقل ويدعو إلى التأمل والتدبر، ويحذر من عاقبة التقليد الأعمى.
" أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ " ( ق: 6 ).
" وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ " ( البقرة : 170 ) .
وحرية الفكر مكفولة ما لم تتصادم مع نصوص الشرع ، لأن في ذلك تطاول عقلي وقول على الله بغير علم .
" وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ " ( الإسراء: 36 ).
وفى المناظرات الفقهية التي تزخر بها كتب الفقه والتاريخ خير شاهد على مدى تمتع الأفراد بحرية الفكر والرأي والتعبير، وإذا كانت بعض فترات التاريخ الإسلامي لا تشهد لذلك، فالعيب ليس في شريعة الله بل في بعد المسلمين عن هذه الشريعة.
أما عن الحرية السياسية وحق الفرد في المشاركة في الأمور العامة فسوف نتناوله تفصيلاً في الحديث عن الشورى والمناصحة .
وإلى لقاء آخر.
---------------------------
(1) أحمد 5/441 – ورجاله رجال الصحيح – مجمع الزوائد ج3 ص 269 صحيح .
(2) البخارى – كتاب الحدود – حديث رقم 6787 .
(3) ابن سعد – الطبقات الكبرى – المجلد الثالث – القسم الأول ص 201 وإسناده صحيح .
(4) البداية والنهاية ج8 ص5 – وتاريخ الخلفاء ص 172 .
(5) البخارى ك المغازى ح رقم 4425 ، وشرح السنة ج10 ص 76-77 .
(6) مسلم ك الإمارة ح رقم 1827 ، شرح السنة ج10 ص 63 .
(7) ضعيف : الترمذى ك الأحكام 1329 وشرح السنة ج10 ص 65 وفى سنده عطية العوفى وهو ضعيف .
(8) أبو داود ح رقم 3410 . وابن ماجه ح رقم 1820 ، وإسناده حسن .
(9) السيوطى – تاريخ الخلفاء ص 221 .
(10) متفق عليه .
(11) تاريخ الرسل والملوك للطبرى ج6 ص 567 .
(12) متفق عليه .
(13) متفق عليه .