الدولة الإسلامية والمدنية (الحلقة الثانية )

2010-09-16

جمال المراكبى

1- الإسلام دين ودولة حقيقة لا شك فيها ، ومن يدعى غير ذلك فإنما يخبط في عماية خبط عشواء .

وكثيراً ما قالوا : إننا لا نعترف بالإسلام كدولة لأننا لا نريد دولة دينية تتحكم في رقاب العباد استناداً إلى فكرة الحق الإلهي المقدس ، بل نريد دولة مدنية نملك فيها مساءلة الحاكم ومحاسبته وتغييره إن أساء فما مدى صحة هذا الكلام ، وهل السلطة في دولة الإسلام دينية أم مدنية .

2- إن اصطلاح الدولة الدينية عند أغلب المعاصرين اصطلاح غربي مأخوذ عن الاصطلاح الفرنسي المشهور " الدولة الثيوقراطية " .

والترجمة المعتبرة لهذا الاصطلاح هي " الدولة التي ينسب مصدر السلطة فيها إلى الله " بمعنى أن يدعى حاكم أنه هو الله ، كما كان في مصر القديمة ، وفى اليابان حتى أواسط هذا القرن ، أو يدعى الحاكم أنه ينوب عن الله إما بتفويض مباشر أو غير مباشر .

وفى مثل هذه الدولة لا يسأل الحاكم عما يفعل، لأن إرادته وحكمه إنما هو تعبير عن إرادة الله وحكمه.

3- وواضح هنا أنه لا علاقة لهذه الدولة بالدين الصحيح المنزل لهداية الناس ، وإنما ترتبط هذه النظرية بالمعتقدات الفاسدة والوثنيات القديمة ، حتى ولو كان رجال الدين المسيحي قد أقروها في العصور الوسطى . وهنا ينبغي أن نتساءل :

4- هل الدولة الإسلامية دولة ثيوقراطية ؟ هل الحاكم في الدولة الإسلامية يحكم بوصفه إلهاً ، أو بتفويض من الله ؟ إن مؤسس هذه الدولة كان نبياً رسولاً يأتيه الوحي من السماء ، ومع ذلك فهو حريص على إبراز حقيقة هامة " قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ " ( فصلت : 6 ) إنه بشر يأكل الطعام ويمشى في الأسواق ، وكونه يتلقى وحى السماء لا يعنى أن إرادته وحكمه هي القانون الذي لا يرد ، وإنما يعنى أنه فقط مبلغ عن الله .

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد فيما لا نص فيه وكان يصيب ويخطئ ، فينزل الوحي مؤيداً أو معقباً ومصححاً . بل كان يسارع إلى الرجوع إلى الحق، حتى أنه يعترف بالخبرات الإنسانية فيقول " أنتم أعلم بأمور دنياكم " (1).

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطبق القانون على نفسه ويلتزم به لأنه أعلم الناس بربه، وأشدهم له خشية. فيعرض بدنه للقصاص، ويعرض أهله للقصاص ويقول: " والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " (2).

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي ، صارت شريعة الله الخالدة هي الحكم ، تحكم بين الناس حكاماً ومحكومين ولم تحدد الشريعة طريقاً معيناً لاختيار الحاكم ، وإنما تركت ذلك لجماعة المسلمين ، فهي التي تختار الحاكم وهى التي تراقبه وتحاسبه إن جار .

ومن ثم ظن البعض أن السلطة في الدولة الإسلامية سلطة مدنية زمنية ، ورتبوا على ذلك نتيجة هامة وهى أن الأمة هي مصدر السلطات في الدولة الإسلامية لأن الحاكم ينوب عنها ويحكم باسمها .

5- والحقيقة أن محاولة تطبيق النظريات والمصطلحات الغربية على الدولة الإسلامية ينشأ عنه خلل في الفهم والتصور ، وخلل في الحكم والنتيجة .

فالذين يرفضون تطبيق الشريعة يقولون لا نريدها دولة دينية ثيوقراطية ، فيرد عليهم البعض بأن السلطة في الدولة الإسلامية مدنية وليست دينية ، فيرون عليهم من مقالتهم : وطالما أنها مدنية فالشعب هو الذي يحكم ويقرر فكيف تلزمونه بأحكام وتشريعات وحدود مضى عليها أكثر من ألف عام ؟!!

6- والحقيقة أن الدولة الإسلامية هي الدولة المسلمة التي تدين بالإسلام وبه تحكم وإليه تدعو ، فهي دولة دينية وليست ثيوقراطية تحكم وفق نظرية الحق الإلهي ، وإنما تدين دين الحق " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ " .

وهى دولة عقدية نشأت بناء على تعاقد حقيقي تم بين مجموع أفرادها وبين قائدها ومؤسسها كما بينا فى المرة السابقة وتطور هذا التعاقد فأخذ صورة البيعة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على مبايعة كل عضو جديد يشارك في بناء الدولة وتطورت البيعة فصارت أصلاً في نقل وتداول السلطة في الدولة الإسلامية بصورة قريبة من صورة الانتخاب في العصر الحديث .

وهى دولة شرعية يخضع فيها الحاكم والمحكوم لأحكام الشرع ويترتب على ذلك نتائج هامة ربما نفصلها فيما بعد منها على سبيل المثال :

(1) وجوب التزام منهج الشورى.

(2) إرساء دعائم الحق والعدل والمساواة وكفالة الحقوق والحريات التي كفلتها شريعة الإسلام.

(3) وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية الله .

(4) التزام منهج المناصحة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الإطار المحدد شرعاً.

وأخيراً فهي دولة عقائدية تقوم على أساس عقائدي هو توحيد الله عز وجل والتزام شريعته.

إن الدولة الإسلامية لا تسعى إلى مجرد تحقيق رفاهية الفرد والمجتمع فحسب بل تسعى إلى تحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.

وعلى الله قصد السبيل ، وهو المستعان .

---------------------------

(1) أخرجه مسلم ك الفضائل ب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي حديث رقم 2363.

(2) متفق عليه.

عدد المشاهدات 11040