الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه وبعد :
فإن الله جلت قدرته جعل المؤسسات التربوية التي يعهد إليها بتربية الإنسان في منهج الإسلام تتمثل في مؤسستين اثنتين هما: الأسرة، والمسجد.
وقد جعل سبحانه الأسس التي تبنى عليها الأسرة أسسًا فطرية ، والأسس التي يبنى عليها المسجد أسسًا شرعية ، وأيما مسلم نقل معه من المسجد الأسس الشرعية إلى البيت سعد وأسعد البيت ، بل سعد به البيت ، وأيما عبد لم ينقل أسس المساجد الشرعية إلى البيت فإنه لا يرى السعادة ، بل يشقى ، ويشقى به البيت الذي يحيا فيه .
وبيان ذلك أن الأسس الفطرية هي التي يشترك فيها المؤمن والكافر ، والأسس الشرعية هي التي بعث الله بها رسله وأنزل بها كتبه ؛ أي تلك الأعمال التي يُثاب عليها فاعلها من الله سبحانه .
فالأسرة تتكون من زوج وزوجة ، ثم يصبحا أبًا وأمًّا لأبناء وحفدة ، فالرجل عندما يكبر ولده ويبلغ مبلغ الرجال لا يرى غرابة ولا غضاضة في أن يطلب منه أن يختار له فتاة يتزوجها ، بل قد يكون الأب هو الذي يبدأ في العرض عليه إذا وجده متشاغلاً أو خجلاً ، بل ويستغرب منه التأخر في طلبه هذا ، وكذلك الفتاة عندما تبلغ مبلغ النساء لا يتعجب الرجل ولا تتعجب زوجه من أن خاطبًا طرق بابهم يريد الزواج من ابنتهم ؛ ذلك لأن هذا كله من الأمور الفطرية التي فطر الله الخلق عليها : ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [ الروم : 30] .
وتلك الأسس الفطرية فيها الميل الفطري من الرجل للمرأة ، ومن المرأة للرجل لم يأت بها الشرع إنما جاء الشرع بترويضها ، فأمر الرجال والنساء بغض الأبصار ، وبيّن أن ذلك هو طريق حفظ الفروج : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) [النور : 30]، وكذلك : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ ) [ النور : 31] .
وأمر كذلك المرأة بالحجاب ، ونهاها عن التعطر إذا خرجت من البيت ، ونهاها عن الخضوع بالقول ، حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض ، كأن الشرع جاء بالتدابير الواقية التي يحمي بها العبد من نفسه التي بين جنبيه أن تزين له السوء ، ومن الشيطان الذي ينزغ في شهوته ، ثم أمر بالزواج تحصينًا للفرج وغضًّا للبصر وتكوينًا للأسرة وبناءً لها .
بل إن الله سبحانه فطر الأم والأب على حب الأبناء ، لذا فإنه لم يوص بالإحسان إليهم كما أوصى بالإحسان إلى الوالدين ؛ لأن حب الولد فطري وحب الوالد شرعي ، فإذا أنفق الرجل على ولده أو سهر عليه فهذه أمور فطرية ، والأم في ذلك أكثر ، تلك بعض الأسس الفطرية التي بنى الله عليها الأسرة .
أما المساجد فكل أسسها شرعية ؛ فاتجاه القبلة في بناء المسجد : ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) [ البقرة : 144] ، والدخول إليها يسبقه الوضوء : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ) [المائدة : 6] ، بل والدخول إليها بالرجل اليمني والخروج منها باليسرى ، والداخل لا يجلس حتى يركع ركعتين ، وينادى على الناس للصلاة في أوقات خمس معلومة ، وللصلاة هيئة وعدد ركعات معلومة .
ويوم الجمعة ينادى على الناس للصلاة ، فيحرم عليهم الاشتغال بالبيع والتجارة ، وسكوت المصلين عند الخطبة شرعي ، والاستماع والإنصات للإمام إذا قرأ في الصلاة فرض لازم لكل المأمومين .
فهذه لمحة لبيان الأسس الفطرية للبيت ، والشرعية للمسجد ، فإذا جاء الرجل إلى المسجد تعلم طريق الجنة في مرضاة رب العالمين ، بأداء الأمانات التي عليه ، فيعرف أمانة الزوجة والولد ، ويعرف أن الرفق بهم مهمة شرعية جاء بها الشرع الشريف ، ويتعلم آداب معاملة الزوجة وآداب تربية الولد ، فإذا رجع إلى بيته عمل ذلك وامتثله فأسعد بدخوله البيت كله زوجة وولدًا ، عالمًا أنه ينال من الله سبحانه الأجر على الرفق بالزوجة ، والإحسان إلى الولد، فالزوجة تسعد ، والله يأجر ، والولد يسعد ، والله يأجر ، فسبحان الله رزقنا الحسنات ليسعد الخلق .
فإذا سألت الزوجة عن أفعاله وأخلاقه، أخبرها الزوج أن ذلك كله تعلمه في المسجد، فإذا رأت سعادتها في وصايا المسجد أحبت المسجد قبل أن تعرفه، فإذا أرادت أن تدخل المسجد تداركها الشرع بحديث: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) .
وبحديث: ( إذا استأذنكم النساء إلى المساجد فلا تمنعوهن ).
فتحضر المسجد وتشهد به الصلوات ، وتستمع فيه المواعظ والدروس ، وتتعلم فيه أخلاقًا وآدابًا ، فيكون من ذلك أن تعلم واجبها نحو زوجها ؛ إذا نظر إليها زوجها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا أقسم عليها أبراته ، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله ، بل وعياله ، وعلمت أنها إن ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة ، وأنها إن باتت وزوجها عنها غضبان باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح .
فبذلك يسعد الزوج مع الزوجة التي تعلمت ذلك وعملت به ، ويتربى الولد على بر الوالدين والإحسان والطاعة ، والرضا والقناعة ، كل ذلك حتى تثاب الزوجة من الله ويُثاب الولد من ربه ، فكأن الله يثيب الزوجة إذا أسعدت زوجها ، والولد إذا بر بوالديه ، ويكافئ الزوج إذا أحسن إلى زوجته ، ويثيب الوالدين إذا أحسنا تربية الولد .
وهكذا نرى أن المساجد أسسها شرعية ، والأسر أسسها فطرية ، فمن نقل الأسس الشرعية من المساجد إلى البيوت أدخل السعادة على البيوت وساكنيها ، ثم ينقلب إلى ربه يوم القيامة فيجد ذلك الخير في ميزانه عند الله يوم القيامة فيدخل الجنة ، فيسعد في الدارين سعادتين ؛ سعادة دنيا بفطرة يشبعها كما أمر الله بشرعه، وفي الآخرة لأنه عمل بشرع الله كما أمره .
فاللهَ اللهَ في البيوت ، واللهَ اللهَ في المساجد ، عملاً بشرع الله والتزامًا بدينه .
والله من وراء القصد .