السماوات السبع

للأستاذ: محمد سليمان عثمان

قرأ ما كتبه بعض الأفاضل المتخصصين في علم الفلك عن السماوات السبع في عدد غزة ربيع الآخر سنة 1393 من مجلة الوعي الإسلامي.

وقد أدار الكلام في صورة حوار بينه وبين صديق له، فسأله الصديق عن السماوات السبع ما هي، وكيف تكون السماوات مأوى الأشباح ومكان الأرواح، ومثوى الموتى من عهد آدم واللَّه يأمرنا برصدها ودراستها في مثل قوله تعالى: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض} وقوله: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} إلخ الآيات.

فكان جواب الكاتب الفاضل أنها:

1 – الغلاف الجوي. … 2 – الشهب. … 3 – النيازك. … 4 – القمر.

5 – الكواكب السيارة. 6 – المذنبات. … 7 – الشمس.

وقبل أن ننتقل إلى الكلام في الموضع نسأل الأخ الصديق ماذا تعني بعبارة الأشباح والأرواح، ومثوى الموتى من عهد آدم، إن كنت تعني بالأشباح والأرواح تلك الأساطير المتداولة بين العامة وأشباههم من نقلة الخرافات، ورواة الأباطيل والأسحار، مثل عفاريت الليل والأشباح التي تظهر عند مقتل إنسان ونحوه على حد تعبيرهم .. فهذه خرافات لا أصل لها وجدير بأن تكذب وترد .. والسماوات أطهر وأجل من أن تدنس بمثل هذه الخرافات والأوهام .. وإن كنت تعني بالأشباح والأرواح: الملائكة الذين هم عباد الرحمن، الذين يسبحونه بالليل والنهار لا يسأمون {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون} .. والذين هم ملء السماوات وهم الملأ الأعلى، ومنهم حملة العرش العظيم الحافين من حوله: {ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك} وهم خلق لا يعلم عددهم إلا اللَّه الذي خلقهم .. إن كان يقصد بهم هؤلاء. أو ينكر أن أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين تصعد إلى الملأ الأعلى فذلك خطأ ينبغي رده، وصاحبه في حاجة إلى التوبة وإلى أن يجدد إيمانه.

إن الإتيان بتلك العبارة الساخرة المزرية تخشى أن يكون المتكلم بها ممن لا يؤمنون بالغيب من الملائكة والجن والأرواح والعرش وحملته والكرسي الذي وسع السماوات والأرض وسدة المنتهى والجنة والنار وما إلى ذلك من عالم الغيب. والملكوت الذي ابتلى اللَّه إيماننا في التصديق، وجعله فيصلاً بين المؤمن الذي أسلم وجهه لله، وبين الملحد الطبيعي المستكبر الذي فرح بما يعلم من ظاهر هذه الحياة الدنيا، وتاه بما لديه من المعرفة. إما أن كل ما يعلونه من الرياح والسحاب والغلاف الجوي والسدم والمجاميع الكوكبية والمجرات تسمى سماء فهذا حق حسب اللغة التي نزل بها القرآن، وحسب الظاهر الذي يبدو للعلماء الطبيعة والفلك من ظاهر علم الحياة الدنيا. وذلك مبلغهم من العلم .. وأبحاث العلماء وأرصادهم وأنظارهم لا تعدو هذه الظواهر، وهي التي أمروا بدراستها، والتأمل في نظامها، في مثل قوله تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض}.

وأما السماوات السبع التي لها أبواب تفتح كما جاء في حديث المعراج المتفق على صحته، واستفتحها جبريل حين عرج بالنبي عليه الصلاة والسلام. والتي تفتح لروح المؤمن إذا عرج بها، ويشيعها في كل سماء مقربوها، كما صح في عدة أحاديث، وكما قال اللَّه تعالى في أرواح الكفار {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} فأمر وراء هذه الظواهر لا يعرف إلا عن طرق الأنبياء .. والأنبياء وحدهم والمؤمنون بهم هم الذين يعرفون ذلك .. والكون ليس محصورًا فيما نبصر ونعلم .. فلئن كان ما نراه من ملكوت الله وآياته عظيمًا فيما نرى، فما أقلها فيما يغيب عنا منه مما قصرت أبصارنا عنه، وكلت عقولنا دونه، وحالت الغيوب بيننا وبينه: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم}، ولا يكفى لنفي شيء إنه لا يرى بالأبصار ولا يدرك بالحواس. فما من ظاهرة كونية إلا ويكمن وراءها حقيقة غيبية .. فيحتاج إلى عقل إيماني يكشف ما وراء هذه الظواهر من الحقائق .. أفلا يؤمن الكاتب الفاضل وصديقه بالملائكة الذين يحضرون مجالسنا، ويحفظون أعمالنا ويكتبونها ويصعدون بها إلى اللَّه {وإن عليكم لحافظين كرامًا كاتبين يعلمون ما تفعلون} أفنراهم بأعيينا، ونشعر بهم؟ أو لا يؤمن بالملائكة الذين يحضرون الإنسان عند وفاته؟ فيجلسون منه مد البصر ثم يأتي ملك الموت فيقبض روحه، ويصعد بها فتفتح لها أبواب السماوات فيشيعه في كل سماء مقربوها حتى ينتهي بها إلى العرش إن كانت الروح مؤمنة، وتغلق دونها أبواب السماء، إن كانت فاجرة .. افتراها تصعد وتنتهي إلى الغلاف الجوي أو النيازك أو القمر أو المذنبات إلى آخر ما ذكره الكاتب؟؟

وقد جاءت الأحاديث النبوية أن الإنسان يجلس في قبره، ويأتيه ملكان يسألانه عن ربه ونبيه ودينه وأن القبر يتسع ويضيق عليه، وأنه إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، وأنه يضرب في قبره إن كان فاجر ويشتعل عليه القبر نارًا .. وقد اعترض بعض الزنادقة على ذلك قديمًا فقال: إنا نكشف القبر فلا نجد فيه ملائكة يضربون الموتى بمطارق من حديد، ولا نجد هناك حيان وثعابين، ولا نيرانُا تاحج، ولو كشفنا حالة من الأحوال، لوجدنا لم يتغير، ولو وضعنا على عينيه الزئبق، وعلى صدره الخردل، لوجدناه على حاله، وكيف يفسح له مد بصره في قبره، ويضيق عليه، ونحن نجده بحاله، ونجد مساحته على حد ما حفرناها إلى شبهات كثيرة يوردونها في حق المصلوب، والذي أكلته الوحوش، والطيور وقالوا أيضًا: وكيف يتسع ذلك للحد الضيق له، وللملائكة، وللصورة التي تؤنسه وتوحشه؟ وقد أجاب العلامة ابن القيم عن هذه الشبهات، وأجاد، وأطال النفس فيها، ولولا ضيق المقام لأوردناها كلها، ولكننا نكتفي من ذلك بالعبارة التالية قال رحمه اللَّه تعالى: ((إن اللَّه سبحانه جعل الدور ثلاثًا: 1 – دار الدنيا. 2 – دار البرزخ. 3 – دار القرار. وجعل لكل دار أحكامًا تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس .. وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان، والأرواح تبعًا لها .. ولهذا جعل أحكامه الشرعية، مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح. وإن أضمرت النفوس خلافه .. وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبعًا لها .. فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت بألمها، والتذب براحتها، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب، تبعث الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها، والأرواح حينئذ هي تباشر العذاب والنعيم. فالأبدان هنا ظاهرة الأرواح خفية، والأبدان كالقبور لها…

والأرواح هناك ظاهرة، والأبدان خفية في قبورها، تجرى أحكام البرزخ على الأرماح، فتسرى إلى أبدانها نعيمًا أو عذابًا، كما يجرى أحكام الدنيا على الأبدان، فتسرى إلى أرواحها نعيمًا أو عذابًا فأحط بهذا الموضع وأعرفه كما ينبغي يزيل عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج)). اهـ. ما لخصناه من عبارة ابن القيم.

أما بعد فيجب التحرر من هذا العقل المقيد بالمحسوسات فإنها لا تزيد الإنسان إلا بعدًا عن الحقائق وعليكم بالعقل الإيماني الذي ينير البصائر ويصلكم بعلوم الأنبياء ويخرجكم من ضيق الدنيا إلى العالم الفسيح الرحب عالم الغيب وعالم ما بعد الطبيعة فلئن كانت أبصاركم تتجه إلى هذا الكسر المحدود من عالم المحسوسات، فأبصار الأنبياء تتجه إلى عالم الغيب والملكوت الواسع فهم يعلمون ما لا نعلم، ويرون ما لا نرى ويجب التسليم لهم فيما يقولون إن كنا مؤمنين باللَّه .. فإذا عرض لنا من كلامهم ما لا يفهم على طريقة علماء الكون الذين وقفوا أنفسهم عند المحسوسات كان تأويله على نظر الأنبياء لعالم الغيب والملكوت الذي هو أرحب مدى من هذه المحسوسات وبذلك تندفع إشكالات كثيرة. وإلى هذا القدر نكتفي الآن وربما كانت لنا عودة إلى البحث. واللَّه الموفق وهو يهدي إلى السبيل.