الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكَّر أو أراد شكورًا ، وصلاة وسلامًا على رسوله ، الذي جعله الله للمؤمنين أسوة وقدوة … وبعد :
سلامٌ من الرحمن كل أوان على خير شهر قد مضى وزمان سلامٌ على شهر الصيام فإنه أمان من الرحمن كل أمان
لئن فنيت أيامك الغر بغتة
فما الحزن من قلبي عليك بفانِ
أيها المؤمنون في المشارق والمغارب: إن لكل شيء خلقه الله بداية ونهاية ! فالحياة لها بداية ونهاية ، والإنسان والحيوان ، والسموات والأرض ، والشمس والقمر ، والنجوم ، والدواب ، وكل المخلوقات ، لها بداية ونهاية .
وفي كل لحظة تمر يستقبل الناس المواليد الجدد، ويودعون أمواتًا قد انقضت آجالهم، وانتهت أعمارهم.
والبداية والنهاية سُنَّة كونية ربانية، لا تقتصر على مخلوقات بعينها، فإن الأمم والدول لها بداية ونهاية، وكذلك الأيام والساعات.
وهذا شهر رمضان قد رحلت أيامه ، وانقضت ساعاته ، وفنيت لحظاته . بالأمس كنا فرحين باستقباله ، واليوم قد بدا حزننا لفراقه ، كم بين فرح التلاق ، ولوعة الفراق !!
في البداية كان شوقنا إلى لقاء شهر رمضان واستقباله عظيمًا ، وفرحنا بقدومه أشد من فرحنا بقدوم الغائب المنتظر !
وفي النهاية كان الناس بين مقبول ومطرود ؟!
فأما المقبول فهنيئًا له بالأجر والثواب والرضوان والإحسان، والرحمة والغفران والعفو ، والامتنان من الكريم المنَّان .
وللمقبول علامة يعرف بها نفسه ! قد ذكرها الحق في كتابه؛ وذلك في قوله: ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) [ المائدة: 27]، واستقامته على التقوى، وتمسكه بها بعد رمضان له أيضًا علامة يعرف بها نفسه !! قال ابن القيم رحمه الله: ( من أراد الله به خيرًا فتح له باب الذل والانكسار !! ودوام اللجوء إلى الله تعالى : والافتقار إليه ، ورؤية عيوب نفسه ، وجهلها ، وعدوانها ، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ، ورحمته وجوده ، وبره وغناه وحمده ، فالعارف : سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين ، لا يمكنه أن يسير إلا بهما ؛ فمتى فاته واحد منهما ، فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه ) .
وأما المطرود في نهاية شهر رمضان ، فإنما طرده الله ، وحرمه بإصراره ، وطغيانه ، وظلمه ، وخسرانه ، وغفلته ، وتماديه في عصيانه . ومن فاته رمضان بغير مغفرة ، فقد خسر خسرانًا مبينًا ؛ ولذلك كان بعض السلف ينبه على هذه الحقيقة بقوله : ( متى يغفر لمن لا يغفر له في هذا الشهر ؟ ومتى يصلح من لا يصلح في رمضان ؟! كل ما لا يثمر من الأشجار في أوان الثمار، فإنه يقطع، ثم يوقد في النار !!
إنها حقيقة يعيشها كثير من المسلمين اليوم، وواقع يشهد على صاحبه، ولكنه لا يفكر فيه، ويهرب منه، ويخدع نفسه، ولا يواجهها؛ لما يشعر به من العجز والضعف، وأولى به أن يكون بين الرجاء والخوف.
وفي البداية كنا نستقبل ركنًا من أركان الإسلام هو الصوم، وبانتهائه نستقبل ركنًا آخر من أركانه هو الحج.
والصلاة ركن دائم على المكلَّفين، لا يسقط تكليفه إلا بموت أو فقدان عقل ! والزكاة تجب على أهلها عند بلوغ نصابها، واكتمال حولها.عدا زكاة الفطر، فإنها تجب في نهاية رمضان. هنا يشعر المسلم شعورًا عميقًا بمعنى العبودية! إنه في نهاية رمضان يجد نفسه قد جمع بين الصلاة والصوم والزكاة ، والاستعداد للدخول في الحج ؛ فإذا اعتمر في هذا الوقت ، ثم تدبر ذلك الأمر وجد أنه يتقلب في العبودية لله رب العالمين ، فيجني ثمرة ذلك : عبودية دائمة لله ، تشمل حياته كلها ، فلا يقول ولا يفعل إلا ما يرضي الله ، ولا يتقدم ولا يتأخر إلا بإذنه ، وعندها يفهم معنى قوله سبحانه : ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ) الآية [ الأنعام : 162 ، 163] .
وفي النهاية : يكون آخر يوم من رمضان ، وقد أوجب الله علينا صومه ، ثم يتبعه أول يوم من شوال ، وقد حرَّم الله علينا صومه !! فهما يومان يتجاوران: أحدهما صومه فريضة، والثاني صومه حرام ! إنها العبودية لله ؛ أمرتنا ففعلنا ، ونهتنا فانتهينا (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر ) [ الأعراف : 54] .
وكل بداية تذكِّر المسلم ببدايته، وكل نهاية تذكره بنهايته، فينظر إلى بداية نفسه فيجد حقيقتين:
أولاهما : أن الله خلقه من ماء مهين ، ثم كرَّمه !!
والثانية: ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ) [ النحل: 78]، ثم علَّمه، ثم يقارن بين مهين جاهل، وكريم عالم، فيجد الفرق بينهما هو محض فضل الله ورحمته.
وينظر مرة أخرى إلى بداية أصله فيجد: ( وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا )، ثم يتأمل النهاية فإذا هي ( ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ) [ نوح: 18].
ويدفع هذا التدبر المسلم دفعًا إلى الاستعداد للقاء الله، ومن كان مستعدًّا للقاء الله، كان مشتاقًا إلى هذا اللقاء محبًّا له؛ ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه !
وأخيرًا تبقى هذه الحقيقة الماثلة: إننا اليوم نودع شهر رمضان:
فيا عجبًا ممن يودع إلفه
يمد يدًا نحو الفراق فيسرع
هممت بتوديع الحبيب فلم أطق
فودَّعتهُ بالقلب والعين تدمع
فهل نحفظ العهد والوعد ، ونصون التوبة والودَّ !!
إن رمضان قد مضى وانقضى ، ومنا من قد يلقاه بعد عامه هذا ، وفينا من لن يلقاه ، لكن الجميع سيلقى الله ، ويقف بين يديه ، ويعرض عليه ، ففريق في الجنة ، وفريق في السعير .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .