الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله … وبعد، فقد أظلنا شهر رمضان من جديد، وأشرقت أنواره، وحلَّت بركاته، وكثرت حسناته، وقلَّت سيئاته. والناس فيه منهم من هو سابق بالخيرات تارك للمحرمات، مقيم على الطاعات؛ يبكي ذنوبًا قد فعلها، وسيئات قد اقترفها وهؤلاء هم الذين حبب الله إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان. ومن الناس سفهاء وجهال يستثقلون رمضان، وكثير منهم لا يصلى إلا في رمضان، ولا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان، وهو يعد الأيام والليالي حتى يعود إلى معاصيه ! فهم مصرون على ما فعلوا وهو يعلمون، وفيهم من لا يصبر على المعاصي؛ فيظل مقيمًا عليها في رمضان، وقد ذكر ابن رجب – رحمه الله – أن رجلًا كان مصرًّا على شرب الخمر فعاد إلى بيته في آخر يوم من شعبان وهو سكران ! فعاتبته أمُّه، وهي توقد التنور ( الفرن ) فحملها فألقاها في التنور فاحترقت !!! أما أهل الإيمان والطاعة، أهل السنة والجماعة فلهم شأن آخر. إن أبواب الطاعات في رمضان كثيرة متنوعة، وكلها أبواب إلى الجنة. ففي رمضان يكون الصوم وقراءة القرآن والعمرة التي تعدل حجة ! والجود والعطاء وتفطير الصائم، وتعجيل الفطر، وتأخير السحور؛ وصلاة التروايح، وليلة القدر، والاعتكاف، وفتح أبواب الجنان، وإغلاق أبواب النيران، وتصفيد الشياطين، والمغفرة في آخر الشهر، وغير ذلك من أبواب الخير وصنوف البر، وأنواع الطاعات والقربات.
والمؤمن الحق يرى أن رمضان فرصة قد لا تتكرر، وشهر قد لا يعود فكم من صائم عامًا مضى قد أصبح اليوم أثرًا بعد عين ! وفي كل يوم يشيع الناس غاديًا ورائحًا إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فخلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب ! ومن بين نصوص السنة الصحيحة التي تتحدث عن رمضان جاءت نصوص تتعلق بالفطر والسحور، فأردنا أن ننبِّه على بعضها طمعًا في إدراك أجرها ممن عنده حسن الثواب.
تفطير الصائم : روى الترمذي بسنده أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( من فطَّر صائمًا، كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء ) . ويفهم من هذا الحديث أن تفطير الصائم طاعة من أعظم الطاعات، وقربة من أجلِّ القربات. وننبه هنا على فائدتين : الأولى : في قوله : ( من فطر صائمًا )، وصف يصدق على من قدم إلى الصائم طعامًا أو شرابًا يفطر عليه ، وبعض الناس يدعو صائمًا أو أكثر إلى مائدته ، فيأتي الصائمون إلى المسجد فيفطرون على تمر المسجد ويشربون من مائه ثم يذهبون بعد الصلاة إلى بيت من دعاهم وهم مفطرون مصلون ! فيكون هذا الداعي قد عشَّى مفطرًا ، ولم يفطِّر صائمًا !! الثانية : في قوله : ( كان له مثل أجره )، ومعلوم أن أجور الصائمين متفاوتة، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش. فهل يقال: إن هذا الحديث فيه ترغيب وحث على اختيار الصائم المؤمن التقي لمن أراد أن يفطر صائمًا طمعًا في زيادة الأجر ! للنظر في ذلك مجال ، والله أعلم .
تعجيل الفطر: روى البخاري بسنده أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ). وتعجيله يتحقق بأمرين: الأول: المبادرة إلى الفطر إذا تحقق غروب الشمس، والثاني: تقديمه على الصلاة. ويبحث الناس عن الخير الموعود به في هذا الحديث : ( لا يزال الناس بخير ) ، فيقال لهم : هذا الخير يتحقق بأمور منها : مخالفة أهل الكتاب كما جاء في رواية أبي داود وابن خزيمة: ( لأن اليهود والنصارى يؤخرون ) أي : الفطر. مخالفة بعض طوائف الشيعة الذين يؤخرون الفطر إلى ظهور النجوم. الرفق بالصائم وتقويته على العبادة بتعجيل فطره. وهذه وغيرها أبواب خير فتحها الله لمن يعجل الفطر. ·
بركة السحور: روى البخاري ومسلم بسنديهما أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ( تسحورا فإن في السحور بركة ) . من المعلوم أن السحور ما يؤكل وقت السحر؛ فهو طعام وشراب، ومع هذا فقد خصته النصوص بفضل ليس لغيره من الأطعمة والأشربة ! فأمرت به، ونبهت على أنه بركة!! ولقد نبه أهل العلم على هذه البركات. فذكروا منها : امتثال الأمر الشرعي واتباع السُّنَّة ، وهذا يوجب الأجر والثواب. ومخالفة أهل الكتاب؛ فإنهم لا يتسحرون: ( فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر ) رواه مسلم.والدعاء والاستغفار وقت مظنة الإجابة : ( وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) [ الذرايات : 18 ] . وتدارك نيّة الصوم لمن أغفلها قبل النوم. وصلاة الفجر مع الجماعة في وقتها الفاضل بسبب الاستيقاظ، ولذا تجد المصلين في المساجد فجر أيام رمضان أكثر منهم في غيره ! ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع !! والتَّقوي على العبادة والزيادة في النشاط.وأخيرًا: الصدقة على السائل في ذلك الوقت (1) !! ·
مدفع الإمساك ؟!! قال ابن حجر – رحمه الله – : ( من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان – أي زمانه – من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان ، وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة لتحريم الأكل والشرب على من يريد الصيام زعمًا ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة ، ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس ، وقد جرَّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت زعموا !! فأخرُّوا الفطر ، وعجلوا السحور ، وخالفوا السنة ، فلذلك قل عنهم الخير ، وكثر فيهم الشر ، والله المستعان ) . ا هـ من ( فتح الباري ) ( 4/ 235) . ومن يتدبر هذا الكلام يجد أن الحافظ – رحمه الله – قد نبه على أن مخالفة السنة سبب لقلة الخير ونزع البركة ! وكثرة الشر والمعصية والفساد، وكأنه يعيش في زماننا ويشاهد حالنا. ولما أُختُرت المدافع في القرن الرابع عشر الميلادي – كما في دائرة معارف القرن العشرين – تغير شكل البدعة وبقي أصلها ! وأصبحت علامة الإمساك إطلاق مدفع الإمساك بعد أن كانت في الماضي إطفاء المصابيح ، وكلاهما علامة باطلة . وإنما علامة الإمساك المشروعة طلوع الفجر الصادق، وهو الوقت الذي يُرفع فيه الأذان لأجل صلاة الفجر. وبعد: فالحديث عن رمضان حديث شيق، وكله خير، وبركة، وفوائد، وعوائد، وأجر، وثواب، وجودٌ، وعطاء. فنسأل الله بمنه وفضله وكرمه أن يتقبل منا صلاتنا وصيامنا ودعاءنا، وسائر أعمالنا الصالحات، إنه ولي ذلك، والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه
(1) راجع ( فتح الباري ) ج4 ص 166 كتاب الصوم – باب بركة السحور .