الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- ، وبعد
فهذه الآية رقم (116) من سورة الأنعام خطاب الله العزيز المجيد لرسوله الخاتم الرحمة للعالمين، سيد الأمة وقدوتها في كل محمود.
قال تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} وهو -صلى الله عليه وسلم- المأمور ببلاغ ما أوحي إلية من ربه، فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } وقال {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } وعليه، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الميزان الأكبر الذي تعرض عليه الأشياء فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل ” أثر ذلك عن سفيان بن عيينه رحمه الله (ت 198هـ ).
فلابد في البلاغ عن الله ورسوله أن تكون بالوحي – القرآن وصحيح السنة – ولا تجتمع الأمة على ضلالة ولا حاجة للإجماع في وجود السنة الصحيحة الصريحة، كما نص على ذلك ابن عبد البر ( ت 463هـ ) في تمهيده.
عندئذ تكون عصمة الله تعالى للمبلِّغ عن الله ورسوله فإن حاد المبلِّغ عن الوحي أو تلاعب فيه فلا عصمة له لأنه لم يبلغ ما أنزل إلية.
وفيها أن الحق لا يكون إلا بيد الأقلين، وهم الطائفة التي لا تزال على الحق، لا يضرها خلاف من خالفها، ذلك لأنها على الوحي صريحاً وظاهراً، وهم تبع للأصحاب الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين هم – الأصحاب الكرام -رضي الله عنهم- – أوْلى الناس بفهم مراد الله ورسوله، بل هم لسان حال ومقال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمن تبعهم بإحسان هم تبع لهم في الفضل والإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه.
كما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من طريق جماعة من الصحابة: ” لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ”
ثم نرى التعليل في قوله تعالى { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } أي: أكثر الناس ما يتبعون إلا الظن الذي لا أصل له، وعليه فأكثرهم لا بصيرة لهم ولا علم حق لديهم وحالهم ومقالهم هوى نفس، ووسواس شيطان، إنهم ما يتبعون إلا أقوال الظن ن وما هم فيما يفعلونه ويقولونه إلا خارصون ( الخراص: هو الذي يقدّر الشيء بالجزاف والحدس والتخمين ) وحسبك علم ربك بهم، فإنه تعالى هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين،
فالعلم الحقيقي في الوحي – القرآن والسنة – فاتبع ما أمرك به ونهاك عنه، ودع عنك طاعة غيره، أولئك الذين يخرصون.
وعليه، فاتباعهم يؤدي إلى الضلال، فلذا لا يتبع إلا أهل العلم الراسخون، لقوله تعالى {وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وغير ذلك من الآيات في الباب.
{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } هذا إخبار عن حال أكثر أهل الأرض من بني أدم، أنه ضلال وبُعْدٌ عن طريق الرحمن، الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، ولا دخن،
قال تعالى {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ } وقال {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } ويلازمه قوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }
وهؤلاء وهم في ضلالهم، هم في ظنون كاذبة، وحسبان باطل ن فكيف يتبع اليقين الذي هو الوحي، الظن الذي هو الخرص، والظن لا يغني من الحق شيئاً، فهؤلاء يتخرصون في القول على الله ما لا يعلمون، ومن كان بهذه المثابة فحري أن يحذر الله منه عباده ويصف لهم أحوالهم.
وإن كان هذا خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- فإن أمته أسوة له في كل شيء عدا التي من خصائصه.
والمقصود أن هذه الآية: دلت على أنه لا يُستدل على الحق بالكثرة ن ولا يدل قلة السالكين إلية على عدمه، فإن أهل الحق هم الأقلون عدداً، والأعظمون عند الله قدراً وأجراً، بل الواجب أن يُستدل على الحق والباطل بالطرق الموصلة إلية، فما هي؟ وما ضوابطها؟
ودلت على لزوم اتباع الأوامر، واجتناب النواهي، لأنه الشارع الحكيم إذا أمر بشيء فلمصلحة خالصة فيه أو راجحة، وإذا نهى عن شيء فلمفسدة خالصة أو راجحة.
قال تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
فالثبات على هذا الطريق الحق، طريق العزة والتمكين والقوة للفرد والأسرة والمجتمع والأمة، وإلا فلا نسأل الله العفو والعافية والسعادة في الدنيا والآخرة.
كتبه
صبري محمد عبد المجيد