الرزق في القرآن و السنة(الخطب المهمة لدعاة الأمة عدد شهر ذو القعدة 1436هـ)
2015-08-23
العنوان :الرزق في القرآن و السنة
الخطبة إعداد اللجنة العلمية
عدد ذو القعدة 1436هـ من الخطب المهمة لدعاة الأمة
الرزق في القرآن و السنة
عناصر الخطبة
معنى الرزق
الغاية من الرزق الحلال، والسعي عليه
آداب طلب الرزق الحلال
التفصيل
الحمد لله خالق الخلق، وباسط الرزق، فتنة وابتلاءً منه لعباده ليميز الطائعين الشاكرين من العاصين الجاحدين. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
فقد جعل الله سبحانه وتعالى رزقه يسع كل حيٍّ من مخلوقاته فضلاً منه ورحمة، فقدَّر رزق الإنسان، وكتبه والإنسان في بطن أمه
فإنه قد صح عن النبي ﷺ من حديث أبي الدرداء أنه قال: "إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله. (1)
معنى الرزق في الشرع:
ورد لفظ الرزق كثيراً في كتاب الله، كما ورد الفعل منه بتصريفاته، ومنها قوله - تعالى -: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} [البقرة - 60]، وقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر - 3].
كما ورد لفظ الرزق في السنة المطهرة، وورد الفعل منه، ومن ذلك قوله ﷺ: "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله - عز وجل -، إنه يشرك به، ويجعل له الولد، ثم هو يعافيهم، ويرزقهم". (2)
يقول الحافظ أبو بكر الإسماعيلي - رحمه الله - في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة: "وإن الله يرزق كل حي مخلوق، رزق الغذاء الذي به قوام الحياة، وهو ما يضمن الله لمن أبقاه من خلقه، وهو الذي رزقه من حلال أو حرام". (3)
وقال الإمام ابن تيمية - رحمه الله -: "وكذلك كونه خالقاً، ورازقاً، ومحسناً، وعادلاً، فإن هذه أفعال فعلها بمشيئته وقدرته. (4)
وقال ابن القيم - رحمه الله - في النونية:
وكذلك الرزاق من أسمائه. . . والرزق من أفعاله نوعان
رزق على يد عبده ورسوله. . . نوعان أيضا ذان معروفان
رزق القلوب العلم والإيمان. . . والرزق المعد لهذه الأبدان
هذا هو الرزق الحلال وربنا. . . رزاقه والفضل للمنان
والثاني سوق القوت للأعضاء فـ. . . ـي تلك المجاري سوقه بوزان
هذا يكون من الحلال كما. . . يكون من الحرام كلاهما رزقان
والله رازقه بهذا الاعتبار. . . وليس بالإطلاق دون بيان. (5)
فقد يراد بلفظ الرزق ما أباحه الله أو ملكه، فلا يدخل الحرام في مسمى هذا الرزق كما في قوله - تعالى -: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً} [النحل - 75] وأمثال ذلك، وقد يراد بالرزق ما ينتفع به الحيوان، وإن لم يكن هناك إباحة ولا تمليك فيدخل فيه الحرام، كما في قوله - تعالى -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود - 6]. (6)
من أسماء الله الحسنى: الرزاق:
الرَّزْقُ صفةٌ فعليةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة، و (الرزَّاق) و (الرَّازق) من أسمائه تعالى. قال اللهتعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّبَاً} [النحل: 114]. وقال {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقَاً حَسَنَاً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58].
معنى الرزاق:
قال ابن القيم في ((النونية)): ((وكذلك الرزَّاقُ من أسمائه. . . والرَّزْقُ من أفعالهِ نوعانِ))
قال ابن عثيمين: في قوله تعالى: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)، {الرَّزَّاقُ} ولم يقل: الرازق، لكثره رزقه وكثرة من يرزقه، فالذي يرزقه الله عز وجل لا يحصى باعتبار أجناسه، فضلاً عن أنواعه، فضلاً عن آحاده، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6]، ويعطي الله الرزق بحسب الحال. (7)
ـ قال السعدي: "الرزاق لجميع عباده فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها. ورزقه لعباده نوعان: رزق عام شمل البر والفاجر والأولين والآخرين وهو رزق الأبدان.
ورزق خاص وهو رزق القلوب وتغذيتها بالعلم والإيمان، والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين وهذا خاص بالمؤمنين على مراتبهم معه بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته". (8)
الغاية من الرزق الحلال، والسعي عليه:
1ـ الاستعانة على طاعة الله:
قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) الذاريات (56، 57)
قال ابن تيمية: إنما خلق الخلق ليعبدوه؛ وإنما خلق الرزق لهم ليستعينوا به على عبادته. (9)
2ـ تسخير الناس بعضهم لبعض لإعمار الأرض:
قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الزخرف(32)
قال الطبري: يقول تعالى ذكره: بل نحن نقسم رحمتنا وكرامتنا بين من شئنا من خلقنا، فنجعل من شئنا رسولا ومن أردنا صديقا، ونتخذ من أردنا خليلا كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون بها في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات، فجعلنا بعضهم فيها أرفع من بعض درجة، بل جعلنا هذا غنيا، وهذا فقيرا، وهذا ملكًا، وهذا مملوكًا (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا). ليستسخر هذا في خدمته إياه، وفي عود هذا على هذا بما في يديه من فضل، فجعل تعالى ذكره بعضا لبعض سببا في المعاش، في الدنيا. (10)
3ـ الاستعداد لرزق المعاد:
قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ). الملك (15)
فالرزق في الدنيا هو للوصول لزاد المعاد في الآخرة.
قال السعدي: قوله تعالى{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أي: لطلب الرزق والمكاسب. {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أي: بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحانًا، وبلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة، تبعثون بعد موتكم، وتحشرون إلى الله، ليجازيكم بأعمالكم الحسنة والسيئة. (11)
خصائص الرزق
1ـ الرزق مكتوب قبل خلق السماوات والأرض:
قال تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]، وكَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: " ((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)) "
قال ابن رجب: فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَصِفَتَهُ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا، وَيَكْتُبُ أَجَلَهُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا. (12)
2ـ الملائكة تكتب الرزق قبل نفخ الروح:
عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺوَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: " أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيَكْتُبُ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى لاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا "(13)
الْمُرَادُ بِكِتَابَةِ الرِّزْقِ تَقْدِيرُهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَصِفَتُهُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا(14)
3ـ الرزق مقسوم بلا زيادة ولا نقصان:
عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، عن النَّبِيَّ ﷺ: قال: وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلاَ يُزَادُ فِيهَا وَلاَ يُنْقَصُ. (15)
قال أحمد بن حنبل: إِن الرزق مقسوم لَا زِيَادَة فِيهِ وَلَا نُقْصَان، وَإِن وَجه الزِّيَادَة أَن يلهمه الله تَعَالَى إِنْفَاقه فِي طَاعَة فَيكون ذَلِك زِيَادَة ونماء، وَكَذَلِكَ الْأَجَل لَا يُزَاد فِيهِ وَلَا ينقص مِنْهُ وَوجه الزِّيَادَة فِي الْأَجَل أَن يلهمه الطَّاعَة فَيكون مُطيعًا فِي عمره فبالطاعة يزِيد وبالمعاصي ينقص وَأما الْمدَّة عِنْده فَلَا تزيد وَلَا تنقص وَقَرَأَ {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}(16)
4ـ الرزق قد يطلق على الحلال أو الحرام:
قال أحمد بن حنبل: يَقُول إِن الله تَعَالَى يرْزق الْحَلَال وَالْحرَام ويستدل بقوله عز وَجل {كلا نمد هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء من عَطاء رَبك وَمَا كَانَ عَطاء رَبك مَحْظُورًا} يَعْنِي مَمْنُوعًا(17)
قال السفاريني: ((وَالرِّزْقُ مَا يَنْفَعُ)) الْمُرْتَزَقُ، أَيْ يَنْتَفِعُ الْمُرْتَزَقُ بِحُصُولِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمُنْتَفَعُ بِهِ ((مِنْ حَلَالٍ)) وَهُوَ مَا انْحَلَّتْ عَنْهُ التَّبِعَاتُ، وَهُوَ ضِدُّ الْحَرَامِ، والْحَرَامُ: هُوَ مَا مُنِعَ مِنْهُ شَرْعًا، إِمَّا لِصِفَةٍ فِي ذَاتِهِ ظَاهِرَةٍ كَالسُّمِّ وَالْخَمْرِ، أَوْ خَفِيَّةٍ كَالرِّبَا وَمُذَكَّى الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِ ; لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ، وَإِمَّا لِخَلَلٍ فِي تَحْصِيلِهِ كَالرِّبَا وَالْغَصْبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكُلُّ ذَلِكَ رِزْقٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَسُوقُهُ للإنسانِ فَيَتَنَاوَلُهُ وَيَتَغَذَّى بِهِ. (18)
5ـ الله يحب لعباده أن يأتوا الرزق الحلال:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
قال ابن تيمية: وأما إذا فعل المؤمن ما أبيح له قاصداً للعدول عن الحرام إلى الحلال لحاجته إليه، فإنه يثاب على ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وفي بُضْع أحدكم صدقة ". . وهذا كقوله في حديث ابن عمر عن النبي ﷺ قال: " إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته ". رواه أحمد، وابن خزيمة في صحيحه وغيرهما.
فأخبر أن الله يحب إتيان رخصه، كما يكره فعل معصيته. . وذلك لأن الرخص إنما أباحها الله لحاجة العباد إليها، والمؤمنون يستعينون بها على عبادته؛ فهو يحب الأخذ بها، لأن الكريم يحب قبول إحسانه. (19)
آداب طلب الرزق الحلال
فليس مجرد السعي على الرزق فقط هو الهدف المنشود، بل لا بد من اعتقاد بالقلب بأن الله سيرزقك، وقناعة بما سترزق به، وصرف هذا الرزق في الأمور المشروعة.
1ـ تنزيه الرازق وتقديسه، وعدم التنقص من قدره:
عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ))(20)
2ـ الرزاق هو المستحق للعبادة:
قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً} سورة النحل، الآية [73].
قال ابن كثير: يقول الله تعالى إخباراً عن المشركين الذين عبدوا معه غيره، مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده لا شريك له، ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً؛ أي لا يقدر على إنزال مطر، ولا إنبات زرع ولا شجر. ولا يملكون ذلك لأنفسهم؛ أي ليس لهم ذلك، ولا يقدرون عليه لو أرادوه، ولهذا قال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ}؛ أي لا تجعلوا له أنداداً وأشباهاً وأمثالاً، {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو، وأنتم بجهلكم تشركون به غيره". (21)
3ـ الإيمان بأن الرزق فعل من أفعال الله على الحقيقة لا لغيره:
فمن الناس من يظن أن غير الله هو المتحكم في أرزاق الناس ، قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}.عن ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: النَّبِيُّ ﷺ: أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ، قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}، حَتَّى بَلَغَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}. (22)
4ـ الأكل من الرزق الحلال الطيب:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟. (23)
5ـ عدم النظر إلى ما في يد الناس مما يمتلكونه من أرزاق:
قال تعالى: {لَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم}وقال: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ}
قال أبو الحسن السبتي بن خمير: إِن لله تَعَالَى يعتب أنبياءه وأصفياءه ويؤدبهم، أَلا ترى كَيفَ نهى الله تَعَالَى نَبينَا ﷺعَن النّظر لبَعض الْمُبَاحَات فَقَالَ {لَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم} الْآيَة وَنَهَاهُ أَن يتبع النظرة الأولى ثَانِيَة فَقَالَ لَهُ {وَلَا تعد عَيْنَاك عَنْهُم تُرِيدُ زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا} مَعَ قَوْله تَعَالَى فِي مقَام آخر {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق}
فَإِذا لم يحرم أكل الطَّيِّبَات والتمتع بالزينة إِذا كَانَت من كسب الْحَلَال وَالنَّظَر فِي الْحسن من التَّمَتُّع والزينة فَكيف يحرم النّظر إِلَيْهَا لَكِن كَمَا قَالَ الْمَشَايِخ حَسَنَات الْأَبْرَار سيئات المقربين. (24)
6ـ الإجمال في الطلب:
فمن حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ- قَالَ: " ((لَا تَسْتَبْطِئُوا الرِّزْقَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَبْدٌ لِيَمُوتَ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَ رِزْقٍ هُوَ لَهُ، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، أَخْذِ الْحَلَالِ وَتَرْكِ الْحَرَامِ)) " وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ-: " ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ)) " (25)
7ـ القناعة بالقليل:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ. (26)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا))(27)
عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ((ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الهِلاَلِ ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَارٌ)) فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: ((الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ))(28)
عن قَتَادَةُ، قَالَ: كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، وَقَالَ: ((كُلُوا، فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ ﷺرَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلاَ رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ))(29)
8ـ عدم الإسراف:
قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}
9ـ السعي على الرزق:
قال ابن عثيمين: إذا قال قائل: إذا كان الله هو الرزاق، فهل أسعى لطلب الرزق: أو أبق في بيتي ويأتيني الرزق؟
فالجواب نقول: اسع لطلب الرزق، كما أن الله غفور، فليس معنى هذا أن لا تعمل وتتسبب للمغفرة.
ولهذا قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]، فلابد من سعي، وأن يكون هذا السعي على وفق الشرع. (30)
10ـ الدعاء لمن جعله الله سببا لوصول الرزق إليك:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ، قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺعَلَى أَبِي، قَالَ: فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَامًا وَوَطْبَةً، فَأَكَلَ مِنْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ، وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى، ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ، قَالَ: فَقَالَ أَبِي: وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ، ادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ، بَارِكْ لَهُمْ فِي مَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ. (31)
أنواع الرزق
أولا: الرزق العلمي:
1 ـ ومن ذلك قوة الفهم الذكاء والفطنة
فمن أفضل أنواع الرزق والخير الفقه في الدين
عن مُعَاوِيَةَ، قال: قال النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ))(32)
و قد دعا النَّبِيَّ ﷺ: لبعض أصحابه بذلك، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ))(33)
2ـ ومن ذلك قوة الحفظ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ؟ قَالَ: ((ابْسُطْ رِدَاءَكَ)) فَبَسَطْتُهُ، قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ((ضُمَّهُ)) فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ. حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ بِهَذَا أَوْ قَالَ: غَرَفَ بِيَدِهِ فِيهِ. (34)
3ـ ومن ذلك قوة المعرفة:
قال تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). البقرة (247)
ثانيا: الرزق الإيماني القلبي:
1ـ أن يُرزق المسلم قلبًا سليما فهذا دلالة على دخول الجنة:
قال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). الشعراء(88، 89)
2ـ التدرج في مراتب الإيمان:
ـ من أعلى المراتب مرتبة الإحسان: قال تعالى: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ). لقمان(22)
ـ كل من شهد الشهادتين فيدخل في دائرة الإسلام، وهناك خطوات للوصول لدائرة الإيمان:
وقال تعالى: ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). الحجرات (14)
والحمد لله رب العالمين
---
(1) ". رواه ابن أبي عاصم السنة (1/117) والبزار في كشف الأستار (2/82)وابن حبان(5/8)، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان (2/71)، بهذا اللفظ إلا أنه فيه عند الطبراني "أكثر مما يطلبه أجله" صححه البزار، وابن حبان، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/72) رجاله ثقات، وقال المنذري عقبه: رواه الطبراني بإسناد جيد.
(2) أخرجه مسلم رقم 2804. وبنحوه البخاري رقم 6099.
(3) كتاب اعتقاد أهل السنة ص 52.
(4) مجموع الفتاوى 6/229.
(5) الكافية الشافية 2/234.
(6) انظر: مجموعة الرسائل 5/326، مجموع الفتاوى 8/541، لوائح الأنوار 1/335 - 336.
(7) شرح العقيدة الواسطية(1/203)
(8) تفسير السعدي. 05/626، 627، والحق الواضح المبين /45.
(9) الإيمان(1/43)
(10) تفسير الطبري (21 / 595)
(11) تفسير السعدي (1/877)
(12) جامع العلوم والحكم
(13) رواه البخاري(7454)
(14) عون المعبود(12/310)
(15) رواه مسلم(6818)
(16) العقيدة رواية أبي بكر الخلال(1/125)
(17) العقيدة رواية أبي بكر الخلال(1/125)
(18) لوامع الأنوار البهية(1/344)
(19) الإيمان(1/43)
(20) رواه البخاري(7378)
(21) تفسير القرآن العظيم 2/578.
(22) رواه مسلم(146)
(23) رواه مسلم (2309)
(24) تنزيه الأنبياء(1/84)
(25) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ(2144) وصححه الألباني
(26) رواه مسلم(2390)
(27) رواه البخاري(6460)، ومسلم(1055)
(28) رواه البخاري(6459)
(29) رواه البخاري(6457)
(30) شرح العقيدة الواسطية(1/204)
(31) رواه مسلم(5378)
(32) رواه البخاري(71)، ومسلم (1037)
(33) رواه البخاري(75)، ومسلم (2477)
(34) رواه البخاري(119).