إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (الشكر والامتنان بعد صيام رمضان) (الخطب المهمة لدعاة الأمة عدد شهر شوال 1436هـ)
2015-07-04
العنوان :إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
الخطبة إعداد اللجنة العلمية
عدد شوال 1436هـ من الخطب المهمة لدعاة الأمة
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
(الشكر والامتنان بعد صيام رمضان)
عناصر الخطبة
مقدمة
الشكر يحتاج إلى شكر
وماذا بعد رمضان؟
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
ثم احذر
تنبيهات مهمة في أيام العيد
التفصيل
مقدمة
أيها المسلمون، بالأمس القريب ودَّعنا شهراً عظيماً وموسماً كريماً، تحزن لفراقه القلوب المؤمنة، وتدمع لرحيله العيون الساهرة ألا وهو شهر رمضان، فقد قُوّضت خيامه، وتصرّمت أيامه، وقد كنَّا بالأمس القريب نتلقَّى التهانيَ بقدومه ونسأل الله بلوغَه، واليوم نتلقَّى التعازيَ برحيله ونسأل الله قبولَه، بالأمس نترقّبه بكلّ فرح وخشوع، واليوم نودّعه بالأسى والدموع، وتلك سنّة الله في خلقه، أيّامٌ تنقضي، وأعوام تنتهي، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. (1)
لذلك ينبغي على من تفضَّل الله عليه بالمُسارعة إلى الخيرات في رمضان أن يحمَد الله جل وعلا وأن يشكُره حقَّ الشكر، ثم عليه أن يسير على الطريق المستقيم، وأن يزداد تقرُّبًا إلى المولى العظيم، وأن يكون حذِرًا أشدَّ الحَذَر من إهداء حسناته لغيره، أو أن يبُوءَ بسيئات غيره، وذلك لا تحصُل السلامةُ منه إلا بأن يصُونَ لسانَه عن أعراض المسلمين، وأن يكون حذِرًا أشدَّ الحَذَر من أذِيَّة المؤمنين. (2)
فمنهم شقي وسعيد
أيها الأحبة جاء رمضان، ومن الناس من لم يأبه بدخوله، ولم يقدر قيمة لحظاته، ونفاسة أوقاته، فلم يغير شيئا من نمط حياته، ولم يعدل طريقته في قضاء أوقاته، فأهدر هذا الموسم العظيم، وفرط في اغتنامه، فرحل شهر الصيام وهو غارق في غفلاته، فيحتاج هذا إلى محاسبة نفسه والتوبة إلى ربه، وفتح صفحة جديدة، وحياة يستغلها بالطاعة، ويوظف أوقاته في طلب مغفرة ربه ومرضاته.
لكن هناك صنف من الناس عرف عظمة هذا الموسم، وقدر قيمة أوقات هذا الشهر الكريم، فاغتنمها وزاد من عمله الصالح، وتضرع فيه بين يدي مولاه، وسأله المغفرة والعفو، ومحو الذنوب والسيئات، والعتق من النار فقدم فيه خيرا، فليحمد الله على ذلك، وليسأله الثبات على الطاعة، والمزيد من التوفيق للأعمال الصالحة. (3)
مضى هذا الشّهر الكريم، وهو شاهد لنا أو علينا، شاهدٌ للمشمِّر بصيامه وقيامه، وعلى المقصّر بغفلته وإعراضه، ولا ندري يا عباد الله هل سندركه مرةً أخرى أم يحول بينا وبينه هاذِم اللذات ومفرّق الجماعات؟! فسلامُ الله على شهر الصيام والقيام، لقد مرّ كلمحة برقٍ أو غمضة عين، كان مضماراً يتنافس فيه المتنافسون، وميداناً يتسابق فيه المتسابقون، فكم من أكفٍّ ضارعة رُفعت، ودموع ساخنة ذُرفت، وعبراتٍ حرَّاءَ قد سُكبت، وحُقّ لها ذلك في موسم المتاجرة مع الله، موسم الرحمة والمغفرة والعتق من النار. (4)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
أيها المسلم، إن الاستقامة على العبادة دليلٌ على الرغبة في الخير، وعنوان قوة الإيمان، قال تعالى لنبيه{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112]، وقال تعالى{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. فالاستقامة لزومُ الطريق المستقيم، الاستقامة لزوم الطاعة والثبات عليها في كل وقت وحين، وإن كان المسلم في مواسم الخير يضاعف جهوده، لكنه لا ينقطع عن العبادة بعد ذلك، فإن استقامته على الطاعة تدل على قوة الإيمان، وقوة اليقين، وعظيم الرغبة في الخير(5)، وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ - وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ غَيْرَكَ - قَالَ: " قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، فَاسْتَقِمْ".(6)
فيا ليت السنة كلها رمضان
إن عباد الله الصالحين، وأولياءه المخبتين، لا يزيدهم مرور المواسم الفاضلة، إلا قربا من ربهم، ومضاعفة لأعمالهم، لأنهم مداومون على عمل الصالحات، في جميع الأوقات، وفي سائر الليالي والأيام، وهم متعلقون بخالقهم، لا يجدون اللذة إلا في مناجاته، ولا الراحة إلا بدعائه والتعرض لنفحاته، {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}. [سورة الفتح 29].
قد غرس الله في قلوبهم حب الطاعة، فهم يؤمنون بأن العمل لا ينقضي إلا بانتهاء الأجل، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}. [سورة الحجر 99] فالموت هو الذي يقطع عليهم الاستمرار في فعل الخيرات ولذة المناجاة. فهم رهبان الليل، الذين ألفت قلوبهم الطاعة، وأحبت نفوسهم العبادة، يواصلون السير في طريقهم، ويداومون على العبادة في ليلهم ويومهم، قد واصلوا استغلالهم لقطار الطاعة ليواصل بهم رحلته في طلب المغفرة والرضا، والفوز بالجنة وبلوغ دار السعداء.
فسبحان من خالف بين قلوب العباد، وفرق بين الهمم، يمن على من يشاء بالهداية والتوفيق، ويصرف من أراد عنها. (7)
الشكر يحتاج إلى شكر
ثم اعلم أيها السالك إلى الله أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بشكر نعمة صيام
رمضان فقال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] فمن جملة شكر العبد لربه على توقيفه لصيام رمضان وإعانته عليه ومغفرة ذنوبه أن يصوم له شكرا عقب ذلك فقد كان بعض السلف إذا وفق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهارها صائما ويجعل صيامه شكرا لله أن وفقه لقيام هذه الليلة. (8)
ولله در القائل:
إذا أَنْتَ لَمْ تَزْدَدْ عَلى كُلِّ نِعْمَةٍ خُصِصْتَ بِها شُكْرًا فَلَسْتَ بِشاكِرِ(9)
يقول ابن رجب ‘: "إن كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا يحتاج إلى شكر عليها ثم للتوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر أخر وهكذا أبدا فلا يقدر العبد غلى القيام بشكر النعم وحقيقة الشكر الاعتراف بالعجز عن الشكر". (10)
كما أَنْشَدُونَا لِمَحْمُودٍ الْوَرَّاقِ:
إِذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللَّهِ نِعْمَةً عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ
فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلَّا بِفَضْلِهِ وَإِنْ طَالَتِ الْأَيَّامُ وَاتَّصَلَ الْعُمْرُ. (11)
وماذا بعد رمضان؟
أيها الأخوة الكرام، وماذا بعد شهر رمضان؟! ماذا عن آثار الصيام التي عملها في نفوس الصائمين؟! لننظر في حالنا، ولنتأمَّل في واقع أنفسنا ومجتمعاتنا وأمتنا، ولنقارن بين حالنا قبل حلول شهر رمضان وحالنا بعده، هل ملأت التقوى قلوبنا؟ هل صلحت أعمالنا؟ هل تحسَّنت أخلاقنا؟ هل استقام سلوكنا؟ هل اجتمعت كلمتنا وتوحَّدت صفوفنا ضدّ أعدائنا وزالت الضغائن والأحقاد من نفوسنا؟ هل تلاشت المنكراتُ والمحرمات من بيوتنا ومجتمعاتنا؟
أيها المسلمون، يا من استجبتم لربكم في رمضان، استجيبوا له في سائر الأيام، قال تعالى {اسْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الشورى: 47]، أما آن أن تخشع لذكر الله قلوبنا.
إن الناظر في حياة كثيرٍ من المسلمين اليومَ في رمضان وبعد رمضان يأسفُ أشدَّ الأسف لما عليه بعضُ الناس من هجرِ المساجد، وتركِ الجماعات، والتساهلِ في الصلوات، واعتزالِ الطاعات، والإقبال على أنواع المعاصي والمنكرات، واستمراء الفواحش والمحرمات، وما ذاك إلا من قلِّة البصيرة في الدين، وسوء الفهم لشعائر الإسلام وهذا دليلٌ على ضعف الإيمان في نفوس بعض الناس، فاتقوا الله عباد الله، فربُّ الشهور واحد، وهو على أعمالكم رقيب شاهد. (12)
مواصلة الطاعة بالطاعة
إن الطاعة لا تتوقف على موسم بعينه ولا شهر دون شهر وإنما الطاعة ممتدة ما بقي في العمر بقية لذلك ينبغي على من علم أن أنفاسه معدودة وأوقاته محسوبة وأجله مكتوب أن يحسن بعد الإحسان وأن يشكر بعد الشكر وأن يواصل فعل الخير وأن يجعل من رمضان بداية لحياة جديدة ولينظر إلى أعماله في رمضان التي كان يجتهد فيها من صيام وقيام وقراءة للقرآن واستغفار وصدقة وغير ذلك من أعمال البر والخير وليضع لنفسه جدولاً لما بعد رمضان.
أولاً مع الصيام:
كان من فضل الله علينا أننا بعد أن صمنا هذا الشهر الكريم لم يتوقف الصيام عند هذا الشهر فالنبي -صلى الله عليه وسلم- حثنا على مواصلة الصيام فقال "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا
مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ". (13)
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ". (14)
فانظر كم من أنواع الصيام جمعها النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث لتعلم أن الصيام لم يتوقف على رمضان فقط، وهناك أنواع أخرى حثنا عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- فأين أنت من هذا الخير العظيم؟.
ثانياً مع القيام
يا من تعودت قدماك على طول القيام في رمضان واستمتعت بلذة المناجاة بين يدي الله عز وجل أين أنت من قيام الليل بعد رمضان؟ تقول عَائِشَةَ ’ وقد سئلت كَيْفَ كَانَتْ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي رَمَضَانَ؟ قَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ قَالَ: "تَنَامُ عَيْنِي وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي". (15)
وما ترك قيام الليل قط حتى قبضه الله عز وجل يقول المُغِيرَةَ بن شعبة -رضي الله عنه-، قَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ،
قَالَ: "أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا". (16)
وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ". (17)
ثالثا مع القرآن:
لنستمر في قراءة القرآن بعد رمضان، فالقرآن هو غيث قلوبنا، فإن أردنا لتلك القلوب حياة حقيقية فما علينا إلا أن نجعلها تتعرض دومًا لهذا الغيث المبارك.
فعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ، لاَ رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الحَنْظَلَةِ، لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ". (18)
رابعاً كثرة الاستغفار والتوبة
الإكثار من الاستغفار فلعلنا نكون قد أُعجبنا ببعض أعمالنا خلال هذا الشهر، ولعلنا نكون قد قصرنا في بعض الأعمال، ولعلنا نكون قد ظننا خيرًا في أنفسنا ونسينا أن الله عز وجل هو سبب كل خير قمنا به.
ولنتذكر أن الاستغفار بعد الطاعة هو دأب الصالحين {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ} [البقرة: 199]. (19)
وعَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ -رضي الله عنه-، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ". (20) وعن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً".(21)
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
إن الفائزين في رمضان، كانوا في نهارهم صائمين، وفي ليلهم ساجدين، بكاءين
خشاعين، وفي الغروب والأسحار تسبيح، وتهليل، وذكرٌ، واستغفار، ما تركوا باباً من أبواب الخير إلا ولجوه، ولكنهم مع ذلك، قلوبهم وجله وخائفة. . . ! ! لا يدرون هل قُبلت أعمالهم أم لم تقُبل؟ وهل كانت خالصة لوجه الله أم لا؟ فلقد كان السلف الصالحون يحملون هّم قبول العمل أكثر من العمل نفسه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} {المؤمنون 60}.
فعَنْ عَائِشَةَ ’، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، أَهُوَ الَّذِي يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ قَالَ: "لَا، يَا بنية أَبِي بَكْرٍ - أَوْ: لا يَا ابنة الصِّدِّيقِ - وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيُصَلِّي، وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ". (22)
هذه هي صفة من أوصاف المؤمنين أي يعطون العطاء من زكاةٍ وصدقة، ويتقربون بأنواع القربات من أفعال الخير والبر وهم يخافون أن لا تقبل منهم أعمالهم يقول عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-: "كُونُوا لِقُبُولِ الْعَمَلِ أَشَدَّ هَمًّا مِنْكُمْ بِالْعَمَلِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا اللَّهَ يَقُولُ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. (23)
وعن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- قال: "لو أني أعلم أن الله تقبَّل مني مثقالَ حبةِ خردلٍ أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها لأن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ". (24)
فمن منا أشغله هذا الهاجس! ! قبول العمل أو رده، في هذه الأيام؟ ومن منا لهج لسانه بالدعاء أن يتقبل الله منه رمضان؟
ومن علامات قبول العمل:
1- الحسنه بعد الحسنه فمحافظة المسلم بعد رمضان على الطاعات، والقُربات دليل على رضى الله عن العبد، وإذا رضى الله عن العبد وفقه إلى عمل الطاعة وترك المعصية.
2- انشراح الصدر للعبادة والشعور بلذة الطاعة وحلاوة الإيمان، والفرح بتقديم الخير، حيث أن المؤمن هو الذي تسره حسنته وتسوءه سيئته.
3- التوبة من الذنوب من أعظم العلامات الدالة على رضى الله عن العبد وقبوله منه.
ثم احذر:
ذلك هو الخسران المبين
إياك ومقابلة نعم الله والتوفيق إليها، من صيام وقيام وصدقة بفعل المعاصي، وارتكاب المخالفات والمساوي، واقتراف الذنوب بعد تلك الأيام الفاضلة والليالي، انتكاس بعد توفيق ونكوص عن الحق، وغواية وضلال، وهوفعل من بدل نعمة الله كفرا، واختار طريق الضلالة والتعاسة، بعد أن سلك سبيل الهداية والسعادة، فإن كان قد بيَّت النية في صيامه لرمضان، وعزم على معاودة المعاصي بعد انقضاء شهر الصيام والقيام، فصيامه عليه مردود ". (25)
ثم إياك والتسويف فإنها مصيدة الشيطان
إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها. وقد تجد التسويف عند بعض الشباب، فبعضهم يجتهد في شهر رمضان، فإذا انقضى عاد إلى التسويف والمماطلة، وارتكاب المخالفات، وقد سئل أحد الصالحين: عن قوم يتعبدون ويجتهدون في رمضان، فإذا انقضى تركوا العبادة، فقال: بئس القوم لا يعرفون لله حقا إلا في شهر رمضان.
وهذا يرجع إلى أن الشاب يؤمل معاودة التوبة في آخر عمره، وهذا خطر؛ لأن الموت قد يفتك به وهو في رونق شبابه، وأقبح منه الشيخ المسن، فإنه إذا عاود المعصية بعد رمضان، كان ذلك أشنع وأفظع. (26)
وأخيراً احذر من العجب والرياء والنفاق والغرور
أيها الأحبة في الله: إياكم والعجب والغرور بعد رمضان! فربما حدثتكم أنفسكم أن لديكم رصيد كبير من الحسنات، أو أن ذنوبكم قد غُفرت فرجعتم كيوم ولدتكم أمهاتكم، فما زال الشيطان يغريكم والنفس تلهيكم حتى تكثروا من المعاصي والذنوب، ربما تعجبكم أنفسكم فيما قدمتموه خلال رمضان. . . فإياكم ثم إياكم والمنُّ على الله بالعمل، فإن الله عز وجل يقول: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (المدثر-6).
مرّ وُهَيب بن الورد ‘ على أناس يلهُون ويلعبون أيامَ العيد فقال لهم: "عجباً لكم! إن كان الله قد تقبَّل صيامَكم فما هذا عملُ الشاكرين، وإن كان الله لم يتقبَّله منكم فما هذا عمل الخائفين".(27)
تنبيهات مهمة على أمور تحدث في يوم العيد
1- لا يجوز للمرأة أن تخرج إلى العيد متبرجة متزينة متعطرة قال الله تعالى: { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]
وعَنْأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-،: (( أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ، فَمَرَّتْ بِقَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ)). (28)
2- الحذر من الاختلاط المحرم بين الرجال والنساء، وهو محرم كل وقت وحين. وإنما حصل التنبيه هنا لكثرة اجتماع الناس في هذا اليوم وتكرر الزيارات واللقاءات العائلية فيه.
3- تحرم مصافحة المرأة للرجال الأجانب. فعن مَعْقِل بْن يَسَارٍ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ)). (29)
4- صلة الرحم فريضة وأمر حتم، وقطيعة الرحم كبيرة من كبائر الذنوب، فعن جُبَيْر بْن مُطْعِمٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ)). (30) ويوم العيد فرصة لصلة الرحم وزيارة الأقارب وإدخال السرور عليهم.
وهذا من جلائل الأعمال وسبب في بسط الرزق والبركة في العُمُر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)). (31)
ولا تكن صلتك لأقاربك مكافأة لهم على قيامهم بحقك، بل صلهم ولو قطعوك، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا)). (32)
5- العيد مناسبة طيبة لتصفية القلوب، وإزالة الشوائب عن النفوس وتنقية الخواطر مما علق بها من بغضاء أو شحناء، فلنغتنم هذه الفرصة، ولنجدد المحبة، وتحل المسامحة والعفو محل العتب والهجران، مع جميع الناس من الأقارب والأصدقاء والجيران. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (( وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا )). (33)
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ)). (34)
والحمد لله رب العالمين
---
(1) موسوعة خطب المنبر (ص: 2634).
(2) خطب المسجد النبوي (ص: 40).
(3) صفحات رمضانية لعبد الكريم بن صنيتان العمري معاصر (ص: 89).
(4) موسوعة خطب المنبر (ص: 2634).
(5) موسوعة خطب المنبر (ص: 2218).
(6) صحيح مسلم (1/ 65) رقم 62 (38).
(7) صفحات رمضانية (ص: 90).
(8) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 221).
(9) بهجة المجالس وأنس المجالس لابن عبد البر (ص: 67) من قول أبي العتاهية.
(10) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 221).
(11) فضيلة الشكر لله على نعمته لأبي بكر محمد بن جعفر بن محمد بن سهل بن شاكر الخرائطي السامري (ت: 327هـ) (ص: 47).
(12) موسوعة خطب المنبر (ص: 2634).
(13) صحيح مسلم (2/ 822) رقم 204 (1164) من حديث أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ ÷.
(14) صحيح مسلم (2/ 818) رقم 196(1162).
(15) صحيح البخاري (4/ 191) رقم 3569.
(16) صحيح البخاري (6/ 135) رقم 4836.
(17) صحيح البخاري (2/ 54) رقم 1152.
(18) صحيح البخاري (7/ 77) رقم 5427.
(19) كيف نحيي قلوبنا في رمضان (ص: 17).
(20) صحيح مسلم (4/ 2075) رقم 41 (2702).
(21) صحيح البخاري (8/ 67) رقم 6307.
(22) أخرجه ابن ماجه في سننه 4198، والترمذي (3175). وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (162).
(23) أخرجه ابن أبي الدنيا في الإخلاص والنية (ص: 39) رقم 10.
(24) أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص19)، وأبو نعيم في الحلية (2/17).
(25) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 222). بتصرف يسير.
(26) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 222) بتصرف.
(27) أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر (ص/14)، ومن طريقه البيهقي في فضائل الأوقات (ص /322).
(28) رواه أحمد (4/ 413) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 525)
(29) رواه الطبراني (486) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 900)
(30) متفق عليه.
(31) متفق عليه.
(32) رواه البخاري (5991)
(33) رواه مسلم (2588)
(34) متفق عليه.