الصفح والعفو
الصفح لغة:
قال ابن فارس: (صَفَحَ) الصَّادُ وَالْفَاءُ وَالْحَاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ مُطَّرِدٌ يَدُلُّ عَلَى عَرْضٍ وَعِرَضٍ. مِنْ ذَلِكَ صَفْحُ الشَّيْءِ: عَرْضُهُ. وَيُقَالُ: رَأْسٌ مُصْفَحٌ: عَرِيضٌ. ([1])
وصَفَحْتُ عن فلانٍ، إذا أعْرضْتَ عن ذَنْبِه. وقد ضَرَبْتُ عنه صَفْحاً، إذا أعْرَضْتَ عنه وتركتَه.([2])
الصفح اصطلاحا: إِزَالَةُ أَثَرِ الذنبِ مِنَ النَّفْسِ. صَفَحْتُ عَنْ فُلَانٍ إِذَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذَنْبِهِ. وَقَدْ ضَرَبْتُ عَنْهُ صَفْحًا إِذَا أَعْرَضْتُ عَنْهُ وَتَرَكْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً "، وهو يشمل ترك العقاب وترك اللوم والتثريب([3]).
أما العفو فهو: هُوَ التَّجاوُزُ عَنِ الذَّنْبِ وتَرْكُ العِقابِ عَلَيْهِ، وأَصلُه المَحْوُ والطَّمْس. ([4])
قال القرطبي: وَالْعَفْوُ: تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ. ([5])
الفرق بين العفو والصفح:
قال أبو البقاء: الصفح: هُوَ ترك التثريب، وَهُوَ أبلغ من الْعَفو، وَقد يفعو الْإِنْسَان وَلَا يصفح.([6])
وقال الدكتور سعيد القحطاني: الصفح أبلغ من العفو، وقد أمر الله بالعفو والصفح، والعفو هو التجاوز عن الذنب، وترك العقاب عليه، أما الصفح فهو أبلغ من العفو؛ لأن الصفح هو ترك التثريب، والإعراض عن الذنب، وتجاوز الصفحة التي كتب فيها الذنب، {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}. ويُقال: صفحت عنه: أي أوليته مني صفحة جميلة معرضاً عن ذنبه. ([7])
الهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل
قال ابن تيمية ‘: وَالله تَعَالَى ذكر فِي الْقُرْآن الهجر الْجَمِيل والصفح الْجَمِيل وَالصَّبْر الْجَمِيل وَقد قيل: إِن الهجر الْجَمِيل هُوَ هجر بِلَا أَذَى والصفح الْجَمِيل صفح بِلَا معاتبة وَالصَّبْر الْجَمِيل صَبر بِغَيْر شكوى إِلَى الْمَخْلُوق وَلِهَذَا قرئَ على أَحْمد بن حَنْبَل فِي مَرضه: إِن طاوسا كَانَ يكره أَنِين الْمَرِيض وَيَقُول: إِنَّه شكوى فَمَا أنّ أَحْمد حَتَّى مَاتَ.
وَأما الشكوى إِلَى الْخَالِق فَلَا تنَافِي الصَّبْر الْجَمِيل فَإِن يَعْقُوب قَالَ:{فَصَبر جميل} [يُوسُف83:]، وَقَالَ: {إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله}[يُوسُف:86]. ([8])
فضائل الصفح والعفو في القرآن الكريم:
1- العفو الصفح من صفات المحسنين الذين يحبهم الله عز جل
قال الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة:13)
قال ابن كثير: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} وَهَذَا هُوَ عَيْنُ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السلف: ما عاملت من عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ. وَبِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تَأْلِيفٌ وَجَمْعٌ عَلَى الْحَقِّ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يَعْنِي بِهِ: الصَّفْحَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ. ([9])
وقال أبو حيان: ظَاهِرُهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالصَّفْحُ عَنْهُمْ جَمِيعِهُمْ، وَذَلِكَ بَعْثٌ عَلَى حُسْنِ التَّخَلُّقِ مَعَهُمْ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ([10]).
2- قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (الحجر: 85)، وكم في هذه الآية الكريمة من تهديد ووعيد لهؤلاء؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- بيَّن أنه الإله القوي القادر القاهر حين قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} وذكر سبحانه أن الموعد هو الساعة، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وعلى رسول اللهﷺ بل وعلى المؤمنين مع رسول اللهﷺ أن يصفحوا الصفح الجميل.
والصفح الجميل هو الذي لا عتاب فيه، فهذا من الرَّدّ العملي على كيد الكائدين، وحقد الحاقدين وحسد الحاسدين أنه لا يعاتبهم، ولا يتحدَّث إليهم، ولا يناقشهم، ولا يسألهم عن الأسباب التي دعتهم لكل هذا الكيد الرهيب العجيب الذي تآمر فيه أهل الكتاب مع كل أعداء الإسلام، يريدون إطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون. .
حكى محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} قال: هو الرضا بلا عتاب. وقال سهل: بلا حقد ولا توبيخ بعد الصفح، وهو الإعراض الجميل. ([11])
وذهب بعض العلماء إلى نسخ الأمر بالصفح والعفو في هذه الآيات
وقال البغوي: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَاعْفُ عَفْوًا حَسَنًا نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ([12]).
ورد ذلك الرازي فقال: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أَيْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَاحْتَمِلْ مَا تَلْقَى مِنْهُمْ إِعْرَاضًا جَمِيلًا بِحِلْمٍ وَإِغْضَاءٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُظْهِرَ الْخُلُقَ الْحَسَنَ وَالْعَفْوَ وَالصَّفْحَ، فَكَيْفَ يَصِيرُ مَنْسُوخًا([13]).
قلت: لعل هذا من اختلاف التنوع ولا مانع من الجمع بين القولين: وأنه ﷺ أمر بالجهاد والقتال فيما يختص بحق الله تعالى وأنه أمر بالعفو والصفح في حق نفسه وكان هذا ديدنه ﷺ فعَنْ عَائِشَةَ ’، أَنَّهَا
قَالَتْ: " وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا"([14])
قال الراغب: والعفو إنما يستحب فيما إذا كانت الإساءة مخصوصة بالعافي كمن أخذ ماله، أو شتم عرضه، فأما إذا كانت الإساءة عائدة بالضرر على الشرع أو على جماعة الناس فإنه إن كان فيها أدنى شبهة فللسلطان العفو لقولهﷺ: " ادرؤوا الحدود بالشبهات "
وإن لم يكن شبهة فليس له العفو؛ ولهذا قال تعالى في الزنى: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. ([15])
وقال النسفي: وإن أريد به المخالقة فلا يكون منسوخاً([16]).
3- العفو والصفح بين العباد سبب لعفو الله عنهم
قال الله تعالى {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 22)
قال الشنقيطي ‘: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ ÷ وَمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ مِسْطَحٌ الْمَذْكُورُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَهُوَ فَقِيرٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ ابْنَةَ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ ÷ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ لِفَقْرِهِ وَقَرَابَتِهِ وَهِجْرَتِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ’ بِالْإِفْكِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الْآيَةَ، وَهُوَ مَا رَمَوْهَا بِهِ مِنْ أَنَّهَا فَجَرَتْ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيِّ ÷وَقِصَّةُ الْإِفْكِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ ثَابِتَةٌ فِي عَشْرِ آيَاتٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةُ عَائِشَةَ’ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ، وَلَا يَنْفَعَهُ بِنَافِعَةٍ بَعْدَ مَا رَمَى عَائِشَةَ بِالْإِفْكِ ظُلْمًا وَافْتِرَاءً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَيْ: لَا يَحْلِفْ، فَقَوْلُهُ: "يَأْتَلِ" وَزْنُهُ يَفْتَعِلُ مِنَ الْأَلِيَّةِ وَهِيَ الْيَمِينُ، تَقُولُ الْعَرَبُ آلَى يُؤْلِي وَائْتَلَى يَأْتَلِي إِذَا حَلَفَ، أَيْ: لَا يَحْلِفُ أَصْحَابُ الْفَضْلِ وَالسِّعَةِ، أَيِ: الْغِنَى كَأَبِي بَكْرٍ ÷ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وَقَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتُوا، أَيْ: لَا يَحْلِفُوا عَنْ أَنْ يُؤْتُوا، أَوْ لَا يَحْلِفُوا أَلَّا يُؤْتُوا وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ قَبْلَ الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنْ وَصْلَتِهِمَا مُطَّرِدٌ. وَكَذَلِكَ حَذْفُ لَا النَّافِيَةِ قَبْلَ الْمُضَارِعِ بَعْدَ الْقَسَمِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ هُنَا كَوْنُ الْقَسَمِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَمَفْعُولُ يُؤْتُوا الثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى النَّفَقَةَ وَالْإِحْسَانَ، كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ ÷. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَوْلُهُ: وَلَا يَأْتِلِ، أَيْ: لَا يُقَصِّرُ أَصْحَابُ الْفَضْلِ، وَالسِّعَةِ كَأَبِي بَكْرٍ فِي إِيتَاءِ أُولَى الْقُرْبَى كَمِسْطَحٍ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ يَأْتَلِ يَفْتَعِلُ مِنْ أَلَا يَأْلُو فِي الْأَمْرِ إِذَا قَصَّرَ فِيهِ وَأَبْطَأَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا، أَيْ لَا: يُقَصِّرُونَ فِي مَضَرَّتِكُمْ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ حَلِفَ أَبِي بَكْرٍ أَلَّا يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ، وَنُزُولَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي ذَلِكَ الْحَلِفِ مَعْرُوفٌ. وَهَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ عَنْ فِعْلِ الْبِرِّ مِنْ إِيتَاءِ أُولَى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُهَاجِرِينَ، جَاءَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ، أَيْ: لَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، فَإِذَا قِيلَ لَكُمُ: اتَّقُوا وَبَرُّوا، وَأَصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ قُلْتُمْ: حَلَفْنَا بِاللَّهِ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، فَتَجْعَلُوا الْحَلِفَ بِاللَّهِ سَبَبًا لِلِامْتِنَاعِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الآيَةِ {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} فِيهِ الْأَمْرُ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ إِخْوَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْفُوا عَنْ إِسَاءَتِهِمْ وَيَصْفَحُوا وَأَصْلُ الْعَفْوِ: مِنْ عَفَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ إِذَا طَمَسَتْهُ.
وَالْمَعْنَى: فَلْيَطْمِسُوا آثَارَ الْإِسَاءَةِ بِحِلْمِهِمْ وَتَجَاوُزِهِمْ، وَالصَّفْحُ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مُشْتَقٌّ مِنْ صَفْحَةِ الْعُنُقِ، أَيْ: أَعْرِضُوا عَنْ مُكَافَأَةِ إِسَاءَتِهِمْ حَتَّى كَأَنَّكُمْ تَوَلَّوْنَهَا بِصَفْحَةِ الْعُنُقِ، مُعْرِضِينَ عَنْهَا. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران : 133 – 134) وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كَظْمَ الْغَيْطِ وَالْعَفْوَ عَنِ النَّاسِ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكَفَى بِذَلِكَ حَثًّا عَلَى ذَلِكَ، وَدَلَّتْ أَيْضًا: عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهُ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء : 149] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذَا الْآيَةِ أَنَّ الْعَفْوَ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، وَكَفَى بِذَلِكَ حَثًّا عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [ الحجر: 85] وَكَقَوْلِهِ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى : 43] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ عَلَى الْمُسِيءِ الْمُسْلِمِ مِنْ مُوجِبَاتِ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلِذَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ نُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا، وَرَجَعَ لِلْإِنْفَاقِ فِي مِسْطَحٍ، ([17])
4- قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التغابن: 14)
وقال السعدي: هذا تحذير من الله للمؤمنين، من الاغترار بالأزواج والأولاد، فإن بعضهم عدو لكم، والعدو هو الذي يريد لك الشر، ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي ورغبهم في امتثال أوامره، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإن في ذلك، من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لأن الجزاء من جنس العمل، وفمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له، ومن عامل الله فيما يحب، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم، نال محبة الله
ومحبة عباده، واستوثق له أمره. ([18])
5- وردت في كتاب الله وصفًا لله تعالى، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}
قال الطبري ‘: "فإن الله كان عفوًّا"، يقول: لم يزل ذا عفوٍ عن خلقه، يصفح عمن عصَاه وخالف أمره "قديرًا"، يقول: ذا قدرة على الانتقام منهم.
وإنما يعني بذلك: أن الله لم يزل ذا عفو عن عباده، مع قدرته على عقابهم على معصيتهم إيّاه.
يقول: فاعفوا، أنتم أيضًا، أيها الناس، عمن أتى إليكم ظلمًا، ولا تجهروا له بالسوء من القول، وإن قدرتم على الإساءة إليه، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته على عقابكم، وأنتم تعصونه وتخالفون أمره([19]).
الدعاء باسم الله العفو دعاء مسألة.
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في حديث عائشة رضي الله عنها الذي تقدم وفيه أنها قالت: ( يَا رَسُولَ اللهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، مَا أَدْعُو؟ قَالَ: تَقُولِينَ اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ) (1)، وورد الدعاء بالوصف في قوله تعالى: { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة: 286]،
الدعاء باسم الله العفو دعاء عبادة
دعاء العبادة هو أثر الاسم على سلوك العبد وتوحيد الله فيه، فيعفوا عن الظالمين ويعرض عن الجاهلين، وييسر علي المعسرين طلبا لعفو الله عند لقائه، وقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يتصدق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه، فلما شارك المنافقين في اتهام أم المؤمنين عائشة بالإفك وبرأها الله - عز وجل -، قال أبو بكر: ( وَاللهِ لاَ أُنْفِقُ عَلى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَال لعَائِشَةَ، فَأَنْزَل اللهُ سبحانه وتعالى : { وَلا يَأْتَل أُولو الفَضْل مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولي القُرْبَي وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيل اللهِ وَليَعْفُوا وَليَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور: 22]، فَقَال أَبُو بَكْرٍ: بَلى، وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لي، فَرَجَعَ إِلى مِسْطَحٍ الذِي كَانَ يُجْرِي عَليْهِ ). ([20])
6- العفو والصفح صفة من صفات أهل الجنة
قال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133] قال الشنقيطي: وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كَظْمَ الْغَيْطِ وَالْعَفْوَ عَنِ النَّاسِ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكَفَى بِذَلِكَ حَثًّا عَلَى ذَلِكَ، وَدَلَّتْ أَيْضًا: عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهُ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ([21]).
7- صفة للمؤمنين مدحهم الله عليها
قال تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37].
قال ابن كثير: أَيْ: سَجِيَّتُهُمْ وَخَلْقُهُمْ وَطَبْعُهُمْ تَقْتَضِي الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ عَنِ النَّاسِ، لَيْسَ سَجِيَّتُهُمُ الِانْتِقَامَ مِنَ النَّاسِ، وقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ ([22]).
فضل العفو والصفح في السنة النبوية
1- التأسي برسول الله ﷺ ومواقفه في ذلك كثيرة.
ومنهاعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ÷ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ ﷺ قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ "أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ"([23])
قال النووي: فِيهِ احْتِمَالُ الْجَاهِلِينَ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ مُقَابَلَتِهِمْ وَدَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ وَإِعْطَاءُ مَنْ
يُتَأَلَّفُ قَلْبَهُ وَالْعَفْوُ عَنْ مُرْتَكِبِ كَبِيرَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا بِجَهْلِهِ وَإِبَاحَةُ الضَّحِكِ عِنْدَ الْأُمُورِ الَّتِي يُتَعَجَّبُ مِنْهَا فِي الْعَادَةِ وَفِيهِ كَمَالُ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَحِلْمِهِ وَصَفْحِهِ الْجَمِيلِ([24])
ومنها: حديث عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ ^، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: " أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا " ([25])
2- طلب العزة بالعفو عن الناس
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ"([26]).
قال النووي: فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ سَادَ وَعَظُمَ فِي الْقُلُوبِ وَزَادَ عِزُّهُ وَإِكْرَامُهُ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ وَعِزُّهُ هُنَاكَ ([27]).
3- عن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ، فَصَمَتَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ، قَالَ: "اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً"([28])
قال القاري: الْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ مُقْتَبَسٌ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]([29])
4- عن حُذَيْفَةَ ÷ حَدَّثَهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: " تَلَقَّتِ المَلاَئِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، قَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ المُوسِرِ، قَالَ: قَالَ: فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ "، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ: "كُنْتُ أُيَسِّرُ عَلَى المُوسِرِ، وَأُنْظِرُ المُعْسِرَ"، وَتَابَعَهُ شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ رِبْعِيٍّ، وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ: عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ رِبْعِيٍّ: "أُنْظِرُ المُوسِرَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ المُعْسِرِ"، وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ: "فَأَقْبَلُ مِنَ المُوسِرِ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ المُعْسِرِ([30])"
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ÷ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: " كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ ([31])"
صور مشرقة:
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ))([32]).
2- عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ^، أَخْبَرَ: أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ القَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ سَمُرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي، وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللَّهُ، - ثَلاَثًا - " وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ([33])
3- عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ، حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ: " لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا([34]) "
4- عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ^، قَالَ: "قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا"، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "فَاسْتَأْذَنَ الحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ"، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، "وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ"([35])
قال ابن حجر: وَمَعْنَى مَا جَاوَزَهَا مَا عَمِلَ بِغَيْرِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بَلْ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا وَلِذَلِكَ قَالَ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ أَيْ يَعْمَلُ بِمَا فِيهِ وَلَا يَتَجَاوَزُهُ وَفِي هَذَا تَقْوِيَةٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ.
5- غضب سليمان بن عبد الملك على خالد القسري، فلما أدخل عليه قال: يا أمير المؤمنين إن القدرة تذهب الحفيظة وإنك تجل عن العقوبة، فإن تعف فأهل لذلك أنت، وإن تعاقب فأهل لذلك أنا، فعفا عنه. .
6- قال الشافعي- ‘-:
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ. . . أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ
إنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ. . . لِأَدْفَعَ الشَّرَّ عَنِّي بِالتَّحِيَّاتِ
وَأُظْهِرُ الْبِشْرَ لِلْإِنْسَانِ أَبْغَضُهُ. . . كَأَنَّمَا قَدْ حَشَى قَلْبِي مَحَبَّاتِ
النَّاسُ دَاءٌ دَوَاءُ النَّاسِ قُرْبُهُمْ. . . وَفِي اعْتِزَالِهِمْ قَطْعُ الْمَوَدَّاتِ ([36])
وقال منصور بن محمد الكريزي:
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب. . . وإن كثرت منه إلى الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثة. . . شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف فضله. . . وأتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دوني فإن قال صنت عن. . . إجابته عرضي وإن لام لائم
وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا. . . تفضلت إن الحلم للفضل حاكم([37])
والحمد لله رب العالمين