فضل شهر الله المحرم وعاشوراء
عناصر الخطبة:
وداع عام هجري
نبذة عن الأشهر الحرم
فضل الصيام في المحرم
فضل صيام عاشوراء
بدع ومخالفات في يوم عاشوراء
التفصيل
مقدمة: ها نحن قد ودعنا عامًا هجريًا كاملاً، قد مضى بما أودعناه فيه من خير أو شر، ولا رجعة له إلى يوم الدين، فقد طويت أيامه، وأحصيت أعماله من حسن وسيئ، وعمل صالح أو طالح، ولا نزال نطوي الأيام حتى يقف عمُرُ كلِّ واحدٍ منا حيث كُتب له من السنين والأيام، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف: 34] والعاقل من اتعظ بمرور أيامه وطي سجلاته، واستعد لما أمامه، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 54 - 58]
نبذة عن الأشهر الحرم:
عباد الله، نحن الآن في شهر الله المحرم أول شهور السنة الهجرية، وقد امتاز هذا الشهر ببعض الفضائل التي يجدر التنبيه إليها، فهو من الأشهر الحرم التي قال الله تعالى فيها: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]
وسُميتْ هذه الأشهر حُرُما لتعظيم انتهاك المحارم فيها، فالمعصية فيها أشدّ عقابا، وبالمقابل فإن الطاعة فيها تكون أكثر ثوابا.
قال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباس رضي الله عنهما: اختصَّ اللَّهُ أربعةَ أشهر جعلهُنَّ حُرمًا، وعظَّمَ حُرماتهنَّ، وجعل الذَّنْبَ فيهن أعظمَ، وجعلَ العملَ الصالحَ والأجر أعظم.
وقال كعبٌ الأحبار رحمه الله: اختارَ اللَّهُ الزمان، فأحبُّهُ إلى اللَّه الأشهر الحُرُمُ. ([1])
** وقد بلغ تلاعب المشركين بالأشهر مبلغاً غيَّرها عن هيئتها الأولى يومَ خلق اللهُ السماوات والأرض، ولو استمرتْ على تلاعبهم لما كان يقينٌ في صوم ولا حجّ ولضاعتْ معالم الدين وشعائره، ولكنَّ الله بفضله وكرمه جعل حجة النبيِّ ﷺ في السنة العاشرة من الهجرة منطلقاً لضبط الأشهر، فوقوفه ﷺ بعرفة واقع موقعه في اليوم التاسع من ذي الحجة، وعيده في اليوم العاشر منه أيضاً، وأعلنها ﷺ صريحة كما في حديث أَبِي بَكْرَةَ ÷، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (( إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ، مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى، وَشَعْبَانَ )). ([2])
قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَمَسَّكُونَ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ فِي تَحْرِيمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَأْخِيرُ الْقِتَالِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مُتَوَالِيَاتٍ فَكَانُوا إِذَا احْتَاجُوا إِلَى قِتَالٍ أَخَّرُوا تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمِ إِلَى الشَّهْرِ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ صَفَرٌ ثُمَّ يُؤَخِّرُونَهُ فِي السَّنَةِ الْأُخْرَى إِلَى شَهْرٍ آخَرَ وَهَكَذَا يَفْعَلُونَ فِي سَنَةٍ بَعْدَ سَنَةٍ حَتَّى اخْتَلَطَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ وَصَادَفَتْ حَجَّةُ النَّبِيِّ ﷺ تَحْرِيمَهُمْ وَقَدْ تَطَابَقَ الشَّرْعُ وَكَانُوا فِي تِلْكَ السَّنَةِ قَدْ حَرَّمُوا ذَا الْحِجَّةِ لِمُوَافَقَةِ الْحِسَابِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الِاسْتِدَارَةَ صَادَفَتْ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. ([3])
* فهذه نبذة عن هذه الأشهر العظيمة التي لا يعرفها الكثير منا رغم معرفتنا بأشهر النصارى شهرًا شهرًا، فأكثر الناس لا يعرف ذكر الأشهر العربية ولا ترتيبها، فكيف سيعرف الأشهر الحرم؟! وهذا الجهل بالأشهر القمرية والأخذ بغيرها مفسدة عظيمة؛ لأنه مخالف لما كان عليه رسول الله وأصحابه، ولأنه يُفوِّت على المسلم بعض الشعائر وفضائل الأعمال التي لا تعرف إلا بمعرفة هذه الأشهر، كصيام الأيام البيض مثلاً وهي أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر هجري، التي حثَّ رسول الله على صيامها، فكيف سيصوم هذه الأيام من لا يعرف متى دخل الشهر القمري ومتى خرج؟!
فضل الصيام في المحرم:
وهذا الشهر الذي نحن فيه الآن هو شهر المحرم، شهر عظيم من الأشهر الحرم، نسبه الله عز وجل لنفسه تعظيماً لشأنه ورفعاً لقدره، وقد ورد عنه ﷺ الترغيب في صيام شهر المحرم، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ÷ يَرْفَعُهُ، قَالَ: سُئِلَ النبي ﷺ: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ؟ وَأَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ: "أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، صِيَامُ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ" ([4])
قَالَ أَبُو عبيد رحمه الله: إِنَّمَا نسبه إِلَى الله عز وَجل - والشهور كلهَا لَهُ - لتشريفه وتعظيمه، وكل مُعظم ينْسب إِلَيْهِ. ([5])
قال النووي رحمه الله: قَالَ أَصْحَابُنَا وَمِنْ الصَّوْمِ الْمُسْتَحَبِّ صَوْمُ الأشهر الحرم وهي ذوالقعدة وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ وَأَفْضَلُهَا الْمُحَرَّمُ. ([6])
سبب تعظيم يوم عاشوراء:
يوم عاشوراء يوم عظيم، وهو يوم من أيام الله سبحانه، نجَّى فيه نبيه موسى عليه السلام من عدوه فرعون بعد أن تكبر فرعون ورفض دين الحق ولم يسمح لبني إسرائيل باتباع موسى عليه السلام، بل إنه أنكر وجود رب العالمين وقال بكل تكبر وتجبر: ((مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي )) [القصص: 38]، ويبين لنا القرآن كيف أهلك الله عز وجل فرعون وجنوده لما طاردوا موسى عليه السلام وبني إسرائيل، فنجى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وجنوده، وجعلهم عبرة للمعتبرين، يقول سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 52 - 68]، هكذا ذكر لنا القرآن هذه القصة العظيمة وهذه الملحمة والمعركة من معارك الكفر والإيمان التي نصر الله فيها أولياءه وهزم أعداءه، وكانت الغلبة فيها لدينه وشرعه، وجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فهذا الشهر إذًا شهر عظيم، فيه هذه المناسبة العظيمة التي ينبغي أن نقف عندها ونتأمّلها ونستفيد من دلالاتها.
فظل اليهود يعظمون هذا اليوم العظيم يوم عاشوراء، وعندما هاجر رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة وجدهم يصومون هذا اليوم، وعندما علم السبب جعله يوما مميزا من أيام المسلمين، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْهَرَ اللهُ فِيهِ مُوسَى، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ فَأَمَرَ بِصَوْمِهِ". ([7])
نعم إخوة الإيمان، نحن أحق بموسى منهم؛ لأن الانتماء إلى الأنبياء ليس انتماء نسب أو بلد، إنما الانتماء للأنبياء يكون باتباع هديهم وتعاليمهم، والمسلمون هم الذين يتبعون هدي الأنبياء وعقائدهم ويؤمنون بهم جميعا، ((لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ)) [البقرة: 285]، لهذا كانوا أحق بالأنبياء من أقوامهم الذين كفروا بهم وحرفوا دينهم وبدلوا شرعهم، يقول سبحانه تصديقا لهذا: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68].
فضل صيام يوم عاشوراء:
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ". ([8])
ويصور ابن عباس رضي الله عنهما حرص النبي ﷺ على صيامه فعن ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أنه سُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الْأَيَّامِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ وَلَا شَهْرًا إِلَّا هَذَا الشَّهْرَ. يَعْنِي رَمَضَانَ. ([9])
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأنصاري ÷ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال " صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ". ([10]) و في رواية: أنه ﷺ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ"
قال البيهقي رحمه الله: وَهَذَا فِيمَنْ صَادَفَهُ صَوْمُهُ وَلَهُ سَيِّئَاتٌ يَحْتَاجُ إِلَى مَا يُكَفِّرُهَا فَإِنْ صَادَفَهُ صَوْمُهُ وَقَدْ كُفِّرَتْ سَيِّئَاتُهُ بِغَيْرِهِ انْقَلَبَتْ زِيَادَةً فِي دَرَجَاتِهِ. ([11])
وكان للنبي ﷺ في صيامه أربع حالات: الحالة الأولى: أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بالصوم، عن عَائِشَةَ رضي الله عنهما، قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ. ([12])
الحالة الثانية:أن النبي ﷺ لما قدم المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له وتعظيمهم له وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به صامه وأمر الناس بصيامه وأكد الأمر بصيامه والحث عليه حتى كانوا يصومونه أطفالهم، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟ " فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِﷺ: "فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ". ([13])
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ "، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: "فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ"، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. ([14])
وعَنْ أَبِي مُوسَى ÷ قَالَ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ اليَهُودُ عِيدًا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "فَصُومُوهُ أَنْتُمْ". ([15])
وعَنْ أَبِي مُوسَى÷ قَالَ: كَانَ أَهْلُ خَيْبَرَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حُلِيَّهُمْ وَشَارَتَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "فَصُومُوهُ أَنْتُمْ". ([16])
وعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ، قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ، الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: "مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ" فَكُنَّا، بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ ". ([17])
الحالة الثالثة:أنه لما فرض صيام شهر رمضان ترك النبي ﷺ أمر الصحابة بصيام عاشوراء وتأكيده فيه وقد سبق حديث عائشة في ذلك، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: صَامَ النَّبِيُّ ﷺ عَاشُورَاءَ،
وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لاَ يَصُومُهُ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمَهُ. ([18])
وعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما، يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ حَجَّ عَلَى المِنْبَرِ يَقُولُ: يَا أَهْلَ المَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، يَقُولُ: "هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ، فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ، فَلْيُفْطِرْ". ([19])
الحالة الرابعة:أن النبي ﷺ عزم في آخر عمره على أن لا يصومه مفردا بل يضم إليه يوما آخر مخالفة لأهل الكتاب في صيامه فعن عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، يَقُولُ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ" قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ. ([20])
وعند الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "إِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللهُ إِلَى قَابِلٍ صُمْتُ التَّاسِعَ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَفُوتَنِي يَوْمُ عَاشُورَاءَ". ([21])
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَخَالِفُوا فِيهِ الْيَهُودَ، صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا، أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا)). ([22])
وممن رأى صيام التاسع والعاشر: الشافعي وأحمد وإسحاق وكره أبو حنيفة إفراد العاشر بالصوم. ([23])
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَامَهُ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ التَّاسِعَ؛ لِأَنَّ هَذَا آخَرُ أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ لِقَوْلِهِ: {لَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَن التَّاسِعَ مَعَ الْعَاشِرِ}. ([24])
قال النووي رحمه الله: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَآخَرُونَ يُسْتَحَبُّ صَوْمُ التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ جَمِيعًا لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَامَ الْعَاشِرَ وَنَوَى صِيَامَ التَّاسِعِ. ([25])
قال ابن القيم رحمه الله: فَمَرَاتِبُ صَوْمِهِ ثَلَاثَةٌ أَكْمَلُهَا: أَنْ يُصَامَ قَبْلَهُ يَوْمٌ وَبَعْدَهُ يَوْمٌ، وَيَلِي ذَلِكَ أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ، وَيَلِي ذَلِكَ إِفْرَادُ الْعَاشِرِ وَحْدَهُ بِالصَّوْمِ. ([26])
يوم عاشوراء بين الإفراط والتفريط:
اعلموا أن يوم عاشوراء لا يميز عن غيره من الأيام بفرح أو حزن، إذ إن هذا من صنيع الضالين والمبتدعين، فقد كان هذا اليوم عند اليهود عيدًا كما أشارت إلى ذلك الأحاديث السابقة، وهو عند الرافضة يوم مأتم وحزن بحجة أنه اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي رضي الله عنه.
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية رحمه الله: عَمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ الْكُحْلِ وَالِاغْتِسَالِ وَالْحِنَّاءِ. وَالْمُصَافَحَةِ وَطَبْخِ الْحُبُوبِ وَإِظْهَارِ السُّرُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: فَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ حَدِيثٌ صَحِيحٌ؟ أَمْ لَا؟ وَمَا تَفْعَلُهُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مِنْ الْمَأْتَمِ وَالْحُزْنِ وَالْعَطَشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ وَقِرَاءَةِ الْمَصْرُوعِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ. هَلْ لِذَلِكَ أَصْلٌ؟ أَمْ لَا؟.
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. لَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ. وَلَا رَوَى أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ. فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَا عَنْ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا.([27])
وقسم رحمه الله ما وقع من أهل البدع في هذا اليوم على ضربين فقال: فَصَارَتْ طَائِفَة جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ: إمَّا مُلْحِدَةً مُنَافِقَةً وَإِمَّا ضَالَّةً غَاوِيَةً تُظْهِرُ مُوَالَاتَهُ وَمُوَالَاةَ أَهْلِ بَيْتِهِ تَتَّخِذُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مَأْتَمٍ وَحُزْنٍ وَنِيَاحَةٍ وَتُظْهِرُ فِيهِ شِعَارَ الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ لَطْمِ الْخُدُودِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَالتَّعَزِّي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ. . . . وَإِنْشَادِ قَصَائِدِ الْحُزْنِ وَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا كَذِبٌ كَثِيرٌ وَالصِّدْقُ فِيهَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَجْدِيدُ الْحُزْنِ وَالتَّعَصُّبُ وَإِثَارَةُ الشَّحْنَاءِ وَالْحَرْبِ وَإِلْقَاءُ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ وَالتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلَى سَبِّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَكَثْرَةِ الْكَذِبِ وَالْفِتَنِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَعْرِفْ طَوَائِفُ الْإِسْلَامِ أَكْثَرَ كَذِبًا وَفِتَنًا وَمُعَاوَنَةً لِلْكُفَّارِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَة الضَّالَّةِ الْغَاوِيَةِ فَإِنَّهُمْ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ. . . وَإِمَّا مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ قَابَلُوا الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ وَالْكَذِبَ بِالْكَذِبِ وَالشَّرَّ بِالشَّرِّ وَالْبِدْعَةَ بِالْبِدْعَةِ فَوَضَعُوا الْآثَارَ فِي شَعَائِرِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَالِاكْتِحَالِ وَالِاخْتِضَابِ وَتَوْسِيعِ النَّفَقَاتِ عَلَى الْعِيَالِ وَطَبْخِ الْأَطْعِمَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِمِ فَصَارَ هَؤُلَاءِ يَتَّخِذُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مَوْسِمًا كَمَوَاسِمِ الْأَعْيَادِ وَالْأَفْرَاحِ. وَأُولَئِكَ يَتَّخِذُونَهُ مَأْتَمًا يُقِيمُونَ فِيهِ الْأَحْزَانَ وَالْأَتْرَاحَ وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ السُّنَّةِ. ([28])
قال ابن رجب رحمه الله: وأما اتخاذه مأتما كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنه فهو من عمل من ضلَّ سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما فكيف بمن دونهم. ([29])
* إننا لا ننازع في فضل الحسين رضي الله عنه ومناقبه، فهو من علماء الصحابة ومن سادات المسلمين في الدنيا والآخرة الذين عرفوا بالعبادة والشجاعة والسخاء، وهو ابن بنت قدوتنا وحبيبنا أشرف الخلق ﷺ، والتي هي أفضل بناته، وما وقع من قتله فأمر منكر شنيع يحزن كل مسلم، وقد انتقم الله عز وجل من قتلته، فأهانهم في الدنيا وجعلهم عبرة.
ولا ننازع في محبته ومحبة آل بيت رسول الله، ونشهد الله على حبهم وموالاتهم، بل ونصلي عليهم في صلواتنا، كيف لا وقد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا؟!
لكن الذي ينبغي عند ذكر مصيبة الحسين وأمثالها هو الصبر والرضا بقضاء الله وقدره، وأنه تعالى يختار لعبده ما هو خير، ثم احتساب أجرها عند الله تعالى، وليس اتخاذ المآتم من هدي دين
الإسلام، بل هو أشبه بفعل أهل الجاهلية.
والملاحظ أن مآتم مجوس هذه الأمة في عاشوراء لم ترتبط بأصل إسلامي من قريب أو بعيد، إذ لا علاقة لها بنجاة موسى عليه السلام ولا بصيام النبي، بل الواقع أنهم حولوا المناسبة إلى اتجاه آخر، وهذا من جنس تبديل دين الله عز وجل.
فاللهم اهدنا إلى الحق وإلى الطريق المستقيم
والحمد لله رب العالمين