الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد اللهﷺ، وبعد
فإن الإسلام قد حث على إتقان الصناعة فقال تعالى { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10-11]. أي: لَا تُدِقّ الْمِسْمَارَ فَيقلَق فِي الْحَلْقَةِ، وَلَا تُغَلّظه فَيَفْصِمَهَا، وَاجْعَلْهُ بِقَدَرٍ.
والإرهاب صناعة وهو على قسمين:
الأول: إرهاب مشروع بصريح القرآن: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ- وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 60-61].
فإن إخافة العدو الكافر المعاند لدعوة الله بالجهاد في سبيل الله وإرجافه بالعدة والقوة من مقاصد الجهاد الإسلامي، ليكف شره، وينتهي عن ظلمه، ولعله أن يهتدي إلى دين الله عز وجل
والثاني: إرهاب غير مشروع، بل هو محرم وممنوع: في تخويف الآمنين وإدخال الرعب والفزع عليهم، سواء كانوا مسلمين أو مستأمنين أو معاهدين أهل ذمة أو غيرهم وهذا لا شك في تحريمه باتفاقٍ، لكن القضية تكمن في كيفية علاجه وهذا لن يكون إلا بنزع أسباب الإرهاب والتطرف، وللأسف فإن دولاً تقوم على تصنيع الإرهاب بإتقان وعناية فائقة فإذا أردنا علاج الإرهاب فلا بد من معرفة الأسباب المؤدية إلى وقوع العنف والغلو والتطرف في البلاد وبين الشباب
وها هي أهم مقومات صناعته:
أولا: تنحية الشريعة عن كل مجالات الحياة
وهذا من أخطر أسباب ظهور الإرهاب فعندما يرى الشباب أن شريعتهم الربانية لا دخل لها في حياة الأمة لا في سياستها ولا في اقتصادها ولا في مناهج تعليمها فإن ذلك لا بد أن يولد حالة من اليأس والنقمة على المجتمع بكل أطيافه رئيسًا كان أو مرؤوسًا خاصة إذا رضي وتابع، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ’، زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: "لَا، مَا صَلَّوْا"، أَيْ مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ. ([1])
وضبط النفس عزيز عند المتحمسين ومن واجبات الإمام إظهار الشرعة المطهرة في المجتمع فإن لم يفعل فقد فتح باب التطرف والإرهاب وكلاهما قد تسبب في صناعة الإرهاب
ثانيا: إعراض الجماهير العريضة عن التدين
فقد تُعرض بعض المجتمعات عن الدين عبادة ومعاملة وخلقًا فلا تعرف من الدين إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه فتكثر المنكرات وتظهر الفواحش المستقبحات وتنتشر البدع المهلكات ويترك الأمر بالمعروف ويؤمر بالمنكرات وتنقلب موازين الحقائق ويتكلم في الأمر العظيم السفهاء فعندها تطيش الألباب وتقع الفوضى في المجتمعات
ثالثا: تسلط الكافرين والفاسقين على مقاليد الأمور
إذا رأى الشبابُ أهلَ الكفر والفسوق قد تسلطوا على مقدرات المسلمين وملكوا رقابهم وتقلدوا أعلى المراتب فإن ذلك من دواعي انزعاج الشباب الصالح وقد يفقد الصبر الذي أمر الله به في معاملة هؤلاء بالحكمة والموعظة الحسنة فعندها يتولد الشعور بأن الدين مهان ولا بد من تحرير الأوطان ورفع راية السنة والقرآن فيقع التطرف ويقوم له بنيان
رابعا: التضييق على أهل الدين والتوسعة على المارقين
نرى دولًا لا تعتز إلا بمنافقيها سفهاءها والبطالين فيها وفي المقابل تعامل الصالحين والنابغين معاملة العدو المحارب وكلاهما أبناء وطن واحد ويعيشون على تراب واحد لكن يُعلى من شأن أولئك البطالين ويوضع من شأن المتقين، يكرم أولئك ويهان ذالك، يسمع لأولئك وتصم الآذان عند ذالك
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَرضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا
الرُّوَيْبِضَةُ " قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: : " السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ "([2])
خامسا: فساد الآلة الإعلامية
فإن الإعلام غدا في الكثير من دول الإسلام من أعظم جنود الشيطان بل أصبح من خيله ورجله في الدعوة إلى الضلالة ونشر البدعة والزندقة وترويج الرّذيلة والفساد، وبالمقابل فإن إسهام الإعلام في نشر الحق والفضيلة يكاد ينعدم، وهذا غالبا ما يستفز الشباب الغيور على دينه إذ يرى في قنواته التي ينبغي أن تكون مصدر هداية ورشد أضحت مصدر إضلال وفتنة، فإذا اقترن ذلك بشيء من قلة العلم والحلم والصبر والحكمة، وغياب التوجيه الشرعي السليم، أدَّى ذلك بالضرورة إلى الصَّلف والقسوة في الأحكام والتعامل، وإلى الإحباط والتشاؤم واليأس عند بعضهم فيندفع إلى التغيير بعنف.
سادسا: ظلم الرعية
نصب الإمام واجب ومن واجباته أن يأخذ الرعية بالرفق والعدل فإن جار فلا بد أن ينحرف الصغار عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، فَقَالَتْ: كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا، إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ، وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ، فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لَا يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: "اللهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ"([3])
هذا وإن القضية أكبر من أن يتكلم عليها في أسطر ولا شك أن الإرهاب أسبابه كثيرة ومنها ما يعود على الفرد نفسه من الجهل والعصبية والتنطع في الدين والتحزب المقيت وعقد الولاء والبراء على رايات عُمِّية
لكنها إشارات هامة لعل الله يهدي بها من الضلالة وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه
أحمد بن سليمان