عن أبي هريرة رضي
اللَّه عنه قال: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:
" يا أيها الناس: إن اللَّه فرض عليكم الحج فحجوا
"
فقال رجل: أكل عام
يا رسول اللَّه؟.
فسكت حتى قالها
ثلاثًا.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "
لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم
بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم،
وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" رواه مسلم.
*
المفردات:
فقال رجل = فهو
الأقرع بن حابس رضي اللَّه عنه. لما أسلم كان من المؤلفة قلوبهم، وكان يغلب عليه
طابع البداوة، فيقال إنه نادى النبي صلى الله عليه وسلم
من وراء الحجرات بقوله يا محمد، وحسن إسلامه وشهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنينًا والطائف.
أكل عام يا رسول
اللَّه؟ = يعني فرض علينا كل سنة؟
ذروني = دعوني
واتركوني.
فأتوا منه ما
استطعتم = أي افعلوا منه ما تستطيعون فعله وما دمتم تقدرون على ذلك.
دعوه = اتركوه أو
تجنبوه. المعنى كان فرض الحج مسك الختام لأركان الإسلام الخمسة، ولما فرضه اللَّه
على المسلمين خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
إن اللَّه فرض عليكم الحج فحجوا.
وكان الأقرع بن
حابس التميمي الدارمى يتميز بجرأة أهل البداوة، وكان شريفًا في الجاهلية والإسلام،
ومات شهيدًا في موقعة اليرموك.
فلما خطب النبي صلى الله عليه وسلم سأله الأقرع هل الحج فرض علينا كل
عام؟
فلم يجبه الرسول صلى الله عليه وسلم لعله ينتهي عن سؤاله، فأعاد الأقرع
سؤاله للمرة الثانية: أكل عام يا رسول اللَّه؟
فسكت الرسول عليه
الصلاة والسلام، ولما كرر السؤال للمرة الثالثة أجابه النبي صلى الله عليه وسلم في غضب: لو قلت نعم لوجبت، أي لوجب
عليكم الحج كل عام، ولو وجب الحج كل عام لعجزتم عن أدائه لما فيه من مشقة وأسفار،
وحين ذاك تقعون في مخالفة كبيرة، ومشاقة لله ورسوله، وهذا إثم كبير. ثم نصحهم صلى الله عليه وسلم بقوله: دعوني ما تركتكم ولا تكثروا
من الأسئلة، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم.
ثم نزل قوله تعالى:
[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ
عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ....]
[المائدة: 101 ]
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيمًا بالأمة، وجه إليهم النصيحة
بقوله: إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا
نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وانتهوا عنه، لأنه لا ينهى عن شيء إلا إذا كان فيه
مضرة ومشقة، والدين يسر لا عسر.
والحج ركن من أركان
الإسلام، به تطهر النفوس، وتزكو الأجساد، ومن أجله يترك المؤمنون أوطانهم ويفارقون
ولدانهم لينالوا ما وعدوا به من عظيم الأجر والثواب، وتكفير الذنوب والآثام، على
لسان خير البشر: [ من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من
ذنوبه كيوم ولدته أمه ].
يقف الحجاج على
عرفات فتخلص قلوبهم مما ران عليها من الذنوب والأهواء، وتتجرد النفوس مما سيطر
عليها من غل وكراهية، فلا ينفرون من عرفات إلا أرواحًا نقية، تمكنت منها المعاني
السامية: من محبة وإخاء ومودة وصفاء.
ناهيك بحصول
المغفرة من اللَّه تعالى، إن حسنت النية وصلح العمل، وكانت النفقة من الحلال
الطيب، بالإضافة إلى الكسب المضاعف والربح العظيم الذي وعد به رب العالمين [ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ
يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا
كَانُواْ يَعْمَلُونَ ] [التوبة: 121].
لقد فرض اللَّه
الحج على المستطيع مرة واحدة في العمر، وما زاد فهو تطوع، وليس للحج جزاء إلا
الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم : [ الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ].
فأي
إكرام أفضل من هذا الإكرام؟
وأي
نوال أتم من هذا النوال؟
الجزاء
في الدنيا: توفيق من اللَّه
وبركة ورضوان، كما أن اللَّه يخلف عليه ما أنفقه لقوله تعالى: [ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ
وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ].
والجزاء
في الآخرة: جنة عرضها السموات
والأرض أعدت للمتقين.
ولم تكن الجزيرة
العربية حينما فرض الحج، قد تم تطهيرها من المشركين، فكانوا يطوفون بالبيت عراة
رجالاً ونساء، الرجال بالنهار والنساء بالليل.
وكانت المرأة
تقول:-
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا
أحله
فأنزل اللَّه قوله
الكريم: [ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ
كُلِّ مَسْجِدٍ ] ولما فرض اللَّه الحج بعث النبي صلى
الله عليه وسلم أبا بكر في السنة التاسعة ليحج بالناس فخرج في ثلاثمائة
رجل، وبعد خروج أبي بكر للحج نزلت سورة براءة، وفيها: [ إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَـذَا ] فبعث بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
علي بن أبي طالب يقرؤها على الناس، وأمره أن يبلغهم [ ألا
يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ].
وإنما امتنع رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الحج في هذه السنة
لما يعلم من أهل الجاهلية من إهلالهم بتعظيم أوليائهم من دون اللَّه، فيهتفون بغير
اسم اللَّه، أو يرى منهم عاريًا عند البيت ويسكت على هذه المناظر المؤذية فلا بد
أن يمنعهم، وقد يستغل شياطين الإنس والجن ذلك وينتهكون حرمة البيت والأشهر الحرم
وتنشأ الحرب والضرب والقتال، فامتناع النبي صلى الله عليه
وسلم عن الحج في تلك السنة اتقاء ذلك، حتى أعلنهم ببلاغ علي رضي اللَّه
عنه، فمن تعدى بعد ذلك فهو الجاني على نفسه. ثم حج النبي صلى
الله عليه وسلم حجة الوداع في السنة العاشرة في أكثر من تسعين ألفًا من
الصحابة.
وفي الحديث مشروعية
وجوب الحج على القادر زادًا وراحلة، ولا يجوز التأجيل والتسويف ما دام العبد قد
توفرت لديه القدرة البدنية والمالية، وإلا يعتبر آثمة إثمًا عظيمًا، لأن اللَّه
يهدد من استطاع الحج ولم يحج بأنه قريب من الكفر، بقوله تعالى: [ وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ].
كما أن الحديث ينهى
عن كثرة توجيه الأسئلة إلى العلماء لما يترتب عليها من عدم القدرة على الوفاء بها،
ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : [ إن اللَّه يرضى لكم ثلاثًا ويكره ثلاثًا........ ويكره لكم
قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ] كما يجب العمل بكل ما أمرنا به
الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يكلف اللَّه
نفسًا إلا وسعها، كما يتعين الانتهاء عن عمل ما نهانا عنه نبينا الكريم لما فيه من
مضرة لنا قال تعالى: [ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ].
وفقنا اللَّه للعمل
بدينه، ووفقنا للسير على منهج رسوله الكريم آمين.