باب الخطب المنبرية المكتوبة بعنوان [ الخطب المهمة لدعاة الأمة]

إعداد اللحنة العملية

إشراف ومراجعة

فضيلة الشيخ د/ صبري عبد المجيد

وفضيلة الشيخ / أحمد سليمان

خطبة بعنوان : فاستبقوا الخيرات

عناصر الخطبة

1-أهمية الوقت بالنسبة للإنسان

2- شكر الله أن بلغنا رمضان

3- فضل رمضان على سائر الشهور

4- الاستعداد للطاعة من عوامل تحقيقها

5- نماذج من الهمم العالية

6- نبذ البطالة والبطالين ومصاحبة ذوي الهمم العالية 

" name="description">

فاستبقوا الخيرات

2013-07-02

هاني الشيخ

فاستبقوا الخيرات

1-أهمية الوقت بالنسبة للإنسان

2- شكر الله أن بلغنا رمضان

3- فضل رمضان على سائر الشهور

4- الاستعداد للطاعة من عوامل تحقيقها

5- نماذج من الهمم العالية

6- نبذ البطالة والبطالين ومصاحبة ذوي الهمم العالية

أهمية الوقت بالنسبة للإنسان

أيها الإخوة الكرام: إن الإنسان في هذه الحياة الدنيا لن يعمَّر، ولن يبقى، فهو موجود من العدم، وصائر إلى العدم، وإن الساعات التي تمر بالإنسان في هذه الدنيا كأنها لحظات، بل هي لحظات: لحظة تتلوها لحظة، وهكذا إلى أن يصل الإنسان إلى آخر نهايته، وهذا أمر يشعر به كل واحدٍ منا.

قال ابن مسعود رضي الله عنه ت:32 ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي )

وعن مجاهد ت:103 قال: ما من يوم إلا يقول: ابن آدم قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم فانظر ماذا تعمل فيّ، فإذا انقضى طواه، ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذي يَفُضُّ ذلك الخاتم يوم القيامة، ويقول اليوم حين ينقضي: الحمد لله الذي أراحني من الدنيا وأهلها، ولا ليلةٍ تدخل على الناس إلا قالت كذلك.[1]

وعن الحسن البصري ت 110هـ قال: ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم، يقول: يا أيهال الناس: إني يوم جديد وإني على ما يُعمل فيّ شهيد، وإني لو قد غربت الشمس لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة. [2]

وعنه أنه كان يقول: يا ابن آدم اليوم ضيفك، والضيف مرتحل يحمدك أو يذمُّك، وكذلك ليلتك. [3]

لقد مضى على رمضان العام الماضي اثنا عشر شهراً برمضان، يعني: بعد رمضان أحد عشر شهراً كلها مضت، ومع ذلك فكأنها أحد عشر ساعة، وما هي إلا لحظات زالت، وهكذا أيضاً ما بقي من أعمارنا سوف يزول بهذه السرعة، إذاً فالواجب علينا -أيها الإخوة- أن ننتهز هذه الفرصة، أن ننتهز فرصة وجودنا في الدنيا حتى نعمل للآخرة، والعجب أن الذي يعمل للآخرة ينال الدنيا والآخرة، والذي يعمل للدنيا يخسر الدنيا والآخرة، لا أقول ذلك من عند نفسي ولكني أقول ذلك بكتاب الله، قال الله عز وجل: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل:97] الحياة الطيبة الدنيا { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل:97] في الآخرة.

أما عكس ذلك فاستمع: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } [الكهف:103-105]. حاسب نفسك وعد عيوبك.

فإذا علمنا هاتين الحقيقتين وهما: أولاً: سرعة الدنيا وزوالها، وأنها تمضي لحظة بعد أخرى، حتى يأتي الإنسان الموت، وعلمنا أيضاً أن الكاسب والرابح هو المؤمن، وأن من لم يكن مؤمناً عاملاً بالصالحات فهو خاسر، استدللنا لذلك بالواقع وبكتاب الله عز وجل، فإنه جدير بنا أن ننتهز فرصة وجودنا في هذه الدنيا لأننا لابد أن ننتقل، لابد أن نُذكر كما كنا نَذكر غيرنا، الذين كانوا من قبلنا وأدركناهم، كانوا يتحدثون كما نتحدث، ويخبرون كما نخبر، وأصبحوا الآن خبراً من الأخبار.

إذا فلننتهز هذه الفرصة لاسيما في المواسم، مواسم الخيرات التي جعلها الله لعباده، كالأسواق التجارية بل هي التجارة حقيقة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:10-11].

علينا أن ننتهز هذه الفرصة، رمضان متى يأتي؟ ربما يموت الإنسان قبل أن يدركه رمضان الثاني، كما تعلمون أن هناك أناساً كانوا معكم في العام الماضي الآن هم في قبورهم مرتهنون بأعمالهم، لا يملكون أن يزيدوا حسنة في حسناتهم ولا أن ينقصوا سيئة من سيئاتهم، هذا الذي مر عليهم ربما يمر عليك، بل قطعاً سيمر عليك، لكن ربما يمر عليك قبل أن يعود إليك رمضان.

شكر الله أن بلغنا رمضان

ينبغي أن نذكّر أنفسنا وإيّاكم بشكر الله تبارك وتعالى، يقول الله تعالى: ((فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)) [البقرة:152] .. أن تشكر الله تعالى الّذي وفّقك لبلوغ هذا الشّهر .. شهر الصّبر، شهر الطّاعة والشّكر، شهر الإنابة والذّكر .. فكم من قلوب اشتاقت وحنّت للقاء هذا الشّهر فانقطع بها القدر، وانقطع عنها الأثر .. صاروا اليوم في القبور واللّحود، وما عادوا من أهل الوجود ..

لذلك كان الصّحابة والتّابعون يسألون الله تعالى وصوله وبلوغه ..

لذلك ترى المؤمن لا يودّعه إلاّ وقلبه يحترق لوداعه .. فلعلّه لا يلقاه بعد عامه هذا ..

لذلك ترى المؤمنين في شوق وحينن إلى لقائه ..

قال يحيى بن أبي كثير رحمه الله ت 132 هـ: (كان من دعائهم: اللهمّ سلِّمني إلى رمضان، وسلِّم لي رمضان).

فتذكّر يا من أدركت هذا الشّهر أنّك في نعمة من الله إليك أسداها .. ومنّة منه عليك أولاها .. فالهج بلسان الحال والمقال شاكرا للكبير المتعال، عندئذ ترى أنّ الله ربّ العبيد، قد آذنك بالمزيد: ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)) [إبراهيم:7] ..

فضل رمضان على سائر الشهور

يقول ابن رجب رحمه الله (ت:795 ): وجعل الله سبحانه وتعالى لبعض الشهور فضلاً على بعض، كما قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36] وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } [البقرة: 197] وقال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] كما جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض، وجعل ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر، وأقسم بالعشر وهي عشر ذي الحجة على الصحيح (وما في هذه المواسم الفاضلة موسمٌ إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، يُترَّب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات.

فعنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللهِ، فَإِنَّ لِلهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ».[4]

وانظر كيف كان السلف يقولون إذا جاء رمضان:

يقول عبد العزيز بن مروان ت 80 هـ: كان المسلمون يقولون عند حضور شهر رمضان: اللهم قد أظلنا شهر رمضان، فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والقوة والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن.

وقال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر: أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر: أن يتقبله منهم.

وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: «اللهم سلِّمني إلى رمضان وسلم لي رمضان، وتسلَّمه مني متقبلا» .

الاستعداد للطاعة من عوامل تحقيقها

إن استحضار أنواع الطاعات وتقييدها وتوطين العزيمة على أدائها في رمضان من أهم ما يُستعدُّ له في هذا الشهر، وعلى هذا الأصل تحمل كل النصوص الواردة في فضل رمضان والاجتهاد فيه، فمعظمها صريح أو ظاهر في أنه قيل قبل رمضان أو في أوله.

ويمنّي بعض الخياليين نفسه بأماني العزيمة التي لا تعدو أن تكون سرابًا يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.

فنراه يحلم أحلامًا وردية بأن يجتهد في هذا الشهر اجتهادًا عظيمًا، وتراه يرسم لنفسه صور الحلال وأُبهة الولاية، فإذا ما هجم الشهر، قال المسكين: اليوم خمر، وغدًا أمر.

ولو أن هؤلاء كانت لهم قبل شهر رمضان جولات في ميادين الاجتهاد في الطاعة لأنسوا من نفوسهم خيرًا لكنهم طمعوا في نوال

القُرب ولما يستكملوا زاد المسير كمثل من ذهب إلى السوق بلا مال فلا يجهد إذا نفسه في المساومة بل يقال له: تنكب لا يقطرك الزحام.

لما قال أنس بن النضر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة بدر: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، والله لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، ثم رووا لنا أنهم وجدوه في أحُد صريعًا به بضع وستون ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، علمنا ما أضمر الرجل. [5]

ولما قال ذلك الصحابي: يا رسول الله ما بايعتك إلا على سهم يدخل ههنا فأدخل الجنة، قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن تصدُق الله يصدقُكُ" ثم رووا أن السهم دخل من موضع إشارته، علمنا ما عزم عليه الرجل.[6]

على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغُر في عين العظيم العظائم

الإعداد للطاعة ومحاسبة النفس عليها

إن كثير من الناس يعقد الآمال بفعل جملة من الطاعات في شهر رمضان فإذا ما أتى الشهر (أصبح خبيث النفس كسلان) وذلك لأنه لم يحل عقدة العادة والكسل والقعود. ولأنه ما عقد العزم ولا شحذ الهمة والعزيمة لغتنام هذا الشهر،

والعزيمة لا تكون إلا فيما لا تألفه النفوس أو لا تحبه فتحتاج النفس إلى المجاهدة في معرفة فضل ذلك العمل المكروه إليها ثم في مجاهدة وإرادات العجز والكسل، ولذلك قال الله عن الجهاد: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]

وتمارين العزيمة من صميم القيام بحق شهر رمضان وتحصيل المغفرة فيه لأنه لا قوة للنفس ما لم تُعد العدة للطاعة قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ } [التوبة: 46]

نماذج من الهمم العالية

لقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم على السفاسف فلا تراهم إلا صوامين قوامين، باكين والهين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشي بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفًا من عباراتهم وعباداتهم التي تدل على تشميرهم وعزيمتهم وهمتهم:

قال الحسن: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره.

وقال وهيب بن الورد: إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل

وقال الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني: ما بلغني عن أحد من الناس أنه تعبد عبادة(شرعها الله) إلا تعبدت نظيرها وزدت عليه.

وقيل لنافع: ما كان ابن عمر يفعل في منزله؟ قال: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما.

وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة الجماعة صام يومًا، وأحيا ليلة، وأعتق رقبة.

واجتهد أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - قبل موته اجتهادًا شديدًا، فقيل له: لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق؟ فقال: عن الخيل إذا أُرسلت فقاربت رأسَ مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلها أقلُّ من ذلك، قال: فلم يزل على ذلك حتى مات.

وعن قتادة قال: قال مورق العجلي: ما وجدت للمؤمن في الدنيا مثلاً إلا مثل رجلٍ على خشبة في البحر، وهو يقول: "يا رب يا رب" لعل الله أن ينجيه.

وكان من يرى سفيان الثوري يراه كأنه في سفينة يخاف الغرق، أكثر ما تسمعه يقول: "يا رب سلّم سلّم".

وعن جعفر: دخلنا على أبي التياح نعوده، فقال: والله إنه لينبغي للرجل المسلم أن يزيده ما يرى في الناس من التهاون بأمر الله أن يزيده ذلك جدًا واجتهادًا، ثم بكى.

وعن فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: ما رأيت أحدًا أكثر صلاة ولا صيامًا منه ولا أحدًا أشد فرقًا من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه ثم ينتبه فلا يزال يبكي تغلبه عيناه، ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينفض العصفور من الماء ويجلس يبكي فأطرح عليه اللحاف.

وعن المغيرة بن حكيم قال: قالت فاطمة بنت الملك: يا مغيرة، قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاة وصيامًا من عمر ابن عبد العزيز ولكني لم أر من الناس أحد قط كان أشد خوفًا من ربه من عمر، كان إذا دخل البيت ألقى نفسه في مسجده، فلا يزال يبكي ويدعو حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ فيفعل مثل ذلك ليلته جمعاء.

وعن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع أنه دخل على فاطمة بنت عبد الملك فقال: ألا تخبريني عن عمر؟ قالت: ما أعلم أنه اغتسل من جنابة ولا احتلام منذ استُخلِف.

وكان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة، ويصوم في الحر حتى يخضر جسده ويصفر، فكان علقمة بن قيس يقول له: لِمَ تعذب نفسك؟ فيقول: كرامتها أريد، وكان يصوم حتى يخضر جسده ويصلي حتى يسقط، فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا له: إن الله عز وجل لم يأمرك بكل هذا، فقال: إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئًا إلا جئت به.

وعن أحمد بن حرب قال: يا عجبًا لمن يعرف أن الجنة تُزيَّن فوقه والنار تُسَعَّرُ تحته كيف ينام بينهما؟

وكان أبو مسلم الخولاني قد علق سوطًا في مسجد بيته يخوّف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفن بك زحفًا، حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا دخلت الفترة (الفتور) تناول سوطه وضرب به ساقه، وقال: أنت أولى بالضرب من دابتي، وكان يقول: أيظن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله لُتُزاحمَنَّهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً.

وكان منصور بن المعتمر إذا رأيته قلت: رجلٌ أصيب بمصيبة، منكسر الطرف، منخفض الصوت، رطْب العينين، إن حركته جاءت عيناه بأربع، ولقد قالت له أمه: ماذا الذي تصنع بنفسك؟ تبكي الليل عامته لا تسكت؟ لعلك يا بني أصبتّ نفسًا، لعلك قتلت قتيلاً، فيقول: يا أماه، أنا اعلم بما صنعت نفسي.

وكان صفوان بن سليم قد تعقدت ساقاه من طول القيام، وبلغ من الاجتهاد ما لو قيل له: القيامة غدًا ما وجد مزيدًا، وكان يقول: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي.

وعن موسى بن إسماعيل قال: لو قلت لكم إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكًا قط صدقْتُكم، كان مشغولاً بنفسه، إما أن يحدث وإما أن يقرأ وإما أن يسبح وإما أن يصلي، كان قد قسم النهار على هذه الأعمال.

وعن وكيع قال: كان الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة فما رأيته يقضي ركعة.

وعن حماد بن سلمة قال: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعًا، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصليًا، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوطئًا أو عائدًا أو مشيعًا لجنازة أو قاعدًا في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله عز وجل.

فهؤلاء هم أنموذج السالكين الصادقين.

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح

وهذه كانت سيرتهم في مجاهدة النفس ومغالبة الهوى فاستحضرها عند هبوب ريح الكسل وسل الله حسن العمل.

نبذ البطالة والبطالين ومصاحبة ذوي الهمم العالية

ليس هناك أشأم على السائر إلى الله من البطالة وصحبة البطالين، فالصاحب ساحب، والقرين بالمقارّن يقتدي.

(والبرهان الذي يعطيه السالكون علامة لصدقهم أنهم يأبون غلا الهجرة والانضمام إلى القافلة ويذرون كل رفيق يثبطهم ويزين لهم إيثار السلامة، ينتفضون ويهجرون كل قاعد، ويهاجرون مع المهاجرين إلى الله، ويطرحون أغلال الشهوات وحب الأموال عن قلوبهم).

ولما أراد قاتل المائة أن يتوب حقًا قيل له: اترك أرضك فإنها أرض سوء واذهب إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم. [7]

فلابد لمن أراد تحصيل المغفرة من شهر رمضان أن يترك المُخْلِدين إلى الأرض ويزامل ذوي الهمم العالية كما قال الجنيد: سيروا مع الهمم العالية.

وقد أمر الله خير الخلق - صلى الله عليه وسلم - بصحبة المجدّين في السير إلى الله

وترك الغافلين فقال عز من قائل : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف: 28]0

وقال عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15]

وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]

فلو صحب الإنسان من يظنون أن قيام الساعة من الليل إنجاز باهر فهو مغبون لن يعْدُو قدره، بل سيظل راضيًا عن نفسه مانًّا على ربه بتلك الدقائق التي أجهد نفسه فيها ولكنه لو رأى الأوتاد من حوله تقف الساعات الطوال في تهجد وتبتل وبكاء (وهم مُتَقَالُّونْهَا) فأقل أحواله أن يظل حسيرًا كسيرًا على تقصيره مرددًا.

وقال شعبة بن الحجاج البصري أمير المؤمنين في الحديث: لا تقعدوا فُراغًا فإن الموت يطلبكم.

وقال الشافعي: طلب الراحة في الدنيا لا يصح لأهل المروءات، فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان.

وقيل لأحد الزهاد: كيف السبيل ليكون المرء من صفوة الله؟ فقال: إذا خلع الراحة وأعطى المجهود في الطاعة.

وقيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم يضعها في الجنة.

أما البحث عن ذوي الهمم والمروءات وأصحاب السرِّ مع الله

فهي بُغية كل مخلص في سيره إلى الله، قال زين العابدين: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه.

وقال الحسن البصري: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يُذّكّروننا بالدنيا وإخواننا يُذّكّروننا بالآخرة، قال شاعر:

لعمرك ما مالُ الفتى بذخيرة ولكنَّ إخوان الثقات الذخائرُ

وكان من وصايا السلف انتقاء الصحة، قال الحسن البصري: إن لك من خليلك نصيبًا، وإن لك نصيبًا من ذكر من أحببت، فاتقوا الإخوان والأصحاب والمجالس.

فاجتهد أيها الأريب باحثًا عن أعوان المسير أصحاب الهمم العالية، ابحث عنهم في المساجد بالضرورة، اسأل عنهم في مجالس التقاة، لا تستبعد المفاوز لتصل إليهم ولو اقتضى الأمر أن تعلن في الصحف السيارة.

(مطلوبٌ : معينٌ على الخير في شهر رمضان)

يا له من إعلان ..

مع هذه الصحبة تتحاثون على تدارك الثواني والدقائق، تحاسبون أنفسكم على الزفرات والأوقات الغاليات، لو فرط أحدكم في صلاة الجماعة وجد من يستحثه على عقاب نفسه كما كان يفعل ابن عمر.

ترى البطالين يصلون التراويح سويعة ثم يسهرون ويسمرون وتضيع عليهم صلاة الفجر { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا }.

لا أيها الرشيد، تعال أخبرْك بحال من اجتمعوا على السير إلى الله: أوقاتهم بالذكر وتلاوة القرآن معمورة، مساجدهم تهتز بضجيج البكاء من خشية الله، تراهم ذابلين من خوف الآخرة، وعند العبادة تراهم رواسي شامخات كأنهم ما خلقوا إلا للطاعة، ليس في قاموسهم: فاتتني صلاة الجماعة، دع عنك أصل الصلاة، تراهم في قيامهم وقعودهم مطأطئين على حياء من الله يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.



[1]الزهد لابن أبي الدنيا (ص: 183)

[2]الزهد لابن أبي الدنيا (ص: 186)

[3]الزهد لابن أبي الدنيا (ص: 187)

[4]أخرجه الطبراني في الكبير (720). وحسّنه الالباني في الصحيحة (1890)

[5]حيح البخاري (4/ 19)

[6]صحيح صححه الألباني في سنن النسائي 1953، وصَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 1336

[7]متفق عليه

عدد المشاهدات 14134