من البيوع المنهي عنها - بيع العينة / بيع العربان / مطل الغني-
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فلا يزال حديثنا موصولاً عن البيوع والمعاملات التي نهى عنها رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ، فنقول مستعينين
بالله:
13 - بَيْعَ
الْعِينَةِ
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “ مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا
فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوفِيَهُ “.
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في أربعة مواضع من كتاب البيوع من
صحيحه بالأرقام: (2124، 2126، 2133، 2136)، كما أخرجه الإمام مسلم (1527)، وفي
البيوع (34، 37)، وأخرجه الإمام أبو داود في البيوع (3492، 3495)، والإمام النسائي
في البيوع (499 - 4600)، والإمام أحمد في المسند (2 / 111)، والإمام مالك في
الموطأ (640).
شــرح الحـديث
المراد ببيع العينة:
هو بيع المقصود منه أن يكون صلة للقرض بالربا.
وصورته: أن يبيع شخص سلعة بثمن آجل ولم يقبض، ثم يشتريه في نفس الوقت
من المشتري بثمن حالٍّ أقل من الثمن الذي باعه به أو إلى أجل آخر كذلك، وفي نهاية
الأجل المحدد في العقد الأول يدفع الثمن الأول كله، والمراد منه أن يحصل المشتري
على قرض من البائع، فيكون القرض بين الثمن الآجل والحال هو الزيادة الربوية،
يستفيد منها صاحب المتاع الأول الذي باعه بيعًا صوريًا لا حقيقة له.
ومثال ذلك أن يبيع شخص لآخر جهازًا أو نحوه من السلع بألف مثلاً
مؤجلاً إلى عام أو أقل أو أكثر، ثم يبيع المشتري هذا الجهاز نفسه إلى بائعه الأول
بثمانمائة تدفع حالاً إلى المشتري الأول، وفي نهاية الأجل المحدد بينهما لدفع
الثمن في العقد الأول يدفع المشتري الثمن كاملاً، فيكون الفرق بين الثمنين الألف
والثمانمائة ربًا لصاحب الجهاز الذي يبيع بيعًا صوريًا، وهكذا نرى أن الصفقة عبارة
عن تحايل على الإقراض عن طريق البيع والشراء.
وربما وسَّط المتعاقدان بينهما شخصًا ثالثًا يقوم بعملية الشراء
للعين بثمن حالٍّ من مريد الاقتراض بعد أن اشتراها من مالكها المقرض، ثم يبيعها
للمالك الأول الذي باعها بالثمن الأول، فيكون الفرق ربًا له.
هذا، وقد اختلف العلماء في الحكم على هذه الصورة الأخيرة:
فعند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -: أنه عقد فاسد إن خلا من توسط
شخص ثالث بين المالك المقرض والمشتري المقترض، وهنا خالف أبو حنيفة أصله الذي
يقتضي القول بصحة هذا العقد، وذلك استحسانًا؛ لأن الثمن إذا لم يستوف لم يتم البيع
الأول، فيصير البيع الثاني مبنيًا عليه، فليس للبائع الأول أن يشتري ممن لم يمتلكه
بعد، فيكون البيع الثاني فاسدًا.
وأما أبو يوسف فقال: هذا البيع صحيح بلا كراهة، وقال محمد بن الحسن:
إنه صحيح مع الكراهة حتى إنه قال: هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم، اخترعه
أكلة الربا.
وأما الشافعي - رحمه الله تعالى - فعنده هذا العقد صحيح مع الكراهة ؛
لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول الصحيحان، ولا عبرة في إبطال العقد بالنية التي
لا نعرفها ؛ لعدم وجود ما يدل عليها ؛ أي أن القصد الآثم لا يعرفه إلا الله تعالى،
والحكم على ظاهر العقد شيء آخر، لذا فإنه يحمل العقد على عدم التهمة.
وأما المالكية والحنابلة فإن هذا العقد عندهم يقع باطلاً سدًا
للذرائع، ولما روي من قصة زيد بن أرقم رضي الله عنه مع أم المؤمنين عائشة رضي الله
عنها، وهي: أن العالية بنت أيفع قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على
عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلامًا من زيد بن أرقم
بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم (أي حالَّة)، فقالت عائشة
رضي الله عنها: بئسما شَرَيْتِ وبئسما اشْترَيْتِ، أبلغي زيدًا أنه أبطل جهاده مع
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن لم يتب، كما
استدلوا بحديث: “ إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب
البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً فلا يرفعه حتى يراجعوا
دينهم “. واستدلوا أيضًا من جهة المعقول بالقياس على الذرائع المجمع على منعها
بجامع أن الأغراض الفاسدة في كل منها هي الباعثة على عقدها، لأنه المحصل لها.
قال أبو عمر بن عبد البر: وتفسير ما ذكره مالك وغيره في ذلك أنها
ذريعة إلى دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، ودنانير بدنانير أكثر منها إلى أجل.
وهكذا نرى أن التحايل على الربا واضح في صورة العينة، وقد حذر منه
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وبيَّن لنا أن
هذه الصور المنهي عنها إذا تعامل الناس بها فإن الله تعالى ينزل بهم البلاء،
والمسلمون تنزل بهم البلايا والفتن من غلاء العيش وضنكه وضيق الصدور، وظهور
الأوجاع والأمراض وانتشارها، وتسلط الأعداء عليهم، ونزول الذل بهم، وذلك بسبب
الإعراض عن دين الله تعالى، وعدم المبالاة بالمكاسب.
ولقد بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن
هذا البلاء لن يُرْفَعَ حتى يرجع الناس إلى دينهم، والله تبارك وتعالى بيَّن لنا
في كتابه العزيز أن ما يصيب الناس إنما يكون بسبب ما كسبت أيديهم من المخالفات
الشرعية، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى].
وشرع الله تعالى فيه الحلول التي تحول بين الناس وبين المحرمات، فمن
ابتاع ذهبًا بذهب أو غيره من الأصناف الربوية وجب عليه فيه التماثل والتقابض، ومن
اشترى جنسًا منها بجنس آخر، وجب فيه التقابض وانتفى إيجاب المثلية، وعلى تجار
الذهب ألا يتعاملوا بمبادلة الذهب بالذهب مع الزيادة، وقد أوجد لهم الشرع الحل في
أن يشتري التاجر ممن أراد البيع ذهبه ويعطيه ثمنه، ومن ثم يشتري بنقوده ذهبًا
فتكون صفقة غير الصفقة، كما قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في التمر: “ بع الجمع بالدرهم واشتر بالدراهم جنيبًا “.
وفي هذه الصورة - صورة العينة - نجد الرسول -صلى
الله عليه وسلم- ينهى المسلم أن يبيع ما اشتراه قبل أن يقبضه. قال أبو عمر
بن عبد البر بعد ما ساق النصوص وأقوال الفقهاء في المسألة:
وتفسير ما ذكرنا في العينة:
فأما لفظ نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : “ من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى
يستوفيه “. ولفظ عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- : “ من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه “. فالمعنى في ذلك
سواء، لأن الاستيفاء بالكيل والوزن هو القبض لما يكال أو يوزن.
14 - بيع
العُرْبَانِ
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الْعُرْبَانِ.
هذا الحديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ (609)، وأخرجه الإمام أبو
داود في البيوع باب في بيع العربان برقم (3502)، والإمام ابن ماجه في التجارات باب
بيع العربان برقمي (2192، 2193)، وكذا رواه الإمام أحمد في المسند (2 / 183).
شــرح الحـديث
قال أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار: قال مالك: وذلك فيما نرى -
والله أعلم - أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة، أو يتكارى الدابة، ثم يقول للذي
اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا أو أكثر من ذلك أو أقل، على أني
إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك من ثمن السلعة أو من كراء
الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك. اهـ.
وكذا ذكره عن الإمام مالك أبو داود في سننه عقب روايته للحديث. وهذا
تفسير الإمام مالك لهذا الحديث. وقد ذكر الإمام أبو عبد الله بن ماجه في سننه عقب
الحديث قال: العربان أن يشتري الرجل دابة بمائة دينار، فيعطيه دينارين عربونًا،
فيقول: إن لم أشتر الدابة فالديناران لك، قال: وقيل: يعني - والله أعلم - أن يشتري
الرجل الشيء فيدفع إلى البائع درهمًا أو أقل أو أكثر، ويقول: إن أخذته، وإلا
فالدرهم لك.
وهكذا نرى أن العُرْبانَ هو العَرْبون، ونرى كذلك أن صورته ما يقع
بين الناس في تبايعهم، من أن يشتري الشخص شيئًا فيدفع إلى البائع جزءًا من الثمن
مقدمًا، فإن أتم البيع دفع بقية الثمن، وإن رد البيع فَقَدَ العربون، فيكون حينئذٍ
الخيار للمشتري دون البائع.
وحُكْمُه:
الجمهور على أنه بيع ممنوع غير صحيح ؛ وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه، ولأنه من باب المخاطرة
وفيه نوع من الغرر، وأكل المال بغير عوض، قالوا: ولأن فيه شرطين فاسدين: أحدهما
شرط الهبة، والثاني شرط الرد على تقدير ألا يرضى، ولأنه شَرَطَ للبائع شيئًا بغير
عوض فلم يصح، كما لو شرطه لغير البائع.
وقالوا أيضًا: لأنه بمنزلة الخيار المجهول ؛ فإنه اشترط أن يكون له
أن يرد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح.
وعند الإمام أحمد أنه لا بأس به، ودليله ما أخرجه عبد الرزاق
الصنعاني في مصنفه من حديث زيد بن أسلم “ سُئل رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- عن العربان في البيع فأحله “. وما روي فيه عن نافع بن عبد
الحارث: أنه اشترى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة
آلاف درهم، فإن رضي الله عمر، كان البيع نافذًا، وإن لم يرض فلصفوان أربعمائة
درهم، وضَعَّف الإمام أحمد الحديث المروي في بيع العربان.
قال أبو عمر بن عبد البر: وأما قول مالك في تفسير ذلك فعليه جماعة
فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين، منهم الشافعي والثوري وأبو حنيفة
والأوزاعي والليث بن سعد وعبد العزيز بن أبي سلمة ؛ لأنه من بيع الغرر والمخاطرة،
وأكل المال بغير عوض ولا هبة وذلك باطل. قال: وبيع العربان على ذلك منسوخ عندهم
إذا وقع قبل القبض وبعده، وترد السلعة إن كانت قائمة، فإن فاتت (أي اسْتُهْلكَتْ)
رد قيمتها يوم قبضها، ويَرُدُّ على كل حال ما أخذ عُرْبَانًا في الشراء والكراء.
قال أبو عمر بن عبد البر: وقد رُوِيَ عن قوم من التابعين منهم ؛
مجاهد وابن سيرين ونافع بن عبد الحارث وزيد بن أسلم أنهم أجازوا بيع العربان على
ما وصفنا. قال: وذلك غير جائز عندنا. وكان زيد بن أسلم يقول: أجازه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
قال أبو عمر: وهذا لا نعرفه عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- من وجه يصح. قال: ويحتمل أن يكون بيع العربان الذي أجازه
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو صح عنه أن يجعل
العربان عن البائع من ثمن سلعته إن تم البيع وإلا رده، وهذا وجه جائز عند الجميع.
ثم قال: قال مالك في الرجل يبتاع ثوباً من رجل فيعطيه عربانًا على أن يشتريه، فإن
رضيه أخذه، وإن سخطه رده وأخذ عربانه،إنه لا بأس به. قال أبو عمر: لا أعلم في هذا
خلافًا، قال: وفي اتفاقهم على هذا دليل على أن المعنى في النهي عن بيع العربان ما
قاله مالك والجماعة التي ذكرناهم من العلماء معه على ما تقدم ذكره.
قال أبو عمر: إن وقع بيع العربان الفاسدُ فُسِخَ، وردَّت السلعة إلى
البائع والثمن للمشتري.
15 - مَطْلُ
الْغَنِيِّ
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: “ مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ وإذا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ
على مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ “.
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في كتاب الحوالات من صحيحه باب
الحوالة وهل يرجع في الحوالة برقم (2287)، وفي باب إذا أحال على عليٍّ فليس له رد،
برقم (2288)، وفي كتاب الاستقراض وأداء الديون باب (مطل الغني ظلم) برقم (2400)،
كما أخرجه الإمام مسلم في كتاب المساقاة باب تحريم مطل الغنيِّ وصحة الحوالة،
واستحباب قبولها إذا أحيل على مليٍّ برقم (1564). والإمام أحمد في المسند برقم (2
/ 463)، والإمام مالك في الموطأ برقم (674)، وأبو داود في البيوع برقم (3345)،
والترمذي في البيوع باب في مطل الغني أنه ظلم برقم (1308)، والنسائي في البيوع باب
الحوالة برقم (4695)، وابن ماجه في الصدقات باب الحوالة برقم (2403).
شـرح الحـديث
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قوله: “ مَطْلُ الغني ظلم “. وفي رواية
ابن عيينة عن أبي الزناد عند النسائي وابن ماجه: “ المطل ظلم الغني “، والمعنى أنه
من الظلم، وأطلق ذلك للمبالغة في التنفير عن المطل، وقد رواه الجوزقي من طريق همام
عن أبي هريرة بلفظ: “ إِنَّ مِنَ الظُّلْمِ مَطْلَ الْغَنِيِّ “، وهو يفسر الذي
قبله.
قال: وأصل المَطْلِ المَدُّ، قال ابن فارس: مطلت الحديدة أمطلها
مطلاً، إذا مددتها لتطول، وقال الأزهري: المطل المدافعة، والمراد هنا تأخير ما
استُحِق أداؤه بغير عذر. والمراد بالغني هنا من قدر على الأداء فأخره ولو كان
فقيرًا، قال: وهل يتصف بالمطل من كان القدر المطالب به ليس حاضرًا عنده لكنه قادر
على تحصيله بالتكسب مثلاً ؟
أورد ابن حجر للشافعية فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون ماطلاً ويجب
عليه تحصيل ما استحق عليه، والثاني عدم الوجوب، والقول الثالث التفصيل بين أن يكون
أصل الدين وجب بسبب يعصى به فيجب وإلا فلا.
قال: وقوله: “ مطل الغني “ من إضافة المصدر للفاعل عند الجمهور،
والمعنى: أنه يحرم على الغني القادر أن يماطل بالدين بعد استحقاقه، بخلاف العاجز،
وقيل: هو من إضافة المصدر للمفعول، والمعنى: أنه يجب وفاء الدين ولو كان مستحقه
غنيًا، ولا يكون غناه سببًا لتأخير حقه عنه، وإذا كان كذلك في حق الغني فهو في حق
الفقير أَوْلى، قال: ولا يخفى بُعْدُ هذا التأويل.
أقول: ولا مانع من شمول الحديث للمعنيين. والله أعلم.
قال الحافظ: وفي الحديث الزجر عن المطل، واختلف؛ أَيُعَدُّ فِعْلُهُ
كبيرةً أم لا ؟ فالجمهور على أن فاعله يفسق، لكن أيثبت فسقه بمطله مرة واحدة أم
لا؟ قال النووي: مقتضى مذهبنا اشتراط التكرار، ورده السبكي في “ شرح المنهاج “ بأن
مقتضى مذهبنا عدمه، واستدل بأن منع الحق بعد طلبه وابتغاء العذر عن أدائه كالغصب،
والغصب كبيرة من الكبائر، وتسميته ظلمًا يشعر بكونه كبيرة، والكبيرة لا يشترط فيها
التكرار. نعم لا يحكم عليه بذلك إلا بعد أن يظهر عدم عذره. انتهى كلام السبكي.
قال الحافظ: واختلفوا أيفسق بالتأخير مع القدرة قبل الطلب أم لا ؟
فالذي يشعر به الحديث التوقف على الطالب لأن المطل يشعر بذلك. ويدخل في المطل كل
من لزمه حق كالزوج لزوجته، والسيد لعبده والحاكم لرعيته، وبالعكس.
قال: واسْتُدِلَّ به على أن العاجز لا يدخل في الظلم، وهو بطريق
المفهوم ؛ لأن تعليق الحكم بصفة من صفات الذات يدل على نفي الحكم عن الذات عند
انتفاء تلك الصفة، ومن لم يقل بالمفهوم أجاب بأن العاجز لا يسمى ماطلاً، كما استدل
به أيضًا على أن الغني الذي ماله غائب عنه لا يدخل في الظلم، واستنبط منه بعض
العلماء أن المعسر لا يحبس ولا يطالب حتى يوسر.
قال أبو عمر بن عبد البر: إنما يكون المطل من الغني إذا كان صاحب
الدين طالبًا لدينه راغبًا في أخذه، فإذا كان الغريم (أي المدين) مليئًا غنيًا
ومطله وسَوَّفَ به فهو ظالم له، والظلم محرم كثيره وقليله، وقد أتى الوعيد الشديد
في الظالمين بما يجب أن يكون كل من فَقِهَهُ عن قليل الظلم وكثيره منتهيًا. وإن
كان الظلم ينصرف على وجوه بعضها أعظم من بعض. قال: وأعظمها الشرك بالله عز وجل،
قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. وقال تعالى: {وَقَدْ
خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111]. وقال سبحانه: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ
نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19]،
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه
قال حاكيًا عن الله تبارك وتعالى: “ يا عبادي إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم
محرمًا فلا تظالموا “. [مسلم: 2577].
قال: ومن الدليل على أن مطل الغني ظلم محرم موجب للإثم ما ورد به
الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- استحلال
عرضه، والقول فيه، ولولا مطله لم يحل منه ذلك، قال الله عز وجل: {لاَ يُحِبُّ
اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : “ لَيُّ
الواجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ “. [أخرجه الإمام أحمد في المسند (4 / 389)،
وأبو داود والنسائي وابن ماجه].
الليي: المطل، والواجدِ: الغني.
قال أبو عمر: فمعنى قوله: “ يحل عرضه “ أي: يحل من القول منه ما لم
يكن يحل لولا مطله وليه.
ومعنى “ وعقوبته “: قالوا: السجن حتى يُؤَدِّي أو يُثْبِتَ
عُسْرَتَهُ، فيجب حينئذٍ نظره.
وروى أبو عمر بسنده إلى سحنون بن سعيد قال: إذا مطل الغني بدين عليه
لم تجز شهادته ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سماه
ظلمًا.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا والمسلمين الحلال الطيب ويبارك لنا فيه،
وأن يباعد بيننا وبين الحرام الخبيث بُعد ما بين المشرقين، وأن يهدينا لأحسن
الأخلاق والأعمال والأقوال. وأن يُباعد بيننا وبين سيئها، وأن يرفع عن المسلمين
الغلاء والوباء والمحن والفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.